حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8432 - 2025 / 8 / 12 - 18:18
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يا لَحيرةِ العربيِّ! يا لصرخةِ الكنمبريِّ الخفيّةِ بينَ كفّيهِ! أوتارٌ شُدَّتْ بـأملٍ كفجرٍ ينبثقُ من رحمِ الليلِ، فما لبثتْ أن خانها الوصالُ، عادتْ إلى وهنٍ كشمسٍ تودّعُ الأفقَ بغروبٍ حزينٍ. كأنّ سرًّا قديمًا يسكنُ أعماقَها، يأبى عليها الطربَ، يُعاندُ كلَّ وترٍ شُدَّ بإصرارٍ.
أسبوعٌ كاملٌ إنقضى، من سبتٍ تلاهُ سبتٌ آخرُ، يدورُ الزمانُ ولا تتوقفُ حيرةُ العازفِ. كلَّ صباحٍ يحملُ العربيُّ الكنمبري كجنديٍّ قديمٍ يحملُ سيفَهُ الصدئَ إلى معركةٍ يعلمُ أنها خاسرةٌ، يشدُّ أوتارَ الكنمبريِّ بيدينِ ترتجفانِ شوقًا إلى لحنٍ مفقودٍ. لكنَّ اللحنَ يظلُّ شبحًا لا يظهرُ، والأوتارَ تُعلنُ عصيانًا مدويًا، صدىً لحلمٍ جميلٍ تكسّرَ على صخرةِ الواقعِ الأليمِ.
كأنما الكنمبريُّ روحٌ ضاربةٌ في عمقِ القدمِ، هائمةٌ في أثيرِ الكونِ الواسعِ، أبتْ إلا أن تكونَ حرّةً طليقةً، لا ترضخُ لقيدٍ يكبِّلُها أو شدٍّ يقيّدُ حريّتها. تتمردُ على كلِّ لحنٍ يزعمُ إمتلاكها. عبثًا حاولَ العربيُّ ترويضَ جموحِها، فآستعانَ بخيوطٍ من أمعاءِ التيسِ، ظنًّا منه أنها ستحفظُ الوصالَ، كأنما خيطٌ واهنٌ، ينسجُهُ البشرُ، يستطيعُ أن يربطَ روحًا أبيةً تسكنُها قداسةُ الصلودِ. لكنَّ هيهاتَ! الأوتارُ أبَتْ إلا أن تعودَ إلى فطرتِها الأولى، ترتخي كـدموعٍ حارقةٍ تتساقطُ على خدِّ الصمتِ، تروي حكايةَ يأسٍ تغلغلَ في الروحِ حتى تجمّدَ.
والعربيُّ، في حيرتِه تلك، كأسيرٍ بينَ يديْ سحرٍ غامضٍ لا يرى له فكاكًا، كأنه تائهٌ في متاهةٍ من الصدى. أناملُهُ التي راقصتْ اللحنَ يومًا كفراشاتٍ ذهبيّةٍ على أزهارٍ متفتحةٍ، باتتْ ترتجفُ عجزًا وضعفًا. وقلبُهُ الذي تغنّى بالطربِ ذاتَ مساءٍ كعصفورٍ شجيٍّ يملأُ الفضاءَ شدوًا، باتَ ينوحُ الآنَ على وترٍ أبَى أن يستقيمَ، كجناحٍ مكسورٍ. فهل يرضخُ العربيُّ لقدرِ الكنمبريِّ، ويتركُهُ يغفو إلى الأبدِ على لحنِ الصمتِ الأبديِّ؟ أم يظلُّ يصارعُ الأوتارَ بصبرِ المحاربِ العنيدِ، حتى ينبعثَ منها لحنٌ يسكنُ الروحَ، لحنٌ يُعانقُ فضاءَ الوجودِ كلّه، ويُخبرُ عن قصةِ صراعٍ أبديٍّ، بينَ إرادةِ العازفِ التي لا تلينُ، وروحِ الآلةِ التي تأبى إلا حريتها المطلقةَ، كصوتِ رياحٍ لا تقيدها حدودٌ؟
كان يومَ جمعةٍ لا ككلّ الأيامِ، ففيهِ تهيّأتْ الأقدارُ لموعدٍ إنتظرهُ القلبُ بلهفةٍ وشوقٍ. حطّتْ مركبةٌ إستثنائيةٌ، ليستْ مجردَ سيارةٍ عابرةٍ، بل سفينةٌ أرضيةٌ قُدّرتْ خصيصًا لتحملَ العربيّ ورفاقَ دربِهِ، إلى حيثُ تتسامى الروحُ وتتجلّى العظمةُ. إتجهتْ بهم نحو الذُرى الشاهقةِ، قممِ الجبالِ التي تتوجُّ الأرضَ كتيجانِ العزِّ، تعانقُ الغيمَ وتلامسُ أديمَ الفضاءِ، وكأنها جسرٌ بينَ الأرضِ والسماءِ.
هناكَ، حيثُ تلتفُّ الغاباتُ الكثيفةُ، أشجارُها متشابكةٌ كأضلاعِ قلبٍ ينبضُ بالحياةِ، تمتدُّ على مدِّ البصرِ اللامتناهي، تُشكلُ بساطًا أخضرَ يزدانُ بدرجاتِ الظلِّ والنورِ، يُنسيكَ حدودَ الزمانِ و المكانِ. يتنفسُ المكانُ سكونًا عميقًا، لا يكسرهُ سوى حفيفُ الرياحِ الرقيقةِ التي تُداعبُ الأغصانَ، فتُنشِدُ سمفونيةً طبيعيةً عذبةً، تهمسُ بأسرارِ الكونِ وتُوقظُ في النفسِ إحساسًا بالجمالِ الأبديِّ والسكينةِ المطلقةِ. في هذا المحضنِ البِكرِ، تبدأُ رحلةٌ من نوعٍ آخرَ، رحلةٌ تُلامسُ الروحَ و تُسافرُ بالخيالِ إلى عوالمَ من البهاءِ والدهشةِ.
على عتباتِ يومِ جمعةٍ، تفتّحتْ أزاهيرُ الأملِ في فؤادِ العربيِّ، مُتيقنًا أنَّ حضورهُ ليسَ سوى نغمةٍ ساحرةٍ، قيثارةٍ تعزفُ ألحانَ الفرحِ السرمديِّ، لتُسكبَ في رياضِ قلبِ صاحبِ هذهِ الليلةِ البهيجةِ، وفي كلِّ نفسٍ تترقبُ إبتهاجًا.
فإذا بالأبوابِ الذهبيةِ تنفتحُ، لا لتكشفَ عن مجردِ مدخلٍ، بل عن عالمٍ من العزِّ والجاهِ. إستُقبلوا في رحابِ قصرِ السيدِ بوجمعةَ، صرحٍ يَتّسعُ فيهِ الفضاءُ ليعانقَ البهاءَ، كلُّ حجرٍ فيهِ يروي قصةَ فخامةٍ عتيقةٍ، وكلُّ ركنٍ ينطقُ بلغةِ الثراءِ الذي لا يُضاهى. بدتْ عظمةُ هذا القصرِ أشدَّ سطوعًا، و جمالُهُ أعمقَ أثرًا من أيِّ صرحٍ سبقَهُ، وكأنهُ تُوّجَ ملكًا على عروشِ الأبهةِ، مُعلنًا سيادتهُ المطلقةَ على زمنِ الجمالِ.
في قلبِ هذا الصرحِ الذي يتنفسُ التاريخَ، و يُعانقُ الأساطيرَ، كانَ جاكوبُ شامخًا كشجرةِ بلوطٍ معمرةٍ، وإلى جوارِهِ اليهوديُ، صاحبُ القصرِ، الذي تتجلى فيهِ الكاريزما كشعلةٍ من الحكمةِ والوقارِ، تُلقي بظلالِ الهيبةِ على كلِّ مَنْ يلجُ عتباتِهِ، فتُبهرُ العقولَ وتأسرُ الأبصارَ. وقد إلتفّتْ حولهم كوكبةٌ من وجهاءِ اليهودِ، تبدو عليهم أماراتُ الثراءِ المفرطِ، كأنَّ الذهبَ قد نسجَ خيوطَهُ حولَ جباهِهم وأياديهم، يفيضونَ بهاءً يخطفُ الأنفاسَ، وتُشعُّ منهم هالةٌ من الغنى تفوقُ الخيالَ، في مشهدٍ يجمعُ بينَ عبقِ التاريخِ وفخامةِ الحاضرِ، ويُسدلُ الستارَ على لحظةٍ خالدةٍ تُرسخُ في الذاكرةِ كجوهرةٍ لا تُقدرُ بثمنٍ.
في لجةِ الترقبِ، شقَّ صوتُ العربيِّ سكونَ الأجواءِ، كشذى عطرٍ يمتدُّ في الفضاءِ:
كْناوة!.
إهتزَّتْ أرواحُ الصنوجِ في كبدِها، في أوجِ تأهُّبٍ وإستعدادٍ، كأنها خيولٌ عربيةٌ أصيلةٌ تستحثُّها صيحةُ الفارسِ. إنطلقتْ تتراقصُ نحوهُ، في حفيفٍ وشوشةٍ، ثمَّ شرعتْ في دقِّ إيقاعِها الساحرِ، كأنها تقولُ بلسانِ حالٍ مبينٍ: ها نحنُ ذا، على أهبةِ الإستعدادِ، لنسكبَ أرواحَنا بينَ يديكَ.
تسللتْ أناملُ العربيِّ الرقيقةُ، كأنها نسمةُ فجرٍ، لتلامسَ أوتارَ الكنَمْبرِي. أحدثَ الضربةَ الأولى، تلكَ الضربةُ التي تُفْتَحُ بها أبوابُ الروحِ، وتُشْرَقُ منها شموسُ الأنغامِ. لكن لا شيءَ. صمتٌ مُطبقٌ، ثقيلٌ، كأنَّ الكونُ قدْ إبتلعَ الصوتَ، أو كأنَّ النغمَ قدْ خرسَ في أعماقِهِ.
أعادَ الضربةَ الثانيةَ، بقلبٍ يرتعشُ بينَ الأملِ و الخيبةِ، لكنْ هيهاتَ! لقدْ أصيبَ الكنَمْبرِي بصَمَمٍ مفاجئٍ، كأنما سُحِرَ، كأنَّ روحَهُ قدْ غادرتْهُ فجأةً، أو كأنَّهُ قررَ التوقفَ عنِ الصدحِ بالنغمِ، معلنًا عصيانًا مبهمًا على سيدِهِ. تجمدتِ العيونُ، تسمَّرتِ الأجسادُ، في مشهدٍ سرياليٍّ قاسٍ، الكلُّ يشاهدُ ذاكَ الموقفَ العصيبَ، حيثُ خفتتْ أضواءُ الفرحِ وحلَّ الظلامُ.
تلقَّفَ العربيُّ الحرجَ كصفعةٍ باردةٍ على وجهِ الروحِ. نالَ منهُ الدورانُ، كأنما الأرضُ قدْ دارتْ بهِ دورتينِ، وأصابهُ الذهولُ، فلمْ يقوَ على فهمِ أيِّ شيءٍ. تاهَ في متاهةٍ من التساؤلاتِ المُرَّةِ، بينَ صدمةِ الصمتِ وقسوةِ الموقفِ. بقيَ الصمتُ سيدًا للمشهدِ، ينسجُ حكايةَ الدهشةِ، ويثيرُ ألفَ سؤالٍ وسؤالٍ في الأرواحِ العطشى للنغمِ.
بوجمعةُ أقبلَ، كشفقٍ يحملُ سؤالًا، هامسًا للروحِ:
ماذا دهاكَ يا معلمُ؟ أيُّ خطبٍ حلَّ بكَ؟
ردَّ العربيُّ بصوتٍ ينهكهُ الصمتُ، كأنهُ صدى لوجعٍ:
لا شيءَ يا سيدي، لا شيءَ،
غيرَ أنَّ الكنمبريَّ، كما ترى، قد أصابَهُ الخرسُ، أبى أنْ يصدحَ.
ركعَ بوجمعةُ على ركبتيهِ، وعيناهُ غارقتانِ في بحرِ الدهشةِ،
عجزَ عن إدراكِ سرِّ ما حدثَ، تاهَ بينَ دهشةِ الواقعِ وغرابةِ الموقفِ.
ثمَّ أتى جاكوبُ، وسؤالُهُ يمزقُ هدوءَ المكانِ:
ماذا أصابَكَ يا معلمُ؟ أيُّ بلاءٍ حلَّ؟
لكنَّ العربيَّ لمْ يزدْ على نظرةٍ صامتةٍ، أبلغَ من ألفِ جوابٍ.
عندها، إنبعثَ صوتُ صاحبِ القصرِ، كالقدرِ المحتومِ:
هذا الكنمبريُّ، يا قومُ، أُحضرْتُهُ الأسبوعَ الماضي، في ليلةٍ كناويةٍ هزَّتْ أركانَ الوجودِ،
حينَ حرَّكتْ أنغامُهُ أرواحَ السبتيينَ، فأضحتْ تهفو إليهِ،
عشقوهُ، كعشقِ الروحِ لجسدها، تعلقوا بهِ كلَّ التعلقِ.
لكنَّهُ الآنَ، قدْ باتَ محرّمًا عليهِ أنْ يدخلَ محلتَهُم، أصبحَ منفيًّا منْ جنَّتِهِم، مبعدًا عنْ فردوسِهمُ الموسيقيِّ.
يا بني، أعدِ الوديعةَ المقدسةَ إلى أهلها، فقدْ قُضيَ الأمرُ، آذهبوا الآنَ.
رحمَ اللهُ والديكَ، على تلكَ الليلةِ الكناويةِ التي أكرمتْني بها، بتلكَ النغماتِ الفريدةِ التي تدفقتْ منْ هذا الكنمبريِّ العجيبِ.
لكنْ، ساعتهُ لمْ تعدْ في يدِ السبتيينَ، هذا ما قدرَ اللهُ، والقدرُ لا يُردُّ، إنتهى الأمرُ، والنغمُ قدْ غادرَ موطِنَهُ إلى الأبدِ.
لمْ تستوعبْ روحُ العربيِّ كلماتِ الرجلِ، ذاكَ الذي سكبَ عليهِ النغمَ أسبوعًا مضى، وأسعدَ روحَهُ بالجذبِ حتى الثمالةِ. كيفَ لِـلكنَمْبرِيِّ أنْ يُحرمَ منْ عزفِ الأغنياتِ التي خُلقتْ لأرواحِ الجنِّ اليهودِ؟ وكيفَ للقدرِ أنْ ينقلبَ، ويُطلبَ منهُ إعادةُ رفيقِ روحهِ، الذي باتَ جزءًا منْ كيانهِ، لأصحابٍ لمْ يعرفْهمُ القلبُ إلا عبرَ نغمٍ خفتَ؟ غادرَ العربيُّ المكانَ، وقدْ أضحتِ الدروبُ تحتَ قدميهِ لا تحملُهُ، بلْ صارتْ فضاءً واسعًا لخيالاتٍ مُبعثرةٍ و أسئلةٍ لا تملكُ جوابًا، تلسعُ وجدانَهُ كجمرٍ خفيٍّ. عيناهُ لا تفارقانِ الكنَمْبرِيَّ خاصتهُ، ذاكَ الصديقُ الوفيُّ الذي أصابَهُ الخرسُ فجأةً، وأبى النطقَ، تاركًا إياه وحيدًا في لجَّةِ الصمتِ المخيفةِ التي إبتلعتْ كلَّ لحنٍ.
في ليلٍ أثقلتهُ قرونٌ من العدم، حيثُ تجمدتْ الساعاتُ دهراً من العذابِ، كان العربيُّ يستنطقُ الكنمبَري، يمدُّ إليهِ كفَّ الروحِ العارية، يرجو منهُ لمسةَ نغمٍ خفيّةٍ تداوي جرحَ الدهورِ في جوفِهِ. لكنَّ الوترَ، كقدرٍ أعمى، أبى. إمتنعَ إمتناعاً كليّاً عن أنْ يهبَ روحاً للحنٍ، وكأنما روحُه قد غادرتْهُ بلا عودة، أو أنَّ لعنةً قديمةً، ضاربةً في عمقِ الأزمنة، حلتْ به.
في لحظةٍ إنكسرتْ فيها حواجزُ الصبرِ، إجتاحَ اليأسُ قلبَ العربيِّ، كوحشٍ كاسرٍ كادَ أنْ يفتكَ بهِ. إرتفعَ الكنمبَريُّ في يدهِ، شعلةً من الألمِ، أرادَ أنْ يلقيهِ أرضاً بقوةٍ، أنْ ينهيَ ذاك الرمزَ الخالدَ لخيبتهِ الكبرى التي مزّقتْ أحلامَهُ كأوراقِ الخريفِ. لكنَّ يدَهُ عجزتْ، تراجعتْ في اللحظةِ الأخيرةِ، كأنَّ قوةً خفيةً، كقبضةِ القدرِ، قد منعتْهُ، لتُبقيَ على أملٍ واهنٍ، يتراقصُ على حافةِ العدمِ، خيطاً رفيعاً يربطُهُ بالحياة.
في نهايةِ هذا الليلِ الموغلِ في الظلمةِ، لم يجدِ العربيُّ سوى أنْ يُعَانقَ الكنمبَريَ. عناقَ حزينٍ لرفيقِ دربٍ خانهُ صوتهُ، عناقَ روحٍ يائسةٍ لقلبٍ خرسَ في أوجِ الألمِ. ليلةٌ سكنتها الأشباحُ وأنينُ النغمِ الغائبِ الذي صارَ صدىً لمرارةِ الكونِ الأبديّ، لوعةً تترددُ في فضاءِ الروحِ الخاويةِ.
في غيهبِ الليلِ، حيثُ الأرواحُ تسبحُ في ملكوتِ الميالِ، و حيثُ الزمنُ ينحني أمامَ عظمةِ الغيبِ، تجلَّى لعينِ العربيِّ بهاءٌ فاقَ كلَّ تصورٍ بشريٍّ. خمسةٌ من النورِ تجسَّدوا، كأنهم قبسٌ من ضياءِ الأزلِ، تُغطّيهم حللٌ ملكوتيةٌ نُسجتْ من خيوطِ الجمالِ الربانيّ.
أرواحُهم صبغتْها الطهارةُ المطلقةُ، كنقاءِ قطرةِ الندى الأولى على وريقاتِ الفجرِ، وآرتدوا ملابسَ أهلِ الحضرةِ الربانيةِ، التي تزهو في سماءِ الوجدانِ كالزهرِ المتفتّحِ. منهمْ من تألّقَ بالأبيضِ، كغيمةٍ من طُهرٍ لا تدركهُ الأبصارُ، ومنهمْ من اشرقَ بالأخضرِ، كروضٍ سرمديٍّ مسكوبِ العطرِ، يفوحُ بعبقِ الجنةِ. وجوهُهم تشعُّ نوراً يتخلّلُ الروحَ، وهالاتُهم تسطعُ بضياءٍ قدسيٍّ لا يُحصَرُ، كأنها شموسٌ أزليةٌ لا تغيبُ.
تقدمَ أحدهم، من كانَ في المنتصفِ، بوقارٍ ربانيٍّ يملأُ المكانَ مهابةً. عمامةٌ كبرى تزيّنُ رأسهُ، تحملُ في طياتها جلالاً يفوقُ الوصفَ البشريَّ. يرتدي بلغةً نقيةً جداً، كأنها من نورٍ سرمديٍّ مقيمٍ، و لحيتُه بيضاءُ كثيفةٌ وطويلةٌ، تنسابُ كشلالٍ من بردٍ قديمٍ، يحملُ حكمةَ الدهورِ. إقتربَ من العربيِّ، وصوتُه ينسابُ كخيطٍ من نورٍ، يحملُ سرَّ الكونِ الأزلِ، يترددُ صداه في أروقةِ الروحِ، فيخفقُ القلبُ من الرهبةِ والأملِ.
مرحباً بكَ يا بُنيَّ العربيُّ!
مرحباً بكَ عندَ الشرفاءِ الأُصُلِ،
يا من حملتَ في قلبكَ نبضَ الروحِ.
أتيناكَ من الزاويةِ،
نحنُ أبناءُ بابِ اللهِ،
بوهالةَ الأوفياءُ، الذينَ لا يرتضيِهم إلا الحقُّ.
كلُّنا شرفاءُ،
جئناكَ على طهارةٍ وصيامٍ،
لا يحملُنا زللٌ، ولا يشوبُنا نقصٌ.
نريدُ أنْ نزفَّ لكَ البشرى، وهيَ في غايةِ الأهميةِ القصوى، لا تحتملُ التأجيلَ ولا المَلَلَ.
إنها البشرى الأخيرةُ، يا بنيَّ، فآستمعْ جيداً، و آجعلْ قلبكَ وعاءً لما سأقولُهُ، ولا تدعِ النُّذُلَ تشوبُ سمعكَ.
يتبع......
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟