أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُزْءُ الرَّابِعُ















المزيد.....



نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُزْءُ الرَّابِعُ


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8404 - 2025 / 7 / 15 - 22:19
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ هَلْ سَيُّقَلِصُ التَّقَدُّمُ التِّكْنُولُوجْيّ مِنْ وَكَالَةِ الْإِنْسَانِ؟

إنْ التَّسَاؤُل حَوْلَ مَا إذَا كَانَ التَّقَدُّمُ التِّكْنُولُوجْيّ، وَخَاصَّةً الِإعْتِمَاد الْمُتَزَايِدِ عَلَى خُوَارِزْمَيات الذَّكَاءُ الِإصْطِنَاعِيّ، سَيُّقَلِصُ مِنْ وَكَالَةِ الْإِنْسَانِ (Human Agency) أَوْ قُدْرَتِهِ عَلَى إتِّخَاذِ الْقَرَارَات الْحُرَّة وَالْمَسْؤُولَة، هُوَ أَحَدُ أَهَمّ وَأَلَحّ التَّحَدِّيَات الْفَلْسَفِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة فِي عَصْرِنَا. هُنَاك حِجَج قَوِيَّة تُشِيرُ إلَى أَنْ هَذَا مُمْكِنٌ، خَاصَّةً إذَا لَمْ نَكُنْ حَذِرِين فِي كَيْفِيَّةِ دَمْج الذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ فِي حَيَاتِنَا
1. أَتْمَّتَة إتِّخَاذ الْقَرَار (Automation of Decision-Making): عِنْدَمَا نَعْتَمِد بِشَكْل مُتَزَايِد عَلَى الذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ لِاِتِّخَاذ الْقَرَارَات فِي مَجَالَاتِ مِثْل الصِّحَّة، التَّمْوِيل، الْقِيَادَة الذَّاتِيَّة، وَحَتَّى التَّوْصِيات الشَّخْصِيَّةُ، فَإِنَّنَا قَدْ نُسَلِّم جُزْءًا كَبِيرًا مِنْ مَسْؤُولِيَّةٍ إتِّخَاذ الْقَرَار لِهَذِه الأَنْظِمَة. قَدْ نُصْبِح أَقَلّ مَهَارَةٌ فِي إتِّخَاذِ الْقَرَارَات الْمُعَقَّدَة بِأَنْفُسِنَا، أَوْ قَدْ نَفْقِد الْقُدْرَةِ عَلَى فَهْمِ الْأَسَاس الْمَنْطِقِيّ وَرَاء قَرَارَات الذَّكَاءُ الِإصْطِنَاعِيّ (مُشْكِلَة الصُّنْدُوق الأَسْوَد).
2. التَّأْثِيرُ عَلَى الْإِرَادَةِ الْحُرَّة: خُوَارِزْمَيات الذَّكَاءُ الِإصْطِنَاعِيّ قَادِرَةً عَلَى تَحْلِيلِ كَمِّيَّات هَائِلَة مِنْ الْبَيَانَاتِ لِلتِّنَبُؤْ بِسُلُوكِيَّاتِنَا وَتَفْضِيلاَتِنَا وَالتَّأْثِيرُ عَلَيْهَا. هَذَا قَدْ يُؤَدِّي إلَى تَلَاعُب دَقِيق بِإِرَادَتِنَا الْحُرَّةِ دُونَ أَنْ نُدْرِكَ ذَلِكَ بِالْكَامِل. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، التَّوْصِيات الَّتِي تُقَدِّمُهَا مَنَصَّات التَّوَاصُلِ الِإجْتِمَاعِيِّ أَوْ التَّسَوُّق قَدْ تَوَجَّهَ خِيَارَاتٍنَا بِطُرُقٍ تُقَوِّضُ إسْتِقْلَالِيَّتَنَا. هَلْ نَحْنُ حَقًّا نَخْتَار بِحُرِّيَّة عِنْدَمَا تَكُونُ خِيَارَاتٍنَا مُصَمَّمَة وَمُوَجِّهَة بِوَاسِطَة أَنْظِمَة تَعْرِفُ عَنَّا أَكْثَرَ مِمَّا نَعْرِفُ عَنْ أَنْفُسِنَا؟
3. إزَاحَةً الْمَسْؤُولِيَّة (Diffusion of Responsibility): إذَا حَدَثَ خَطَأٌ مَا فِي نِظَامِ آلِّي، فَمَنْ الْمَسْؤُول؟ هَلْ هُوَ الْمُبْرَمِج؟ الشَّرِكَةُ الْمُصَنِّعَة؟ المُسْتَخْدِم؟ الذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ نَفْسَهُ؟ قَدْ تُصْبِحُ الْمَسْؤُولِيَّة مُبَعْثَرَة، مِمَّا يُقَلِّلُ مِنْ الْمُسَاءَلَة وَ يُعْيق قُدْرَتِنَا عَلَى التَّعَلُّمِ مِنْ الْأَخْطَاء كَبِشْر.
4. تَأْكُلُ الْمَهَارَات الْبَشَرِيَّة: الِإعْتِمَاد الْمُفْرِط عَلَى الذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ قَدْ يُؤَدِّي إلَى تَآكُلِ بَعْض الْمَهَارَات الْمَعْرِفِيَّة وَ الْبَشَرِيَّة الْأَسَاسِيَّة، مِثْل التَّفْكِير النَّقْدِيّ، حَلِّ الْمُشْكَلَاتِ الْمُعَقَّدَة، وَالتَّعَاطُف.
5. الرَّضوخ لِلسُّلطَةِ التِّكْنُولُوجِيَّة: قَدْ نُصْبِح عُرْضَّة لِلرَّضوخ لِسُلْطَة الذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ لِأَنَّنَا نُدْرِكُه عَلَى أَنَّهُ أَكْثَرُ ذَكَاء أَوْ كَفَاءَة، مِمَّا يُقَلِّلُ مِنْ قُدْرَتِنَا عَلَى التَّسَاؤُلِ أَوْ التَّحَدِّي.
هَلْ سَيَبْقَى لِلْإِنْسَان سِيَادَة عَلَى مَصِيرُه؟ هَذَا هُوَ السُّؤَالُ الْجَوْهَرِيُّ فِي قَلْبِ الْمَخَاوِفِ بِشَأْنِ وَكَالَة الْإِنْسَان. إذَا إسْتَمَرَّ هَذَا الِإتِّجَاهَ دُون تَنْظِيم أَوْ وَعْيٍ، فَقَدْ نَصِلُ إِلَى مُسْتَقْبَلٍ حَيْثُ يُصْبِحُ الأِنْسَانُ مُجَرَّد مُنَّفِذٍ لِقِرَارَات تَتَّخِذُهَا الْخَوَارِزْمِيَّات. فِي هَذَا السِّينَاريو، قَدْ تَفْقِدُ السَّيْطَرَة الْحَقِيقِيَّةِ عَلَى مَصِيرَنَا الْفَرْدِيِّ وَ الْجَمَاعِيِّ. مِنْ نَاحِيَةِ أُخْرَى، يُجَادِل الْبَعْضِ بِأَنْ الذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ هُوَ أَدَاةٌ قَوِيَّة، وَمِثْل أَيْ أَدَّاة، فَإِنْ كَيْفِيَّة إسْتِخْدَامُهَا تُحَدِّد مِنْ قِبَلِ الْبَشَر. يُمْكِنُنَا تَصْمِيم الذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ لِيَكُونَ بَدِيلًا مُسَاعِدًا لَا يَسْتَبْدِلُ الْقَرَار الْبَشَرِيّ. يُمْكِن لِلذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ أَنْ يُقَدِّمَ مَعْلُومَات أَفْضَل، خِيَارَات أَوْسَع، وَيُسَاعِد فِي تَحْلِيلُ التَّعْقِيدَات، مِمَّا يُمَكِنُ الْبَشَرِ مِنْ إتِّخَاذِ قَرَارَات أَكْثَرُ إسْتِنَارَة وَفَعَالِيَّة. يَجِبُ أَنْ نَطُوِّر آلِيَات قَوِيَّة لِلرِّقَابَة الْبَشَرِيَّةُ عَلَى أَنْظِمَة الذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ، وَخَاصَّةً فِي الْقَرَارَات ذَات الْعَوَاقِب الْكَبِيرَةِ. يَجِبُ أَنْ نَدمَج الْقَيِّمُ الْأَخْلَاقِيَّة فِي تَصْمِيمِ وَتَطْوِير الذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ لِضَمَان تُوَافِقُه مَعَ الْمَصْلَحَةِ الْبَشَرِيَّة وَ الْكَرَامَة. إنَّ التَّحَدِّيَ لَا يَكْمُنُ فِي التَّقَدُّمِ التِّكْنُولُوجْيّ بِحَدٍّ ذَاتِهِ، بَلْ فِي الْقَيِّمُ الْأَخْلَاقِيَّة الْحَالِيَّة الَّتِي تَبْقَى فِي أَمْسِ الْحَاجَةِ إلَى النَّقَّاش الْعِلْمِيّ و الْفَلْسَفِيّ مِنْ أَجْلِ تحقيق الْمُوَاكَبَة التِّقْنِيَّة. هَلْ سَنُسَلِمُ زِمَام الْأُمُور للأَنِظَمِة الذَّكِيَّةُ بِشَكْلٍ أَعْمَى، أَمْ سَنَبْقَى عَلَى سَيَادَتِنَا مِنْ خِلَالِ وَضَع أَطِرْ أَخْلَاقِيَّة وَقَانُونٍيَّة قَوِيَّةً، وَ الِإسْتِثْمَار فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّفْكِير النَّقْدِيّ، وَضَمَانٍ أَنْ الذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ يَخْدُم الْإِنْسَان وَيَزِيدَ مِنْ وَكَالَتِهِ، بَدَلًا مِنْ أَنَّ يُقَلِصَهَا؟ الرِّهَانُ هُوَ عَلَى قُدْرَتِنَا كَبَشَرْ عَلَى الْحِفَاظِ عَلَى سِيَادَتِنَا وَ مِصْيرِنَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الْجَدِيد.

_ مِنْ يُحَدِّد الْمُسْتَقْبَل؟ السُّلْطَة الْأَخْلَاقِيَّة فِي عَصْرِ الْحَضَارَةِ مَا بَعْدَ الْإِنْسَانِيَّة

يُشْكِل التَّقَدُّمَ الْعِلْمِيَّ وَالتِّكْنُولُوجِيّ، بِقُدْرَتِهِ الْفَائِقَةِ عَلَى تَشْكِيلِ مُسْتَقْبَلِنَا بِشَكْل جِذْرِيّ، تَحْدُيا فَلْسَفِيًّا وَأَخْلَاقِيًّا عَمِيقًا حَوْلٍ مِنْ يَمْتَلِك السُّلْطَة الْأَخْلَاقِيَّة لِتَحْدِيد مَسَارُ الْحَضَارَةِ مَا بَعْدَ الْإِنْسَانِيَّةِ. إنْ هَذَا التَّسَاؤُل لَا يَقْتَصِرُ عَلَى تَحْدِيدِ الْجِهَةِ الَّتِي تَمْتَلِك الْقُوَّة التِّقْنِيَّة أَوْ الِإقْتِصَادِيَّة، بَلْ يَمْتَدُّ لِيَشْمَل تَحْدِيدٌ مِنْ لَهُ الْحَقُّ الْأَخْلَاقِيَّ فِي تَوْجِيهِ التَّطَوُّرَات الَّتِي سَتَّمَسُ جَوْهَرٌ الْوُجُودِ الْبَشَرِيِّ. لِفَهْمِ هَذِهِ الْمُعْضِلَةِ، لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيم دُور كُلُّ طَرَفٍ مِنْ الْأَطْرَافِ الْفَاعِلَة الْمُحْتَمَلَة. الْحُكُومَات. الشَّرِكَات، الْعُلَمَاء، وَالْمُجْتَمَع كَكُلّ.
1. الْحُكُومَات: "الْحَارِس النَّظَرِيّ لِلصَّالِح الْعَامّ": تَعَدّ الْحُكُومَات، فِي الْأَنْظِمَةِ الدِّيمُقْرَاطِيَّة، الْمُمَثَّل الشَّرْعِيّ لِلْإِرَادَة الْجَمَاعِيَّة، وَتُنَاط بِهَا مَسْؤُولِيَّة حِمَايَة الصَّالِح الْعَامّ وَضَمَان الْعَدَالَة. نَظَرِيًّا، تَمْتَلِك الْحُكُومَات السُّلْطَة التَّشْرِيعِيَّة وَ التَّنْظِيمِيَّة لِفَرْض الْقُيُودِ أَوْ التَّوْجِيهَاتُ الَّتِي تَضْمَنُ إسْتِخْدَامُ التِّقْنِيَّاتِ الْحَدِيثَة بِمَا يَخْدُمَ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ وَيُقَلِّلُ مِنْ التَّفَاوُتِ. وَيُمْكِنُهَا تَمْوِيل الْبَحْث الأَسَاسِيّ الَّذِي لَا يُرَكِّزُ عَلَى الرِّبْحِ الْمُبَاشِر، و تَطْبِيق سِيَاسَات تَضَمَّن وُصُولًا عَادِلًا لِلتِّقْنِيَّات الْمُكَلَّفَة مِثْل التَّحْسِين الْجِينِيّ. وَلَكِنْ، تَعْتَرِضُ طَرِيقَ الْحُكُومَات الْعَدِيدِ مِنَ الْمَحْدُودِيَات الْعَمَلِيَّةُ وَالْأَخْلَاقِيَّة. فَالتَّقَدُّم التِّكْنُولُوجْيّ يَسِيرُ بِوَتِيرَة أَسْرَعَ بِكَثِيرٍ مِنْ قُدْرَّة الْحُكُومَاتِ عَلَى فَهْمِهِ و تَشْرِيع الْقَوَانِين اللَّازِمَة لِمُوَاكَبَتْه. كَمَا أَنَّ الْقَرَارَات الْحُكُومِيَّةُ قَدْ تَتَأَثَّر بِالْمَصَالِح السِّيَاسِيَّة قَصِيرَة الْأَمَدِ، أَوْ ضُغُوط جَمَاعَات الْمَصَالِح الْقَوِيَّة، بَدَلًا مِنْ الرُّؤَى الِإسْتِرَاتِيجِيَّة طَوِيلَة الْمَدَى. إضَافَة إلَى ذَلِكَ، تَعَدٍّ الْقَضَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِمُسْتَقْبَل الْبَشَرِيَّة قَضَايَا عَالَمِيَّة، بَيْنَمَا تَعْمَل الْحُكُومَات ضِمْنَ حُدُودِ السِّيَادَة الْوَطَنِيَّة، مِمَّا يُعِيقُ التَّنْسِيق الْفَعَال وَالضَّرُورِيِّ عَلَى الْمُسْتَوَى الدَّوْلِيّ.
2. الشَّرِكَات: مُحَرِّك الِإبْتِكَار وَدَافَع الرِّبْح: تَلْعَب الشَّرِكَات دُورًا مُحَوَّريا فِي قِيَادَةٍ الْبَحْث و التَّطْوِير، وَتَحْوِيل الِإبْتِكَارَات الْعِلْمِيَّة إلَى تَطْبِيقَات عَمَلِيَّة وَمُنْتَجًات تُتَاحُ لِلْمُسْتَهْلْكَيْن. دَافِعُهَا الأَسَاسِيّ هُوَ تَحْقِيقُ الْأَرْبَاح لِمُسَاهِمِيهَا، وَ هُوَ مَا يُشْكِلُ حَافِزا قَوِيًّا لِلتَّقَدُّم. وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنْ هَذَا الدَّافِعِ الرِّبْحِيّ يُشْكِلُ نُقْطَة ضَعْف أَخْلَاقِيَّة رَئِيسِيَّة. فَإِذَا كَانَ الْهَدَفُ الأَسْمَّى هُوَ الرِّبْحُ السَّرِيعُ، فَقَدْ تُفَضَّلَ الشَّرِكَات تَطْوِير وَتَطْبِيق التِّقْنِيَّات الَّتِي تَدْر عَوَائِد مَالِيَّة سَرِيعَة، حَتَّى لَوْ كَانَتْ تُثِير مَخَاوِف أَخْلَاقِيَّة عَمِيقَة، مِثْل التَّمْيِيز الْجِينِيّ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُعَمَّقَ التَّفَاوُت الِإجْتِمَاعِيّ وَالْبُيُولُوجِيّ. تُضَافُ إلَى ذَلِكَ حَقِيقَةً إنْ الشَّرِكَاتُ لَا تَخْضَعُ لِلْمُسَاءَلَة الدِّيمُقْرَاطِيَّة الْمُبَاشَرَة، مِمَّا يَعْنِي أَنَّ قَرَارَاتِهَا قَدْ لَا تُرَاعِي بِالضَّرُورَة الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِلْمُجْتَمَع كَكُلّ.
3. الْعُلَمَاءُ: الْمَعْرِفَة الفَنِّيَّة وَالْمَسْؤُولِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة. يُعَدّ الْعُلَمَاء حَجَرُ الزَّاوِيَةِ فِي التَّقَدُّمِ التِّكْنُولُوجْيّ، فَهُمْ يَمْتَلِكَوْن الْمَعْرِفَةُ الْمُتَخَصِّصَة وَالْخِبْرَة الفَنِّيَّة اللَّازِمَة لِتَطْوِير التِّقْنِيَّاتِ الْجَدِيدَةِ. تَقَعُ عَلَى عَاتِقهم أَيْضًا مَسْؤُولِيَّة أَخْلَاقِيَّة تُجَاه عَوَاقِب أَبْحَاثِهِمْ وَتَطْبِيقِاتِهَا. لَكِنْ الْعُلَمَاءَ قَدْ يَقَعُونَ فِي فَخٍّ التَّرْكِيزِ عَلَى مَا هُوَ مُمْكِنٌ تَقَنَّيا بَدَلًا مِنْ التَّسَاؤُلُ عَنْ مَا هُوَ وَاجِبٌ أَخْلَاقِيًّا. كَمَا أَنَّ التَّخَصُّص الدَّقِيقَ قَدْ يُعِيق الْبَعْضِ عَنْ رُؤْيَةِ الصُّورَة الْكُبْرَى لِلْعَوَاقِب الِإجْتِمَاعِيَّة وَالفَلْسَفِيَّة لِعَمَلِهِمْ. وَ بِالرَّغْمِ مِنْ دُورِهِمْ الْحَيَوِيّ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ لَا يَمْتَلِكَوْن بِالضَّرُورَةِ السُّلْطَةَ السِّيَاسِيَّةَ لِفَرْض رَوَاهم الْأَخْلَاقِيَّة عَلَى الْمُجْتَمَعِ بِأَسْرِه.
4. الْمُجْتَمَعِ كَكُلٍّ: صَاحِب الْمَصْلَحَة الْأَكْبَر وَ المُسَاءَلَة النِّهَائِيَّة. فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ، يُعَدّ الْمُجْتَمَع بِأَسْرِه هُو المُتَأَثِّر الرَّئِيسِيّ بِنَتَائِج التَّطَوُّرَات التِّكْنُولُوجِيَّة. لِذَا، فَإِنَّ إشْرَاك الْجُمْهُورِ فِي نَقَاشات مَفْتُوحَةً وَمُسْتَنِيرة يُصْبِحُ أَمْرًا حَاسِمًا لِضَمَانٍ إنْ الْقَرَارَات الْمُتَعَلِّقَةُ بِمُسْتَقْبَلٍ الْحَضَارَة تَعْكِس الْقَيِّم الْجَمَاعِيَّة. هَذَا الْإِشْرَاكَ يُمْكِنُ أَنْ يُتِمَّ عَبَّر الْحَوَارِات الْعَامَّةِ، التَّثْقِيف حَوْلَ الْقَضَايَا الْمُعَقَّدَة، وَدُور مُنَظَّمَات الْمُجْتَمَع الْمَدَنِيُّ فِي رَفْعِ الْوَعْي وَتَقْدِيم مَنْظُورًات مُخْتَلِفَةٌ. وَمَعَ ذَلِكَ، يُوَاجِه الْمُجْتَمَع تَحَدِّيَات مِثْلُ نَقْصِ الْمَعْلُومَات الْمُتَخَصِّصَةِ الَّتِي قَدْ تُؤَدِّي إلَى رُدُود فِعْلٍ غَيْرِ مَدْرُوسَة، أَوْ الإنْقِسَامَات الْمُجْتَمَعِيَّة الَّتِي تُعِيقُ التَّوَصُّلُ إلَى تَوَافُقِ. كَمَا أَنَّ اللَّامبالَاة الْعَامَّةِ قَدْ تَمَكَّنَ الْأَطْرَاف الْأُخْرَى مِنْ فَرْضِ أَجْنَدَاتِهَا.
نَحْوُ حُكْم جَمَاعِي مَسْؤُول؛ لَا يُمْكِنُ لِطَرَف وَاحِدٍ أَنْ يَمْتَلِكَ السُّلْطَة الْأَخْلَاقِيَّة الْكَامِلَة لِتَحْدِيد مَسَارُ الْحَضَارَةِ مَا بَعْدَ الْإِنْسَانِيَّةِ. إنْ تَحْقِيق مُسْتَقْبل عَادِل وَمُسْتَدَام يَتَطَلَّب تَفَاعُلًا مُعَقَّدًا وَتَعَاوَنَا مُتَعَدِّد الْأَطْرَاف. يَجِبُ عَلَى الْحُكُومَات أنْ تَوَفَّرَ الْإِطَار التَّنْظِيمِيّ وَالْقَانُونِيٍّ الْقَائِمُ عَلَى التَّشَاوُر، وَ أنْ تَعَزُّز الْبَحْث الأَسَاسِيّ. عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنَّ يُقَدِّمُوا الْمَعْرِفَة الْمُتَخَصِّصَة وَأنْ يَتْبَنوا أَخْلَاقِيَّات الْبَحْثُ الْمَسْؤُولَة. عَلَى الشَّرِكَات أَنْ تُدْرِكَ مَسْؤُولِيَّتُهَا الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَأنْ تُوَازِنُ بَيْنَ الرِّبْحِ وَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة. وَأَخِيرًا، يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَمَعِ كَكُلٍّ أَنْ يُشَارِكَ بِفَاعِلِيَّة فِي حِوَار دِيمُقْرَاطِيّ مُسْتَنير لِتَحْدِيدِ الْقَيِّم وَ التَّوْجِيهَات الَّتِي تُرِيدُهَا الْإِنْسَانِيَّة لِمُسْتَقْبَلَهَا. إنْ الرِّهَانِ هُوَ عَلَى قُدْرَتِنَا عَلَى مُمَارَسَةِ حُكْم جَمَاعِي مَسْؤُول يُحَقِّق تَوَازُنًا دَقِيقًا بَيْن الِإبْتِكَار وَالْمَسْؤُولِيَّة، لِضَمَانٍ أنْ الْعِلْم يَخْدُم الْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَرَفَاهِيَة الْجَمِيع، بَدَلًا مِنْ أَنَّ يُصْبِح أَدَّاة لِزِيَادَة التَّفَاوُتَ أَوْ تَقْوِيض جَوْهَر إِنْسَانِيٍّتَنَا.

_ الظِّلُّ الرَّقْمِيّ: كَيْف تُهَدِّد التِّكْنُولُوجْيَا غَيْر الْمُنَظَّمَة الْكَرَامَة وَالْحُرِّيَّات

فِي سَعْيِ الْبَشَرِيَّة الدَّؤُوب لِتَوْسِيعِ أَفَاق مَعْرِفَتِهَا وَ قُدُرَاتِهَا، بَرَزَتْ التِّكْنُولُوجْيَا كَقُوَّة لَا تُضَاهَى فِي تَشْكِيلِ مُسْتَقْبَلِنَا. بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ الْقُوَّةُ، بِقَدْرِ مَا تَحْمِلُ مِنْ وَعَوْد بِالتَّقَدُّم وَ الرَّفَاهِيَة، تُخْفِي فِي طَيَاتها خَطَرًا دَاهِمَا إذَا مَا تُرِكَتُ بِلَا رَقِيبٍ أَوْ بَوَصْلَة أَخْلَاقِيَّة. إنْ غِيَاب الأَطْر الْأَخْلَاقِيَّة وَ التَّشْرِيعِيَّة الْمُنَاسَبَةُ يُمَكِنُ التِّقْنِيَّات، خَاصَّة تِلْك الْمَدْفُوعَة بِالذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ وَتَحْلِيل الْبَيَانَات الضَّخْمَة، مِنْ الْإنْزَلِاق إلَى مَسَارَات مُظْلِمَة تُهَدِّد الْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْحُرِّيَّاتِ الأَسَاسِيَّةِ، مُحَوَّلَة أَدَوَات التَّمْكِين إِلَى أَدَوَاتٍ لِلسَّيْطَرَة وَالتَّسْلِيع. يَتَجَلَّى هَذَا التَّهْدِيدَ فِي ثَلَاثَةٍ مَحَاوِر رَئِيسِيَّة مُتَرَابِطَة.
أَوَّلًا: الْمُرَاقَبَة الشَّامِلَة – إخْتِرَاق قَلْعَة الْخُصُوصِيَّة. تُعَدُّ قُدْرَّة التِّقْنِيَّات الْحَدِيثَةِ عَلَى جَمْعِ وَتَحْلِيل كَمِّيَّات هَائِلَة مِنْ الْبَيَانَاتِ الشَّخْصِيَّةِ بِمَثَابَة سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ. فَبَيْنَمَا تَقَدُّمُ هَذِهِ الْقُدْرَةِ فَوَائِدُ جَمَّةٌ فِي مَجَالَاتِ كَالصِّحَّة وَالْأَمْن، فَإِنَّهَا تُصْبِح أَدَّاة قَمْعِيَّةِ فِي غِيَابِ الرِّقَابَة. إنْ أَنْظِمَة التَّعَرُّفِ عَلَى الْوَجْهِ، وَتَحْلِيل السُّلُوك عَبْرَ الْإِنْتَرْنِتِ، وَتَتَبُّع الْمَوَاقِعَ، كُلَّهَا تُشْكِل شَبَكَة رَقْمِيَّة مُتَرَامِيَةِ الْأَطْرَافِ تُرَاقِب الْأَفْرَاد بِإسْتِمْرَار. فِي هَذَا الْوَاقِعِ، يُصْبِح الْحَقِّ فِي الْخُصُوصِيَّةِ، الَّذِي يُعَدُّ رَكِيزَةً أَسَاسِيَّةً لِلْكَرَامَة الْإِنْسَانِيَّة و الِإسْتِقْلَالِيَّة، مُعَرَّضًا لِلِانْتِهَاك المْمَنْهَج. يُشْعِرُ الفَرْدَ بِأَنَّه مُرَاقِب، مُحَلِّل، وَمُصَنَّف، مِمَّا يُولَدُ تَأْثِيرًا عَلَى حُرِّيَّةِ التَّعْبِير وَالتَّجَمُّع؛ إذْ يَتَرَدَّد الْأَفْرَادِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ آرَائِهِمْ الْمُخَالَفَةِ أَوْ الِإنْخِرَاط فِي أَنْشِطَة قَدْ تُعْتَبَرُ غَيْرَ مُتَوَافِقَة مَع الْمَعَايِير الْمَفْرُوضَة، خَوْفًا مِنْ التَّبِعَاتِ. تُصْبِح الْكَرَامَة مُنْتَقِصَة عِنْدَمَا لَا يُمْكِنُ لِلْفَرْد أَنْ يُمَارِس حُرِّيَّتِه دُون الشُّعُور بِوَطْأة الْعَيْنُ الْمُرَاقَبَة، مُحَوَّلًا الْمُوَاطِنِين إلَى مُجَرَّدِ نِقَاط بَيَانَات فِي خُوَارِزْمَيات السَّيْطَرَة الِإجْتِمَاعِيَّة.
ثَانِيًا: تَضَخُّم الْقُوَّة – صُعُود التَّحَكُّمِ بِلاَ مُسَاءَلَة. تُعْطِي التِّكْنُولُوجْيَا قُوَّة هَائِلَة لِلْأَطْرَاف الَّتِي تَمَلَّكَهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ حُكُومَات أَوْ شَرِكَات. فِي غِيَابِ أَطِرْ أَخْلَاقِيَّة تَقَيَّد إسْتِخْدَامِ هَذِهِ الْقُوَّةُ، يُمْكِنُ أَنْ تُصْبِحَ التِّقْنِيَّات أَدَوَات لِتَرْكيز السُّلْطَةَ وَ تَمْكِين الأَنْظِمَة الِإسْتِبْدَادِيَّة. وَلَنَا فِي الْأَسْلِحَةِ ذَاتِيَّة التَّحَكُّم (LAWS) مِثَالًا صَارِخًا؛ فَقُدْرَتُهَا عَلَى إتِّخَاذِ قَرَارَات الْحَيَاةُ وَ الْمَوْتُ دُونَ تَدَخُّلٍ بَشَرِي كَاف تُثِير أَسْئِلَة وُجُودِيَّة حَوْل الْمَسْؤُولِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة، وَتُقَلِّص مِنْ قِيمَةِ الْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. كَذَلِك، تُهَدِّد تِقْنِيَات التَّلَاعُب بِالْمَعْلُومَات، مِثْل الصُّوَر الْمُزَيَّفَة الْعَمِيقَة (Deepfakes) وَالْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ الْمُوَلَّدَة بِالذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ، أُسِّس الدِّيمُقْرَاطِيَّة وَحُرِّيَّة التَّفْكِير، فَهِي تَمَكَّن الْقِوَّى الْمُسَيْطِرَة مِنْ التَّلَاعُبِ بِالرَّأْي الْعَامّ وَتَشْوِيه الْوَاقِعُ، مِمَّا يُقَوِّضُ قُدّْرَة الْأَفْرَادِ عَلَى إتِّخَاذِ قَرَارَات مُسْتَنِيرَة وَيُضَعِّفُ نَسِيج الثِّقَة الِإجْتِمَاعِيَّةِ. عِنْدَمَا لَا تَخْضَعُ هَذِهِ الْقُوَّةُ لِلرِّقَابَة الدِّيمُقْرَاطِيَّة أَوِ الْأَخْلَاقِيَّةِ، فَإِنَّهَا تُصْبِح أَدَّاة قَمْع، تُهَدِّد الْحُرِّيَّة السِّيَاسِيَّة وَتَخْضَع الْأَفْرَاد لِسُلْطَة رَقْمِيَّة لَا تُرَاجَعُ وَلَا تُحَاسَبُ.
ثَالِثًا: الرِّبْحِ بِلَا حُدُودٍ – تَسْلِيع الْوُجُودُ الْبَشَرِيّ. يُشْكِل الدَّافِع لِلرِّبْح عُنْصُرًا قَوِيًّا فِي تَسْرِيع وَتِيرَة الِإبْتِكَار التِّكْنُولُوجْيّ، وَ لَكِنْ غِيَاب الرِّقَابَة يُمْكِنُ أَنْ يُحَوِّلَ هَذَا الدَّافِعِ إلَى تَهْدِيد أَخْلَاقِيّ. عِنْدَمَا يُصْبِح الْهَدَف الأَسْمَّى هُوَ تَحْقِيقُ أَقْصَى عَائِد مَادِّيّ، تُصْبِح جَوَانِبَ مِنْ الْوُجُودِ الْبَشَرِيِّ قَابِلَة لِلتَّسْلِيع. تُعَدُّ تِقْنِيَات التَّحْسِين الْجِينِيّ خَيْر مِثَالٌ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِذَا أَصْبَحْتَ حَكْرًا عَلَى الْقَادِرِينَ مَالِيًّا، فَإِنَّهَا سَتُنْشِىءُ تَفَاوُتًا بَيُولُوجِيَا غَيْرَ مَسْبُوقٍ، تُقْسَم الْبَشَرِيَّةِ إِلَى "مُحَسَنِين" وَ"غَيْرُ مُحَسَنِين" . هَذَا التَّمْيِيزُ الْجِينِيّ يُقَوِّضُ مَفْهُومُ الْكَرَامَة الْمُتَأَصِّلَةِ فِي كُلِّ إنْسَانٍ، وَيُحَوِّلَهَا إلَى صِفَةِ مُكْتَسَبَةٌ أَوْ سِلْعَةً تُبَاعُ وَتُشْتَرَى. إضَافَة إلَى ذَلِكَ، يُمْكِنُ لِلشَّرِكَات أَنْ تَسْتَغِلَّ الْبَيَانَاتِ الشَّخْصِيَّةِ لِلْمليارات مِنْ الْبَشَرِ لِأَغْرَاض تِجَارِيَّة بَحْتَة، مُحَقَّقَة أَرْبَاحًا طَائِلَةً دُونَ تَقْدِيمِ تَعْوِيض عَادِلٌ أَوْ إحْتِرَامِ لِخُصُوصِيَّة الْأَفْرَاد. هَذَا يُقَلِّلُ مِنْ قِيمَةِ الْإِنْسَانَ كَكَائِنٍ ذِي غَايَةٌ فِي ذَاتِهِ، وَيُحَوِّلُهُ إِلَى مُجَرَّدِ مَصْدَر بَيَانَات أَوْ مُسْتَهْلَكٌ يُمْكِن التَّلَاعُب بِهِ لِتَحْقِيقِ أَقْصَى رِبْح.
إنْ التَّحَدِّي الَّذِي تَفْرِضُهُ هَذِه التِّقْنِيَّات فِي ظِلِّ غِيَابِ الأَطْر الْأَخْلَاقِيَّة وَالتَّشْرِيعِيَّة لَيْسَ مُجَرَّدَ قَضِيَّة تِقْنِيَّة، بَلْ هُوَ مُعْضِلَة وُجُودِيَّة تُحَدِّد مُسْتَقْبِل الْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْحُرِّيَّاتِ الأَسَاسِيَّةِ.إنْ الْمَسَار نَحْو الْمُرَاقَبَة الشَّامِلَة، أَوْ تَضَخُّم الْقُوَّة بِلَا رِقَابَة، أَوْ تَسْلِيع الْوُجُودُ الْبَشَرِيّ لِأَجْلِ الرِّبْحِ الْأَعْمَى، لَيْسَ قَدْرًا مَحْتُومًا، بَلْ هُوَ نَتِيجَةُ لِإخْتِيَارَاتِنَا الْجَمَاعِيَّةُ فِي تَحْدِيدِ كَيْفِيَّة تَطْوِير وَ إسْتِخْدَامِ التِّكْنُولُوجْيَا. لِضَمَانِ مُسْتَقْبِل يَخْدُمُ فِيهِ الْعِلْمُ الْبَشَرِيَّة وَيُعَزِّز كَرَامَتَهَا، لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ أَطِرْ أَخْلَاقِيَّة وَ قَانُونٍيَّة قَوِيَّةً، تُبْنَى عَلَى قَيِّمِ الشَّفَّافِيَّة وَ المُسَاءَلَة وَ الْعَدَالَة وَحُقُوقُ الْإِنْسَانِ. يَتَطَلَّبُ هَذَا جَهْدًا جَمَاعِيًّا مِنْ الْحُكُومَاتِ، الْعُلَمَاء، الشَّرِكَات، وَ الْمُجْتَمَع الْمَدَنِيّ، لِلْعَمَل مَعًا لِوَضْع خُطُوط حَمْرَاء وَاضِحَة، وَتَشْجِيع الْبَحْث وَالتَّطْوِير الْمَسْؤُول، وَ ضَمَانٍ أَنْ التِّقْنِيَّة تَبْقَى أَدَّاة فِي خِدْمَةِ الْإِنْسَانِ، لَا سَيِّدًا لَهُ. إنْ الْمَعْرَكَةِ مِنْ أَجْلِ الحُرِّيَّات الْأَسَاسِيَّة وَالْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْيَوْم تُخَاض عَلَى أَرْضٍ التِّكْنُولُوجْيَا، وَمِصْيرِنَا يَعْتَمِدُ عَلَى يَقَظَتنا وَقُدْرَتُنَا عَلَى تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقُوَّةُ الْهَائِلَة نَحْو الصَّالِح الْعَامّ.

_ الْخُلَاصَة

إنْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَنَظَرِيَّة مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ عَلَاقَة تِقْنِيَّة بَحْتَة، بَلْ هِيَ قَلْبُ الْمُعْضِلَة الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي تُعَرِفُ عَصْرِنَا. إنَّهَا لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَسْأَلَةِ "مَا يُمْكِنُنَا فِعْلِهِ، بَلْ مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْنَا فِعْلُهُ". هَذِهِ الْجُمْلَةِ تُمَثِّلُ جَوْهَر الْفَلْسَفَة الْأَخْلَاقِيَّة فِي مُوَاجَهَةِ التَّقَدُّمِ التِّكْنُولُوجْيّ. فَقُدْرَتِنَا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ (What can do) قَدْ تَجَاوَزْتُ بِكَثِير قُدْرَتِنَا عَلَى فَهْمِ عَوَاقِبُهُ أَوْ تَقْيِيم مَدَى صَوَابُه (What we should do). الْعِلْمِ يُقَدَّمُ لَنَا الْأَدَوَات لِتَحْقِيق أَشْيَاءَ لَمْ تَكُنْ تَخْطُرُ عَلَى بَالٍ، مِنْ تَعْدِيلِ جِينَاتِنَا إلَى تَطْوِيرٍ ذَكَاء إصْطِنَاعِيّ فَائِقٍ، إلَى إِمْكَانِيَّة تَفْكِيك وَإِعَادَةُ تَشْكِيلِ الزَّمَكَان عَلَى الْأَقَلِّ نَظَرِيًّا. لَكِنَّ هَذِهِ الْقُدْرَةِ تُلْقِي عَلَى عَاتِقنا مَسْؤُولِيَّةَ أَخْلَاقِيَّة هَائِلَة؛ كَيْف نَمَارس هَذِهِ الْقُوَّةُ الْجَدِيدَة؟ وَمَا هِيَ الْغَايَاتِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ نُوجِهها نَحْوِهَا؟ تَتَطَلَّبُ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ حِوَارًا مُسْتَمِرًّا حَوْل الْقَيِّم، الْأَخْلَاق، وَالْمَسْؤُولِيَّة لِضَمَانٍ أنْ التَّقَدُّمَ الْعِلْمِيَّ يَخْدُمُ الْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَيُحَقِّقُ الْعَدَالَةَ لِلْجَمِيعِ. هَذِهِ هِيَ الْخُلَاصَة الْعَمَلِيَّة وَالفَلْسَفِيَّةِ لِمَا يَجِبُ أَنْ نَفْعَلَهُ. إنَّ هَذَا الْحِوَارِ لَيْس تَرَفًا فَكَرِيا، بَلْ هُوَ ضَرُورَةُ حَتْمِيَّة. مَا هِيَ الْقِيَمِ الَّتِي نَعْتَبِرُهَا أَسَاسِيَّة لِإِنْسَانٍيَتِنَا؟ هَلْ هِيَ الْكَرَامَة الْمُتَأَصِّلَة لِكُلِّ فَرْدٍ؟ الْمُسَاوَاة؟ الْحُرِّيَّة؟ الْعَدَالَة؟ التَّعَاطُف؟ هَذِهِ الْقِيَمِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْبَوْصَلة الَّتِي تَوَجَّهَ الْبَحْث وَالتَّطْوِير، وَلَيْسَ مُجَرَّدُ تَبِعَات ثَانَوِيَّة. فَإِذَا لَمْ نُحَدِّد قِيَمِنَا بِوُضُوح، فَإِنَّ التَّقَدُّمَ قَدْ يُفْضِي إلَى عَوَاقِب تَتَنَاقَض مَعَ مَا نُقَدِّرُه كَبَشَر مِثْلُ التَّمْيِيز الْجِينِيّ، أَوْ الْمُرَاقَبَةِ الشَّامِلَة. أَمَّا كَيْفِيَّةُ تَطْبِيقُ هَذِهِ الْقِيَمِ فِي سِينَاريوهَات عَمَلِيَّةُ. هَلْ يَجِبُ أَنْ نَضَعَ حُدُودًا لِلتَّحْسِين الْبَشَرِيّ؟ كَيْف نَضْمَن خُصُوصِيَّة الْبَيَانَات فِي عَصْرِ الذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ؟ مَنِ الْمَسْؤُولُ عَنِ قَرَارَات الأَنظِمةُ الذَّكِيَّة؟ هَذِهِ لَيْسَتْ أَسْئِلَة يُمْكِنُ لِلْعِلْمِ وَحْدَه الْإِجَابَةَ عَنْهَا، بَلْ تَتَطَلَّب مُشَارَكَة الْفَلَاسِفَة، عُلَمَاءِ الِإجْتِمَاعِ، الْقَانُونَيَيْن، وَ صَانِعِيّ السِّيَاسَات. مَنْ يَتَحَمَّلُ مَسْؤُولِيَّة عَوَاقِب التَّقَدُّمَ الْعِلْمِيَّ؟ الْعُلَمَاء؟ الحُكُومَاتُ؟ الشَّرِكَات؟ الْأَفْرَاد؟ وَكَيْف نُوزِع هَذِهِ الْمَسْؤُولِيَّةِ بِشَكْل عَادِل وَفَعَال؟ إنْ إزَاحَة الْمَسْؤُولِيَّة أَوْ إهْمَالُهَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى كَوَارِث أَخْلَاقِيَّة وَإجْتِمَاعِيَّة. إِذَنْ لِمَاذَا هَذَا الْحِوَارِ مُسْتَمِرٌّ؟ لِأَنَّ التِّكْنُولُوجْيَا تَتَطَوَّر بِإسْتِمْرَار، وَ تُقَدِّمَ تَحَدِّيَات جَدِيدَةٍ لَمْ نَكُنْ نَتَوَقَّعُهُا. الْأَطْرُ الْأَخْلَاقِيَّة وَ الْقَانُونِيَّة يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَرِنَّة وَقَابَلَة لِلتِّكيف، وَلَيْسَتْ جَامِدَة يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ تَقْيِيم دَائِم، وَ مُرَاجَعَة مُسْتَمِرَّة، وَتَعْدِيل لِلسِّيَاسَات لِضَمَانِ أَنَّ التَّقَدُّمَ الْعِلْمِيَّ يُفْضِي إلَى مُسْتَقْبَلٍ يُعَزِّز الْكَرَامَة الْإِنْسَانِيَّةِ وَيُحَقِّقُ الْعَدَالَةَ لِلْجَمِيعِ، لَا نُخَبٍ قَلِيلَةٌ. إنْ مَا نُقَدِّمُهُ مِنْ تَلْخِيصِ يُمَثِّل دَعْوَةٌ قَوِيَّةٌ لِنَهْج حُكْم جَمَاعِي مُسْتَنير، يُعِيدُ تَوْجِيهُ التَّقَدُّمِ الْعِلْمِيِّ لِيَكُون أَدَّاة لِلتَّحَوُّل الْإِيجَابِيّ الشَّامِل، بَدَلًا مِنْ أَنَّ يُصْبِح قُوَّة تُهَدِّد جَوْهَر وُجُودُنَا.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٌ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ
- الْجَبْرِيَّة الرَّأْسِمَالِيَّة -الْجُزْءُ الرَّابِعُ-
- الْجَبْرِيَّة الرَّأْسِمَالِيَّة -الْجُزْءِ الثَّالِثِ-
- الْجَبْرِيَّة الرَّأْسِمَالِيَّة -الْجُزْء الثَّانِي-
- الْجَبْرِيَّة الرَّأْسِمَالِيَّة -الْجُزْءِ الْأَوَّلِ-
- النَّيُولِيبْرَالِيَّة: الأَنْمَاط الْمَعُلْبَة -الْجُزْءُ ا ...
- النَّيُولِيبْرَالِيَّة: الأَنْمَاط الْمَعُلْبَة -الْجُزْءُ ا ...
- النَّيُولِيبْرَالِيَّة: الأَنْمَاط الْمَعُلْبَة -الْجُزْءُ ا ...
- النَّيُولِيبْرَالِيَّة؛ الأَنْمَاط الْمَعُلْبَة -الْجُزْءُ ا ...
- الرُّؤْيَة اللِّيبْرَالِيَّة -الْجُزْءِ الْخَامِسِ-
- الرُّؤْيَة اللِّيبْرَالِيَّة -الْجُزْءُ الرَّابِعُ-
- الرُّؤْيَة اللِّيبْرَالِيَّة -الْجُزْءِ الثَّالِثِ-
- الرُّؤْيَة اللِّيبْرَالِيَّة -الْجُزْءِ الثَّانِي-
- الرُّؤْيَةِ اللِّيبْرَالِيَّة -الْجُزْءِ الْأَوَّلِ-
- الْإِمْبِرَيَالِيَّة؛ نَزْعة نَحْو السَّيْطَرَة الشَّامِلَة
- نَقْدٍ مَا بَعْدَ الِإسْتِعْمَار والِإسْتِعْمَار الْجَدِيد
- نَقْد الكُولُونْيَّالِيَّة: -الْجُزْءُ الرَّابِعُ-
- نَقْد الكُولُونْيَّالِيَّة: -الْجُزْءُ الثَّالِثُ-


المزيد.....




- رموز مطرّزة بالروحانية..تفاصيل أزياء البابا لاوُن الرابع عشر ...
- JEC Tower يعيد تعريف أفق جدة.. المملكة السعودية تبني أطول بر ...
- الأمن السوري يلقي القبض على قائد ميليشيا موالية لنظام الأسد ...
- معهد سيبري: زيادات قياسية في إيرادات شركات السلاح العالمية
- هندوراس: نصري عصفورة المدعوم من ترامب يتصدر النتائج الأولية ...
- الهلال الأحمر القطري يرمم 4 مراكز صحية في قطاع غزة
- عمروف.. تتاري مسلم يقود وفد المفاوضات الأوكراني
- صحافة عالمية: قلق إسرائيلي من تسرّع أميركي بخطة غزة
- الجيش السوداني يقصف قوات الحركة الشعبية ويتقدم بجنوب كردفان ...
- في اليوم العالمي للإيدز.. تحذير من نقص تمويل مكافحته


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُزْءُ الرَّابِعُ