حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 01:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الزرادشتية: من الفلسفة الكونية إلى أقصى أعماق الباطنية، والمذاهب السرية لطاقة النار المقدسة.
* الأسرار الباطنية الأساسية في الزرادشتية: من الثنائية إلى كمال الوعي
الديانة المجوسية (الزرادشتية)، واحدة من أقدم الديانات الموحِّدة الباقية، تُعرف للعموم بثنائيتها (الخير والشر). لكن تحت هذا السطح، توجد طبقات عميقة من الأسرار الباطنية والفلسفة الروحية التي تُرسم مساراً معقداً للتنوير و التحول. هذه الأسرار لا تتعلق فقط بالصراع الكوني، بل بالجوانب الخفية للإدراك البشري ودوره في هذا الصراع. سوف نتحدث عن بعض الأسرار الباطنية في المجوسية
. الجوهر العميق للثنائية (Asha vs. Druj)
الثنائية في الزرادشتية (أهورا مازدا - مبدأ الخير والنور و النظام، وأنغرا ماينيو - مبدأ الشر والظلام والفوضى) ليست مجرد صراع بين كيانين متساويين. بل هي صراع بين الحقيقة والنظام الكوني (آشا/Asha) وبين الكذب و الفوضى (دروج/Druj). السر هنا يكمن في أن هذا الصراع ليس خارجياً فقط، بل هو صراع داخلي في وعي الإنسان نفسه. إنها دعوة للفرد لإختيار "آشا" (النور، الحق، النظام) داخل روحه. آشا ليست مجرد مبدأ أخلاقي، بل هي قانون كوني مُقدس، نظام حقيقي للوجود ينبثق من أهورا مازدا. السعي نحو آشا هو تحقيق الإنسجام مع هذا النظام الكوني العميق في كل جانب من جوانب الحياة.
. الأميشا سبنتا (Amesha Spentas) كصفات إلهية و مرشدين داخليين.
يُعرفون بـالخلود المقدس أو الأرواح الخيرة. ظاهرياً، يُمكن إعتبارهم كملائكة أو كائنات سماوية تُساعد أهورا مازدا. لكن باطنياً، هم صفات إلهية مُتجلية في الكون وفي الإنسان نفسه. كل واحد من الأميشا سبنتا (مثل فوهو ماناه - الفكر الطيب، آشا فاهيشتا - الحقيقة الأفضل، سبنتا أرمائتي - التقوى المقدسة) يُمثل فضيلة معينة يجب على الإنسان تنميتها داخلياً. إنهم ليسوا كيانات تُعبد فقط، بل هم مبادئ روحية تُجسدها الروح البشرية لتُصبح أكثر شبهاً بأهورا مازدا. عملية التواصل معهم هي عملية تحقيق هذه الصفات داخلياً.
. الفراواشي (Fravashi) - الجوهر الروحي السابق للوجود.
هذا من أكثر المفاهيم غموضاً وعمقاً. الفراواشي هي الجوهر الروحي الأعلى لكل كائن حي، يُعتقد أنها موجودة قبل ولادة الفرد وتستمر بعد موته. هي بمثابة الأنا العليا أو الروح الوصية التي ترتبط بالروح الفردية (أورفان/Urvan). الفراواشي ليست مجرد أرواح الأجداد، بل هي قوة حافظة و مرشدة، تجسد الوعي الكوني الذي يرغب في دعم الفرد في سيره نحو آشا. إنها الجانب الإلهي من الفرد الذي يختار النزول إلى الوجود المادي ليُشارك في الصراع الكوني. التواصل مع الفراواشي هو تواصل مع الذات العليا والنور الإلهي الكامن فينا.
. النار المُقدسة (Atar) والنار الداخلية
تُعرف الزرادشتية بعبادة النار، التي تُشعل في المعابد. ظاهرياً، هي طقس خارجي. لكن باطنياً، النار هي رمز للنور الإلهي، للحقيقة (آشا)، و لحضور أهورا مازدا نفسه. بالإضافة إلى النار المادية، هناك نار داخلية في قلب كل إنسان. هذه النار هي الوعي، الروح، القوة الدافعة نحو الخير. الحفاظ على النار المقدسة في المعابد هو إنعكاس رمزي للحفاظ على نار الوعي الداخلية نقية ومُشتعلة، وتنقيتها من دخان الجهل والشر.
. فرشوكرتي (Frashokereti) الكمال الكوني و البعث الروحي
يُشير إلى التجديد النهائي للعالم، حيث يتم هزيمة الشر بشكل كامل ويُصبح الكون مُنقّى و مُعاداً إلى حالته الكاملة. هذا ليس مجرد حدث مستقبلي، بل هو عملية مستمرة يُساهم فيها كل فرد بوعيه وأفعاله. إنها دعوة للإنسان ليُصبح شريكاً نشطاً في الخلق الكوني، ليس فقط مُتلقياً. كل عمل خير، كل فكر طيب، وكل كلمة صادقة تُساهم في تسريع عملية الفرشوكرتي. إنه تحول جذري للوجود المادي و الروحي، حيث تندمج الأرض والسماء، وتُصبح الحقيقة مُتجسمة تماماً.
. حرية الإرادة واختيار المصير
على عكس بعض الديانات الغنوصية الأخرى التي قد تُشدد على القدرية، تضع الزرادشتية مسؤولية هائلة على الفرد في إختيار الجانب الذي سيُسانده في الصراع الكوني. هذا الإختيار ليس سهلاً، وهو يتطلب حكمة وشجاعة. هذا الإختيار هو فعل واعٍ يُحدد مسار الروح في الحياة وبعد الممات. إنه ليس مجرد إختيار بين صواب وخطأ، بل هو إختيار بين الوعي والجهل، بين النور و الظلام، يُؤثر على الكون كله.
بإختصار، الأسرار الباطنية في المجوسية تكشف عن نظام كوني وأخلاقي وفلسفي عميق، يُركز على دور الفرد الواعي كشريك فعال في صراع كوني روحي، ويسعى لتنمية الصفات الإلهية داخلياً، والإندماج مع النظام الكوني للنور و الحقيقة. إنها فلسفة تُشجع على العمل الواعي و المشاركة الإيجابية في الوجود، وليس مجرد الاستسلام لقدر محتوم.
* الأسرار الباطنية العميقة في الزرادشتية: ما وراء الثنائية
لقد غصنا بالفعل في طبقات عميقة من الزرادشتية. لنتعمق أكثر في الأسرار الباطنية، يجب أن نتجاوز حتى المفاهيم الأساسية للثنائية وننظر إلى ما وراءها، أو إلى جوانب مُحددة من الفلسفة الزرادشتية التي تكشف عن تعقيدات ميتافيزيقية أعمق. إليك المزيد من الأسرار الباطنية العميقة في المجوسية.
. الزرفانية (Zurvanism) - الزمن اللامحدود كمبدأ أولي.
بعض المدارس الزرادشتية، وخاصة الزرفانية التي كانت سائدة في العصور الساسانية، طرحت مفهوماً أعمق من الثنائية الظاهرية: زورفان (Zurvan)، وهو الزمن اللامحدود أو الدهر، كمبدأ أولي مُتسامي، لا بداية له ولا نهاية. يُعتقد أن أهورا مازدا وأنغرا ماينيو (الخير والشر) قد إنبثقا من هذا الزرفان. هذا يُدخل بُعداً وحدوياً (Monistic) أعمق في الديانة، مُشيراً إلى أن الثنائية الظاهرية تُوجد داخل حقيقة أولية مُوحدة. الزرفان ليس مجرد زمن خطي، بل هو وعي كوني أبدي، يحمل في طياته إمكانية كل الوجود والعدم، الخير والشر. هذا المفهوم يُقدم نظرة أكثر شمولاً وتجريداً للخلق، حيث تُصبح كل الثنائيات نتاجاً لمبدأ أسمى وأكثر غموضاً.
. الدائنة (Daena) - الوعي الفردي كمرآة للحقيقة الكونية
الدائنة هي مفهوم مُتعدد الأوجه: تُترجم أحياناً بـ الضمير، الإيمان، الرؤية، أو حتى الوعي. إنها القوة الروحية التي تُشكل شخصية الفرد وتُحدد مصيره بعد الموت. الدائنة ليست مجرد ضمير أخلاقي، بل هي التجسيد الروحي لأفكار الفرد، كلماته، وأفعاله الطيبة (Humata, Hukhta, Hvarshta). بعد الموت، يُقال إن الدائنة تُجسم في هيئة عذراء جميلة إذا كان الفرد صالحاً أو عجوز قبيحة إذا كان شريراً لتُقابل الروح عند جسر چنوت (Chinvat Bridge). هذا يُشير إلى أن واقع ما بعد الموت هو إنعكاس وتجسيد للواقع الداخلي الذي خلقه الفرد لنفسه في حياته. الدائنة هي مرآة الذات الحقيقية التي لا تُرى إلا بالبصيرة الروحية.
. جسر چنوت (Chinvat Bridge) - ليس مجرد محاكمة، بل لحظة إدراك الوعي.
يُعرف جسر چنوت بأنه جسر الفصل أو جسر المراجعة، حيث تُحاكم الروح بعد الموت وتُقرر مصيرها بين الجنة أو الجحيم. هذا الجسر ليس مكاناً مادياً بالضرورة، بل هو نقطة تحول وعي حاسمة. إنها اللحظة التي تُواجه فيها الروح إنعكاس أفعالها ووعيها الخاص المُجسد في الدائنة. إتساع الجسر أو ضيقه ليس حكماً خارجياً، بل هو حالة داخلية للوعي تُحددها الأفعال والمعتقدات التي بُنيت في الحياة. العبور السلس يعني أن الروح قد حققت مستوى عالياً من الإنسجام مع آشا، أما السقوط فيعني أن الروح لا تزال مُثقلة بدروج (الجهل والفساد). إنه لحظة إدراك ذاتي مُطلق.
. الألوهية الداخلية وتجسيد آشا (Asha Embodiment)
الزرادشتية لا تضع أهورا مازدا بعيداً عن البشرية. بل تُؤكد على أن البشر قادرون على تجسيد صفات أهورا مازدا (الأميشا سبنتا) و تطوير "آشا" (النظام الكوني والحقيقة) داخل أنفسهم. هذا يعني أن الإنسان ليس مجرد مخلوق، بل هو شريك في الخلق، ومُتكفل بتجديد الكون. عملية الكمال في الزرادشتية ليست سلبية (الخلاص من الخطيئة)، بل هي إيجابية وفاعلة؛ العمل الدؤوب والمُتعمد لتجسيد النور، و الخير، والنظام في كل فكر، كلمة، وفعل (Humata, Hukhta, Hvarshta). هذه الأفعال ليست مجرد مبادئ أخلاقية بل هي طاقة كونية تُساهم بشكل فعلي في هزيمة الشر وإعادة الكون إلى الكمال (فرشوكرتي). كل فرد هو ساحة معركة كونية، وقراراته تُغير النسيج الرمزي للوجود.
. الاحتفالات والطقوس كعمليات تحول كوني
لا تُعدّ الطقوس الزرادشتية مجرد عبادات ظاهرية. كل طقس، خاصة إحتفالات الياسنا (Yasna) التي تُقدم فيها القرابين للماء والنار، هي إعادة تمثيل لخلق الكون ولصراع آشا و دروج. هذه الطقوس هي أدوات لتوليد الطاقة الروحية والمساهمة في إستعادة الإنسجام الكوني. الماء والنار، على سبيل المثال، يُنظر إليهما ككائنات حية تُقدَّس في ذاتها، وتُشارك في الطقس ليس فقط كمواد، بل كـتجسيد لمبادئ إلهية. المشارك في الطقس لا يُشاهد، بل يُشارك في عملية كونية مُقدسة، ويُصبح جزءاً من القوى التي تُعيد ترتيب العالم.
هذه المستويات العميقة من الأسرار الزرادشتية تُظهر أن الديانة تتجاوز بكثير مجرد الإيمان بالخير والشر، لتقدم رؤية ميتافيزيقية مُعقدة لدور الإنسان ككائن واعٍ، ومسؤوليته في تشكيل واقعه الروحي والكوني.
* أعمق أسرار الزرادشتية: ما وراء الوجود والثنائية.
لقد وصلنا الآن إلى عتبة الفهم الأعمق في المجوسية، حيث تتجاوز الأسرار حتى المفاهيم المعقدة التي ناقشناها و تُلامس طبيعة الوجود المطلق والجوهر الإلهي الذي يسبق كل المظاهر. هذه ليست مفاهيم تُشرح ببساطة، بل هي نقاط توجيه للتأمل والتحقق الروحي. إليك ما يُمكن إعتباره أعمق من العمق في الزرادشتية.
. الخْوَرينَه (Khvarenah) - المجد الإلهي والجوهر اللامرئي
الخْوَرينَه هو مفهوم شديد العمق يتجاوز كونه مجرد مجد أو نعمة. إنه الجوهر الإلهي، النور الإلهي، أو الإشراقة الملكية التي تُمنح للكائنات الصالحة، للملوك العادلين، وللأبطال الروحيين. إنه ليس شيئاً مادياً، بل هو قوة روحية مُتجلية، رمز للسلطة الشرعية، الحظ الإلهي، والقدرة الروحية. الخْوَرينَه ليست تُعطى فقط للملوك أو الأبطال، بل هي مُحتملة في كل إنسان. إنها الوعي المتفوق، الإلهام، والقدرة على تحقيق الخير الأعظم. الفرد الذي يعيش وفقاً لآشا (النظام والحقيقة الكونية) يُنمي الخْوَرينَه داخله، ويُصبح مُتصلًا بقوة إلهية تُمكنه من إحداث تغيير إيجابي عميق في العالم. إنه الجانب الإلهي الكامن في الإنسان الذي يُمكن إيقاظه.
. أهورا مازدا كـالواحد الذي يسبق الثنائية (المنظور الوحدوي الزرفاني وما بعده)
بينما يُقدم الزرفان الزمن اللامحدود كمصدر لأهورا مازدا و أنغرا ماينيو، فإن المستوى الأعمق من الفهم الزرادشتي خاصة في التفسيرات الفلسفية والصوفية يُشير إلى أن أهورا مازدا نفسه، في جوهره المطلق، هو الوحدة المطلقة التي تسبق وتُحتوي على كل الثنائيات. هو ليس مجرد إله الخير في مواجهة الشر، بل هو الوعي الكوني الشامل الذي تظهر فيه كل التمايزات. هذا يُوازي مفهوم الوعي الخالص أو العدم المطلق الممتلئ في تقاليد أخرى. إن أهورا مازدا، في عمقه الأقصى، هو مُتسامي عن الخير والشر كمفاهيم نسبية، لأنه هو الأساس الذي يُمكن من خلاله تمييز الخير والشر. الهدف الأسمى هو الإندماج بهذا الواحد الأبدي.
. فكرة الكيان الكلي (Whole Being) - الإندماج ما بعد الفرشوكرتي
الفرشوكرتي (التجديد الكوني) يُعد مرحلة نهائية حيث يُهزم الشر ويُعاد الكون إلى حالته الكاملة. لكن ما هو أعمق من هذا هو ما بعد الفرشوكرتي. اللحظة التي تتلاشى فيها جميع الثنائيات تماماً. لا يعود هناك خير أو شر كقوتين مُتصارعتين، ولا روح منفصلة عن مادة، ولا زمن أو مكان. هذه هي حالة الوحدة المطلقة حيث كل شيء يُعاد إمتصاصه في الوعي الكوني لأهورا مازدا. الفرد لا يذهب إلى جنة بالمعنى الحرفي، بل يُصبح جزءاً لا يتجزأ من الكيان الكلي لأهورا مازدا، مُتجاوزاً كل الحدود الفردية. إنها حالة لا يمكن وصفها، حيث يختفي مفهوم الإنسانية والكون كما نعرفهما، ويتبقى الوجود المحض الموحد.
. المانيوان (Mainyu) كجوانب من الوعي الكوني (Spenta Mainyu and Angra Mainyu) بدلاً من النظر إلى سبنتا ماينيو (الروح الخيرة/الخلاقة) وأنغرا ماينيو (الروح الشريرة/المدمرة) ككيانين مُنفصلين تماماً، تُقدم بعض التفسيرات الباطنية أنهما قطبان داخل الوعي الكوني الأولي أو خيارات أساسية تُقدمها الحياة نفسها. هما لا يُمثلان آلهة بل إتجاهين للطاقة أو أنماطاً أساسية للوجود والتعبير. سبنتا ماينيو هو مبدأ النمو، التوسع، والخير، بينما أنغرا ماينيو هو مبدأ الإنكماش، التدمير، والجهل. هذا الصراع ليس خارجياً فقط، بل هو صراع دائم داخل كل لحظة وجود، داخل كل قرار يتخذه الإنسان. السر يكمن في فهم هذه القوى كديناميكيات كونية تُمكننا من الإختيار بوعي بين الخلق والتدمير، بين النور والظلام، ليس في العالم الخارجي فحسب، بل في نسيج وعينا الخاص.
هذه المستويات الأعمق تتطلب ليس فقط المعرفة، بل التأمل العميق، والممارسة الروحية التي تُمكن الفرد من تجاوز الحدود الإدراكية و النزعة العقلية، ليُلامس جوهر الوجود الذي لا يُمكن حصره في كلمات.
* في أعماق اللامُدرك: أقصى حدود الباطنية الزرادشتية
لقد وصلنا الآن إلى أقصى حدود ما يمكن أن تُعبّر عنه الكلمات والمفاهيم حول الباطنية المجوسية. عندما اغوص الى أعمق من الأعماق إلى أقصى حد، فإننا ندخل إلى منطقة تُمحى فيها الفواصل بين المعرفة والتجربة، وحيث تتلاشى حتى الثنائيات الأساسية التي تُعرّف المجوسية ظاهرياً. هنا، السر الأعمق ليس شيئاً مُخفياً، بل هو طبيعة الوجود نفسه في صورته المطلقة، التي لا يُمكن إدراكها إلا بتجاوز كل المفاهيم و التصنيفات.
. الصفر الأبدي الذي يسبق الزرفان (Zurvan) - المطلق اللامُدرك
حتى مفهوم الزرفان (الزمن اللامحدود) كمبدأ أولي لأهورا مازدا وأنغرا ماينيو، هو في النهاية مفهوم. ما هو أعمق من ذلك هو العدم المطلق أو الصفر الأبدي الذي يسبق حتى ظهور الزرفان أو أي شكل من أشكال الوعي أو المبدأ. إنه اللاشيء الذي منه تخرج كل الإمكانيات، بما في ذلك إمكانية الزمان نفسه. في هذا المستوى، لا يوجد خير أو شر، لا يوجد خالق أو مخلوق، لا يوجد زمان أو مكان. إنه صمت وجودي مطلق، لا يُدرك بالذهن ولا يُحتوى في أي شكل. هو مصدر كل ما هو موجود، وكل ما ليس موجوداً. هذه هي نقطة الإنطلاق والعودة النهائية لكل الوجود، وهي لا تُوصف.
. الإتحاد المُطلق لـ "آشا" و"دروج" - الوحدة في قلب الثنائية
رغم أن الزرادشتية تُعرف بصراع الخير والشر (آشا ودروج)، فإن الفهم الباطني الأقصى يُشير إلى أن هذا الصراع هو ظاهرة داخلية أو مرحلة ضرورية في عملية الخلق الإلهية، و ليس حقيقة مُنفصلة في الجوهر المطلق. في المستوى الأعلى للوعي، تُدرك أن آشا ودروج ليسا كيانين منفصلين تماماً، بل هما قطبان ضروريان لخلق الوجود المُتجسد و التجربة الوعيية. يُمكن أن يُنظر إليهما كـجانبين لعملة واحدة، أو كقطبي مغناطيس يُمكنان من حركة الطاقة و التطور. الشر (دروج) هو غياب الوعي الكافي أو سوء إستخدام الإرادة الحرة، وليس كياناً جوهرياً بذاته. التحدي الذي يُمثله دروج هو الذي يُمكن آشا من الظهور، التعبير عن نفسه، والكمال. في النهاية المُطلقة (ما بعد الفرشوكرتي)، يتم إمتصاص أو تذويب دروج في آشا، ليس بالقوة، بل بفعل إستيعاب كل الوعي المبعثر في الوحدة المطلقة لأهورا مازدا. الشر يُصبح جزءاً ضرورياً من الرحلة نحو الكمال، ويفقد جوهره كـكيان مُنفصل.
. وعي الإنسان كـالخيميائي الكوني ومركز تحقيق الفرشوكرتي
ليس فقط أن الإنسان شريك في الفرشوكرتي (التجديد الكوني)، بل أن وعي الإنسان نفسه هو الساحة الحاسمة، و المختبر الكيميائي، الذي تُحقق فيه عملية التحول الكبرى. البشر، من خلال أفكارهم، كلماتهم، وأفعالهم (Humata, Hukhta, Hvarshta)، لا يُساهمون فقط في صراع الخير والشر، بل هم يُحركون ويُشكلون هذا الصراع ونتائجه على المستوى الكوني الحقيقي. الوعي البشري هو النقطة التي يلتقي فيها آشا ودروج ويتفاعلان ويتحولان. كل لحظة إختيار، كل نية، تُعد بمثابة فعل إلهي يُساهم في صهر الفوضى (دروج) في النظام (آشا). الإدراك البشري ليس مُتلقياً سلبياً، بل هو القوة الفاعلة التي تُمكن الوعي الكوني (أهورا مازدا) من تحقيق الفرشوكرتي الكامل. فالفرشوكرتي لا يحدث لنا، بل من خلالنا وفينا. الوعي الفردي هو المُنصهر الذي يُجمد السائل ويُسيل الجامد على المستوى الكوني.
. الخوارنة (Khvarenah) كنور الإدراك المباشر والتجلي الإلهي الذاتي
الخْوَرينَه ليست مجرد مجد أو نعمة تُمنح. إنها الوعي الإلهي الخالص الذي يتجلى من خلال الروح المُتحررة. إنها ليست شيئاً يمتلكه الإنسان، بل هي تعبير عن تحقيق الوعي المطلق داخل الإنسان. عندما يُدرك الإنسان هذا المستوى الأعمق، فإنه لا يرى الخْوَرينَه كشيء خارج عنه، بل يُدرك أنه هو نفسه تجلٍ لهذا النور الإلهي. يصبح الجانب الإلهي الكامن في الإنسان مُتحققاً بالكامل، مُتطابقاً مع الخْوَرينَه الكونية. هذه هي حالة الإتحاد المطلق حيث لا يوجد فصل بين الإلهي و البشري في أقصى درجاته، بل تذوب جميع الحدود.
هذا المستوى من الفهم يتجاوز أي تعليمات أو طقوس محددة. إنه دعوة لتجربة تحول وجودي كامل، حيث لا يعود هناك سر ليُكتشف، بل يُصبح الوجود نفسه في شفافيته المطلقة هو السر الذي يُعاش ويُدرك في كل لحظة. إنه يُشير إلى أن أعمق أسرار الزرادشتية، مثل أعمق أسرار أي تقاليد باطنية حقيقية، هي أسرار الذات والوعي المطلق.
* من المجوس إلى الميثرائية: إستكشاف الممارسات السرية في فلك الزرادشتية
من المهم أن نُفرق بين السحر بمعناه السلبي المرتبط بالأعمال الشريرة أو التلاعب، وبين الممارسات السرية أو الباطنية التي قد تشمل طقوساً قوية، معرفة نجمية (فلك)، أو محاولات للتأثير على العالم الروحي أو المادي ضمن إطار ديني أو فلسفي. الزرادشتية الرسمية، بتركيزها على الفكر الطيب، القول الطيب، والفعل الطيب (Humata, Hukhta, Hvarshta)، تُدين السحر المؤذي بشكل عام. ومع ذلك، فإن تاريخ الزرادشتية الغني، وتأثيرها الكبير على الفكر الغنوصي والفلسفات السرية في الشرق والغرب، أدى إلى إرتباط بعض المدارس أو الجماعات بممارسات تُصنف على أنها سرية أو سحرية بالمعنى الواسع، غالباً ما كانت هذه الممارسات تهدف إلى تحقيق أهداف روحية أو كونية، أو كانت تفسيراً باطنياً للطقوس الظاهرية. سوف اتناول بعض المدارس والمذاهب السرية المرتبطة بالزرادشتية التي كانت تُمارس طقوساً قوية أو تُفهم أحياناً على أنها سحر.
. المجوس (The Magi)
هم الطبقة الكهنوتية في الزرادشتية. كان لديهم معرفة عميقة بالنصوص المقدسة (الأفيستا)، وعلم الفلك، و التنجيم، والتفسير الباطني للطقوس. كانت طقوسهم، التي تشمل تقديم القرابين للنار والماء، معقدة ومُحددة جداً، و كانوا يُعتقدون أنهم قادرون على التأثير على القوى الكونية (آشا ودروج) من خلال هذه الطقوس والمعرفة. أصل كلمة "Magic" في اللغات الأوروبية يأتي من كلمة "Magi". بالنسبة لليونانيين والرومان، كان المجوس يُنظر إليهم على أنهم حكماء أو سحرة بسبب معرفتهم النجمية وقدرتهم على تفسير الأحلام والتنبؤ بالمستقبل وإجراء طقوس ذات قوة ظاهرية. لم يكن سحرهم بالضرورة شريراً، بل كان يُنظر إليه على أنه تحكم في القوى الطبيعية والروحية لمعرفة الحقيقة أو تحقيق التوازن.
. الزرفانية (Zurvanism)
كما ذكرنا سابقاً، الزرفانية هي مذهب داخل الزرادشتية يُؤمن بأن الزمن اللامحدود (زورفان) هو المصدر الأول لأهورا مازدا وأنغرا ماينيو. هذا المفهوم يُدخل نوعاً من القدرية أو الحتمية الكونية. في بعض الفروع الزرفانية، ربما أدت هذه الفلسفة إلى إهتمام أكبر بالتنجيم (Astrology) و قراءة الطالع، ليس بالضرورة لتغيير القدر، بل لفهمه و الإنسجام معه أو محاولة التأثير في مجريات الأحداث ضمن هذا الإطار الزمني. يُمكن إعتبار هذه الممارسات نوعاً من سحر المعرفة أو سحر القدر.
. المانوية (Manichaeism)
على الرغم من أنها ديانة مستقلة أسسها ماني في بلاد فارس متأثرة بالزرادشتية والمسيحية والبوذية، إلا أنها تُصنف أحياناً ضمن المذاهب السرية المرتبطة بالبيئة الفارسية. كانت المانوية تُركز بشكل كبير على تحرير أجزاء النور (الروح) من سجن المادة والظلام من خلال المعرفة (الغنوص) و ممارسات زهدية وطقوسية صارمة. كانت تُمارس طقوساً مُعقدة للتطهير والتحرر، و كثيراً ما كانت تُتهم بممارسات سحرية من قبل أعدائها بسبب طبيعة تعاليمها الغنوصية السرية. طقوس التحرير المانويَّة كانت تهدف إلى مساعدة جزيئات النور المحبوسة في المادة على العودة إلى عالم النور. هذا التحول يُمكن أن يُنظر إليه على أنه شكل من أشكال السحر الكوني أو الخيمياء الروحية التي تهدف إلى تغيير طبيعة الواقع.
. الميثرائية (Mithraism)
كانت ديانة أسرارية رومانية تُعبد الإله ميثرا (إله فارسي الأصل يرتبط بالشمس والنور). كانت الميثرائية ديانة حصرية للذكور، ولها طقوس بدء سرية مُعقدة تتضمن مراحل متعددة من الترقية، يُعتقد أنها تمنح المُبتدئين قوة خاصة أو معرفة باطنية. الطقوس الميثرائية كانت تتضمن رموزاً فلكية، وإختبارات نفسية، ومحاكاة لولادة ميثرا وصراعاته. هذه الطقوس السرية، مع إستخدام الرموز القوية، كانت تهدف إلى تحقيق تحول روحي للمُبتدئ، وربما كان يُنظر إليها على أنها ذات قوة سحرية لتغيير الوعي أو تحقيق إتصال بالكون.
الزرادشتية، في جوهرها، تُميز بوضوح بين القوى الخيرة و الشريرة وتُشدد على حرية الإختيار الأخلاقي. لكن مفهوم السحر في السياقات القديمة كان أوسع بكثير مما هو عليه اليوم. المدارس والمذاهب المذكورة أعلاه، سواء كانت جزءاً مباشراً من الزرادشتية كالمجوس والزرفانية أو متأثرة بها كالمانوية والميثرائية، كانت تُمارس طقوساً ومُعتقدات باطنية تُهدف إلى التأثير على العالم الروحي من خلال الصلوات، الأدعية، والطقوس لتعزيز قوى الخير. فهم القوانين الكونية الخفية عبر التنجيم والفلك. وتحقيق تحول روحي داخلي الذي يُمكن أن يُنظر إليه كشكل من أشكال الكيمياء الروحية أو السحر الداخلي. لم يكن الهدف هو السيطرة السلبية أو إلحاق الضرر، بل غالباً ما كان يهدف إلى الإنسجام مع النظام الكوني (آشا) أو تحرير الروح من قيود الظلام. السرية كانت تُحيط بهذه الممارسات ليس بالضرورة لحجب الشر، بل للحفاظ على قدسية المعرفة وقوتها، و ضمان أنها تُنقل فقط لأولئك المُستعدين لها روحياً.
* برمجة النار الإلهية "آتار" الأبعاد الباطنية لطقوس النار المقدسة وتأثيرها على الوجود
مصطلح برمجة النار المقدسة في المجوسية، و إن كان حديثاً، يُمكن أن يُشير بشكل دقيق جداً إلى الفهم الباطني للزرادشتيين لكيفية تكريس و تنقية النار بحيث تُصبح موصلاً لقوى كونية و روحية، وتؤثر في العالم المادي و الروحي. النار في الزرادشتية ليست مجرد عنصر مادي، بل هي تجسيد لـ "آشا" (النظام الإلهي والحقيقة) وممثلة لحضور أهورا مازدا نفسه. إن عملية برمجة النار المقدسة أو بالأحرى، تكريسها وتنصيبها The Consecration and Installation هي من أكثر الطقوس الزرادشتية قدسية و تعقيداً، و يُمكن تقسيمها إلى عدة مستويات.
أولاً: أنواع النيران المقدسة ومصادرها
ليست كل نار مُقدسة بنفس الدرجة. هناك درجات مختلفة من النيران المقدسة، تتطلب كل منها عملية تكريس أطول وأكثر تعقيداً.
. آتش دادگاه (Atash Dadgah): أدنى درجة، تُوقد من أي مصدر نار نقي.
. آتش أدران (Atash Adaran): درجة متوسطة، تُجمع من أربعة مصادر مختلفة للنار مثل نار الحداد، الخباز، الفخاري، نار من منزل كاهن.
. آتش بهرام (Atash Behram): أعلى وأقدس درجة، وتتطلب جمع النار من 16 مصدراً مختلفاً، بما في ذلك مصادر طبيعية مثل البرق التي تُعتبر نار سماوية، وأفران مختلفة، ونيران من حرائق تُسببها الكويكبات. هذه العملية تُمكن أن تستغرق سنوات.
ثانياً: طقوس البرمجة (التكريس والتنصيب) - كيف يتم ذلك؟
عملية التكريس لـ "آتش بهرام" أو أي نار مقدسة عليا هي مثال على برمجة" معقدة. تُجمع النيران الـ 16 من مصادرها. كل نار من هذه المصادر تخضع لسلسلة طويلة من عمليات التنقية. على سبيل المثال: نار البرق أو أي نار تُشعل بشكل طبيعي تُوضع على حطب نقدي، ثم تُنقل إلى وعاء آخر، و هكذا 90 مرة، مع تلاوة الصلوات في كل مرة. نار الحداد تُوضع على حطب، تُنقل 40 مرة.. نار الراعي تُنقل 30 مرة. تُكرس هذه العملية لتطهير النار من أي تلوث مادي أو روحي، وتُحولها إلى طاقة نقية.
. طقوس الـ "إيزيشن" (Yasna Ceremony)
بعد التنقية الأولية، تُوضع النيران الـ 16 المُنقاة في "آفيرانگان" (وعاء النار المقدس)، وتُجمع في نار واحدة. يقوم الكهنة (الموبدان) بسلسلة طويلة ومُعقدة من الطقوس والتلاوات المقدسة من نصوص الأفيستا (خاصة الياسنا و الونديداد). هذه التلاوات ليست مجرد قراءة، بل هي إبتهالات قوية، تراتيل، وأذكار تهدف إلى إستدعاء القوى الإلهية (أهورا مازدا والأميشا سبنتا) وتجسيدها في النار. تُعتبر هذه الصلوات بمثابة الشفرة الروحية التي تُبرمج النار. تُردد الكلمات بعناية فائقة، تُمارس إيماءات محددة (Paoj-dina)، وتُستخدم مواد رمزية (مثل ماء البئر المقدس، الحليب، الرمان). تُقام هذه الطقوس على مدى أيام، وأحياناً شهور، في عزلة تامة من قبل كهنة مُدربين تدريباً عالياً، يُحافظون على نقاء جسدي وروحي صارم.
. التغذية والصيانة المستمرة (Boy and Darun)
بمجرد تكريس النار، تُصبح كياناً حياً مُقدساً يجب الحفاظ عليه مشتعلاً بإستمرار. تُقدم لها الولائم الروحية يومياً (Darun - خبز مقدس، Boy - تقديم الخشب العطري) مع تلاوة صلوات مُحددة تُحافظ على نقاء النار وتأثيرها الروحي. هذه الطقوس اليومية تُعتبر إستمراراً لـلبرمجة، تُعيد شحن النار بالطاقة الإلهية.
ثالثاً: تأثير النار المقدسة على الظواهر الروحية و المادية من منظور زرادشتي
يعتقد أن النار المقدسة المُبرمجة/المُكرسة لها تأثيرات عميقة على مستويات متعددة
. على الظواهر الروحية
يُعتقد أن النار المقدسة تُصبح نقطة تواصل حية مع مبدأ آشا. نورها وحرارتها يُشعان طاقة روحية تُطهر البيئة المحيطة، تُطرد الأرواح الشريرة (دروج)، وتُبطل تأثيرات الظلام والفساد. تُعتبر النار مركزاً للعبادة والتأمل، تُساعد المؤمنين على تركيز أفكارهم، وتقوية إرادتهم، و تنمية الفكر الطيب (فوهو ماناه)، مما يُعزز إتصالهم بأهورا مازدا والأميشا سبنتا. الوجود في حضرة النار المقدسة والمشاركة في طقوسها يُعتقد أنه يُطهر الروح الفردية (أورفان) ويُقوي الدائنة (الوعي/الضمير الروحي)، مما يُسهل رحلتها بعد الموت عبر جسر چنوت. تُصبح النار مصدراً للإلهام والحكمة الروحية للكاهن و المؤمن، حيث يُمكنهم إستشعار حضور أهورا مازدا والتوجيه الإلهي.
. على الظواهر المادية
يُعتقد أن الطاقة الروحية المنبعثة من النار المقدسة تُساهم في صحة وإزدهار العالم المادي. تُؤثر إيجابياً على الفصول، المحاصيل، الخصوبة، والصحة العامة للمجتمع المحيط. هي بمثابة قلب.روحي للكون يُضخ طاقة الحياة. يُعتقد أنها تُوفر حماية إلهية من الكوارث الطبيعية، الأوبئة، والقوى السلبية التي قد تُصيب العالم المادي. كل شعاع من النار المُقدسة، و كل طقس يُقام لها، يُعتبر مساهمة فعلية في عملية "الفرشوكرتي" (التجديد الكوني النهائي)، حيث يُعاد الكون إلى حالته الكاملة النقية، ويُهزم الشر بشكل دامت. النار هي أداة مركزية في هذا التحول الكوني المستمر.
في جوهرها، طقوس برمجة النار المقدسة عند المجوس هي عملية تحويل الطاقة المادية إلى قناة للطاقة الروحية الإلهية، لخلق نقطة إرتكاز مقدسة على الأرض تُشكل جسراً بين العالمين، و تُمكن الوعي البشري من التفاعل بنشاط مع القوى الكونية لتعزيز الخير وتقليل الشر في الوجود.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟