أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الْكِمُبْرِئ -الْجُزْءُ الْعَاشِر-















المزيد.....

الْكِمُبْرِئ -الْجُزْءُ الْعَاشِر-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8432 - 2025 / 8 / 12 - 21:18
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في لجةِ المنامِ، حيثُ تُنصَبُ خيامُ الأثيرِ، وتُرمى ستارُ الواقعِ المعهودِ، رأى العربيُّ ما شقَّ نياطَ الفؤادِ وزعزعَ أوتادَ الروحِ. إنبلجتِ الدهشةُ من أقصى غياهبِ صدرهِ، كصاعقةٍ تُوقِظُ بركاناً من سباتِ الألفِ عامٍ، فآرتفعَ صوتُهُ في ذلكَ الفضاءِ المُعتمِ بالرؤى، صرخةً تُدوي:
ماذا تريدون؟
أيُّ طيفٍ هذا الذي إقتحمَ حصونَ نومي، وبعثرَ نجومَ سكينةِ روحي كَذراتِ غبارٍ في مهبِّ الريحِ العاتية؟
فجاءهُ صوتٌ رخيمٌ، كأنَّهُ ترنيمةٌ قدسيةٌ تُرتّلُها الريحُ في بساتينِ القمحِ التي تهبُّ عليها أنفاسُ الفجرِ الأولِ، ينبثقُ من كيانِ رجلٍ تزدانُ لحيتهُ ببياضٍ يتلألأُ كنورِ البدرِ ليلةَ إكتمالِهِ، يُجلي ظلماتِ الكونِ. نطقَ بوقارٍ يتلوى منهُ عبقُ قرونٍ من الحكمةِ، كأنهُ ينحتُ الكلماتِ في صميمِ الصخرِ الأزليِّ:
نريدُ للأمانةِ أن تُشرقَ عائدةً إلى محرابها الخالدِ، إلى كفوفِ أصحابها الذينَ نسجوا من الوفاءِ راياتٍ خضراءَ ترفرفُ على مرِّ الأزمانِ. فكمْ تاهتْ في دهاليزِ الغيابِ المعتمةِ، وكمْ سكبتْ الأرواحُ دمعاً حارقاً على فراقها، كغيمةٍ مُنهارةٍ تُمطرُ جمراً! هذهِ السنونُ التي تكسّرتْ على صخرةِ الدهرِ المُنهكةِ، أعوامٌ طوالٌ، كأشجارٍ عاريةٍ تنتظرُ قبلةَ الربيعِ في صقيعِ الشتاءِ الذي لا يرحمُ، و روحُ عثمانَ، صاحبِ الكنّمبري، ما زالتْ تتأوهُ في ملكوتِ العذابِ، كشمعةٍ تذوبُ ببطءٍ في سراديبِ النسيانِ. كلما لامستْ أناملُ البشرِ هذهِ الآلةَ المقدسةَ، التي هي نبضُ الحياةِ، إرتفعتْ صرخةُ الألمِ من روحهِ، كأنفاسِ جمرٍ يتوقدُ في أعماقِ الجوفِ الذي يئنُّ ألماً. إلهي، كفى! فقد بلغَ الصبرُ منتهاهُ، وتشقَّقتْ أطرافُ الأزلِ من طولِ الإنتظارِ.
كلُّ جنيٍّ في ملكوتِ الأثيرِ الفسيحِ، من أقصى مشارقِ الشمسِ إلى أقصى مغاربها، سمعَ عن الكنمبري، وعن سحرهِ الذي يفتنُ الألبابَ ويُحيّرُ العقولَ ويُزلزلُ العروشَ. عشقوهُ عشقَ الظمآنِ لماءِ الكوثرِ الذي يروي صحاري الروحِ، فصوتهُ سحر يعزفُ سيمفونيةَ الخلودِ في أروقةِ الوجودِ الفسيحةِ. لقد فتنَ هذا الكنّمبري بني الجنِّ وبني البشرِ على حدٍّ سواءٍ، ولامسَ أوتارَ قلوبهم. سَحرَ عالمَ الأرواحِ بعبيره السماويِّ الذي يعبقُ في كلِّ زاويةٍ، وإمتدَّ سحرهُ من عرشِ السماءِ السابعةِ التي تُلامسُ النجومَ إلى أعماقِ العالمِ السفليِّ، كشلالٍ من نورٍ يغمرُ كلَّ كائنٍ. نحنُ شرفاءُ هذهِ العوالمِ، الأوصياءُ على قدسيةِ الأشياءِ التي خُلقَتْ لِغايةٍ، قد جئنا لننزعَ جذورَ الفتنةِ التي ضربتْ أطنابها في كلِّ قلبٍ مُفعَمٍ بالضياعِ، و لنعيدَ هذهِ الحاجةَ الجليلةَ إلى مخدعها الأصيلِ، حيثُ تنتمي، وحيثُ تتراقصُ السكينةُ والسلامُ الأبديُّ في رقصةٍ أزليةٍ لا تنتهي.
أجابَ العربيُّ، والصمتُ في عينيهِ قد سكنْ:
لكنَّ الكنّمبري يا سيدي، قد ماتَ فيهِ اللحنُ،
أصابهُ الصممْ.
خرسَ العودُ
الذي كانَ يهتفُ بالوجودِ،
أضحى كقبرٍ باردٍ لا يُنشدُ النغمْ.
فأجابهُ كبيرُ الشرفاءِ، وصوتُهُ قيثارةٌ من نورٍ، تعزفُ لحنَ الأزلْ:
منذُ أسبوعٍ،
ونحنُ حراسُهُ،
تراتيلُ الذكرِ الربّانيِّ حولَهُ تكتملْ.
فذاكَ الصمتُ يا بنيَّ، ليسَ صمتاً، بلْ لحنٌ خفيٌّ، قدسيةٌ تتجلى،
همسةُ الأرواحِ الطاهرةِ، ليعودَ النقاءُ، قبلَ أنْ يصدحَ صوتهُ مُعلّياً.
وإسترسلَ الشيخُ البوهاليُّ، بنبرةٍ كالسيفِ القدسيِّ، قاطعةٍ، كحدِّ سيوفِ البوهالةِ التي تُشعلُ الحقَّ في النفوسِ، لا تهابُ، ولا تتراجعُ:
إحملِ الكنّمبري غداً،
إلى ضريحِ سيدي بلالِ،
حيثُ تُعانقُ الأرواحُ الظلالْ.
وأتركهُ ليلةً هناكَ،
ونَمْ بجانبهِ،
ففي الصمتِ معتكفٌ،
وفي الجوارِ، يُشفى الحالْ.
وبعدَ الغدِ، أحملْهُ إلى مغارةٍ نُسجتْ من الصخرِ قربَ البحرِ،
في جوفٍ سرمديٍّ،
وخبّئهُ هناكَ،
فعيونُنا لنْ تنامَ،
حتى يفكَّ اللهُ قيودَهُ،
ويُشرقَ الفجرُ السخيُّ.
وأنتَ يا بنيَّ العربيَّ،
يستوجبُ عليكَ أنْ تتوبَ للهِ،
ففي التوبةِ تُولدُ الروحُ من جديدْ.
هذهِ بشرى لكَ يا بنيَّ،
فقفْ شامخاً، وكفى باللهِ وكيلاً،
وكفى بهِ مجيدْ.
إستيقظَ العربيُّ، والليلُ ينسحبُ، والفجرُ يولدُ من رمادِ الدجى،
من رؤيا ربّانيةٍ، كأنها نجمٌ أضاءَ دروبَ الروحِ المُختبئا.
أدركَ أنَّ كلَّ شيءٍ قد إنتهى، كطيفٍ عبرَ المدى ثمَّ آنطوى،
إنتهتْ رحلتُهُ الروحانيةُ التي طالما سكنتْ الروحَ والكيانا،
وإنتهتْ معها رحلةُ البحثِ عن الذاتِ، في دروبِ الأماني.
تلكَ الحياةُ التي وهبَها للفنِّ الكناويِّ، لحناً من الوجدانِ،
وإنتظارٌ طويلٌ، كأنهُ دهورٌ، ليرثَ منصبَ المعلّمِ، في هذا الزمانِ.
وذاكَ التدريبُ الليليُّ الشاقُّ، في صقلِ العزفِ، كأناملَ تنحتُ الصخورْ،
كلُّها لمْ يعدْ لها معنىً، تلاشتْ كأحلامٍ، لمْ تتركْ إلا العطورْ.
الآنَ كفى!
صرخةٌ دوتْ في أعماقِ الروحِ، كصاعقةٍ تُحيي المواتْ،
لقد أتى وقتُ التوبةِ، ليعودَ القلبُ إلى خالقهِ، قبلَ فواتِ الأوقاتْ.
أنْ يُعيدَ الأمانةَ إلى أصحابها، نداءٌ من السماءِ قد بانْ،
ففي العودةِ للحقِّ، تُزهرُ الروحُ، ويولدُ الإنسانُ من جديدٍ، في أمانْ.
إنبثقَ العربيُّ من صميمِ الرؤيا، والشفقُ يغسلُ الكونِ بوشاحٍ من ذهبٍ مُذابْ،
أدركَ أنَّ الغيبَ قد ألقى بسرِّهِ الأخيرِ، وأنَّ كلَّ سطرٍ قد مُحيَ، وأنَّ ماضيهِ قد ذابْ.
تلكَ الرحلةُ الروحانيةُ، التي كانتْ أشرعةً تقتحمُ بحورَ الروحِ المُتشابكةْ،
تلاشتْ كأسرابِ طيورٍ مهاجرةٍ عندَ إنبلاجِ الفجرِ، وإنقضتْ معها دروبُ الأسرارِ الحالكةْ.
حياته التي صاغَها من وجدٍ خالصٍ للفنِّ الكناويِّ، كانتْ قيثارةً تئنُّ من فرطِ الشوقِ المحمومِ،
وإنتظارٌ جاوزَ الأعمارَ، ليرثَ العرشَ الروحانيَّ، و يتربّعَ على مقعدِ المعلّمِ المعلومِ.
ودروبه في الليلِ، حيثُ صقلَ العزفَ حتى صارَ كَهْمَسِ النسيمِ على خدِّ وردةٍ،
كلُّها إضمحلَّتْ الآنَ، كصدىً لِصوتٍ بعيدٍ تاهَ في الأثيرِ، لمْ يتركْ في الروحِ إلا ومضةً باهتةً.
الآنَ كفى!
دوتْ الصرخةُ في أعماقِ الوجدانِ، كأنفاسِ غيثٍ يهطلُ على أرضٍ عطشى،
لقد حانَ وقتُ التوبةِ، لتعودَ الروحُ إلى منابعِ النقاءِ، وتُلقي عن كاهلها وَزَرَ الغلظةِ والخرسى.
أنْ يُعيدَ الأمانةَ إلى أصحابها، نداءٌ من أعالي السماءِ تغلغلَ في كلِّ ذرّةٍ من الدمِ،
ففي العودةِ للحقِّ، تُزهرُ الروحُ، ويُولدُ الإنسانُ مجدداً، من رحمِ النورِ لا من العدمِ.
كانَ العربيُّ في فرحٍ سامٍ، كأنَّ الكونُ يتراقصُ طرباً على إيقاعِ خطاهُ،
لكنَّ الحزنَ توغلَ في صميمِ الروحِ، كخنجرٍ مُكلَّلٍ بالألماسِ، يُدمي شغافَ قلبِهِ ويُبكي عيناهُ.
فرحٌ لأنَّهُ آخرُ من داعبتْ أناملُهُ الذهبُ الآلةَ الأسطوريةَ،
كانتْ كلُّ لمسةٍ قبلةً على جبينِ الزمنِ، أيقظتْ روحَ الكنّمبري، وأنشدتْ الألحانَ السرمديةَ.
كمْ رقصتْ أناملُهُ عليها، كمْ أذابتْ صقيعَ الجليدِ من القلوبِ القاسيةِ،
وصوتُ الكنّمبري كانَ نسيجَ الحياةِ، يُحيي المواتَ، ويُبعثُ الأرواحَ الفانيةَ من قبورِها.
لكنَّ الحزنَ ثقيلٌ، كليلٍ بلا نجمٍ يضيءُ دروبهَ، يُخيّمُ على أركانِ الروحِ المهيبةِ،
لأنَّهُ لنْ يرى ذاكَ الكنّمبري بعدَ اليومِ، ولنْ يعزفَ عنه قصائدَ الحبِّ، تلكَ النغماتِ العجيبةِ.
لنْ يشتمَ عبقَهُ الروحانيَّ، الذي كانَ ينسابُ كعبيرِ الجنةِ، يوقظُ الخلايا الميتةَ في كلِّ كيانٍ،
فالفراقُ مريرٌ، كدمعٍ حارِقٍ يسقي أرضَ الروحِ، ويُثقلُ خطاهُ الثابتةَ، خطوةً خطوةً، كأنها أزمانٌ.
تلكَ اللحظاتُ الأخيرةُ، كانتْ نقشاً أزلياً على جدارِ الذاكرةِ، كالأبجديةِ الأولى،
وكلُّ نغمةٍ إنبعثتْ منهُ، كانتْ وداعاً مُؤثراً، كأسرابِ طيورٍ ترحلُ إلى الأعالي.
الآنَ الصمتُ سيُخيمُ، والفراغُ سيمسكُ بزمامِ الوجدانِ المُتعبِ الذي كانَ يصدحُ،
فقدْ أُغلقتْ صفحةُ الأسطورةِ، وآنَ للروحِ أنْ تتجهَ نحو ربٍّ يُحبُّ، وفي رحابهِ ترتاحُ.
مضى العربيُّ، وخطاهُ تُثقلُها أثقالُ الوداعِ، كأنما يحملُ في كلِّ خطوةٍ حكايا ألفِ عامٍ، نحو ضريحِ سيدي بلالٍ، حيثُ تلامسُ الأزليةُ شرفاتِ الوجودِ العتيقةِ، وحيثُ نُقشتْ حروفُ الأبجديةِ الكناويةِ الأولى على صفحاتِ الغيبِ السرمديِّ. ذاكَ المهدُ الأسطوريُّ للنغمِ الخالدِ، ونبعُ الأسرارِ الذي إرتوى منهُ التاريخُ عطشاً، عادَ إليهِ اليومَ يحملُ بينَ كفيهِ ثقلَ العمرِ الذي أينعَ، ووهجَ الذكرياتِ التي لا تخبو، بلْ تتوهجُ كجمرٍ تحتَ الرمادِ.
أمضى ليلتَهُ هناكَ، والنجومُ تتلألأُ شهوداً صامتةً، تروي حوارَ روحٍ أليمةٍ ورفيقِ دربٍ لا يُعوَّضُ، قدْ نسجَ معه العمرَ خيطاً خيطاً. إحتضنَ الكنّمبري بينَ طياتِ ضلوعِ الروحِ، ضمَّهُ ضمَّ العاشقِ الولهانِ لِمحبوبٍ يُفارقُهُ الفراقُ الأبديُّ، تاركاً خلفهُ فراغاً أزلياً. كلُّ نبضةٍ في صدرهِ كانتْ ترنيمةَ وداعٍ سرمديٍّ يترددُ صداها في أرجاءِ الكونِ، و كلُّ أنفاسٍ كانتْ عبقَ حزنٍ سماويٍّ ينسابُ في أعماقِ الليلِ، يروي حكايا الصمتِ الذي يضجُّ بالأسى. نامَ بجانبهِ، كأنما يودعُ جزءاً من ذاتهِ الخالدةِ، يهمسُ لهُ بأسماءِ الأمسِ التي لنْ تعودَ، و يُخبرهُ أنَّ قضاءَ اللهِ واقعٌ لا مفرَّ منهُ، وأنَّ الفراقَ قدرٌ لا يرتدُّ.
وفي الغدِ، حينَ إنبلجَ الفجرُ من رحمِ الظلامِ، و رسمَ وشاحَ النورِ على خدِّ الكونِ، كلوحةٍ زيتيةٍ تُعانقُ الأفقَ، حملَ العربيُّ رفيقَ عمرهِ الأثيرَ إلى المغارةِ. تلكَ المغارةُ التي كانتْ محراباً روحياً لعصمانَ وبوبكرَ، وللرعيلِ الأولِ من جيلِ العبيدِ وكناوةِ الأوائلِ، حيثُ تُنسجُ الألحانُ من صدى الصخرِ القديمِ، و تُصقلُ الأرواحُ بنارِ الشوقِ الذي لا ينطفئُ.
دخلَ المعلّمُ العربيُّ إلى جوفِ المغارةِ، يحملُ قلبهُ الحيَّ بينَ كفيهِ، كقنديلٍ من نورٍ أزرقَ يضيءُ عتمةَ الوداعِ المُبجلِ. يحملُ شقيقَ الروحِ والدمِ و الترابِ، قطعةً من ذاتهِ نُقشتْ في سجلِّ الكونِ الأبديِّ، نبضاً من تاريخٍ يتلألأُ كالذهبِ المصفّى. لفَّ الوديعةَ المقدسةَ في قماشٍ طاهرٍ، مُعطّرٍ بدموعِ الوفاءِ التي لا تجفُّ، وبأنفاسِ الذكرى التي تتجددُ مع كلِّ همسةٍ في الذاكرةِ. أخفاها بينَ ثنايا غياهبِ المغارةِ، بينَ الصخورِ الصمّاءِ التي شهدتْ أسرارَ الأجيالِ وتعاقبَ الأزمنةِ، كأنما يودعُ كنزاً لا يُقدَّرُ بثمنٍ في كهفِ الزمنِ الذي لا يرحمُ و لا يُبالي.
غادرَ العربيُّ المغارةَ، والخطى تتثاقلُ كأنما تجرُّ خلفَهُ أثقالَ الكونِ برمّتهِ، أو كأنها تحملُ عبىءَ الأزلِ. إلتفتَ يودعُ صديقَهُ الأبديَّ، والدموعُ تنهالُ من عينيهِ كشلالٍ من الألمِ الصامتِ، يروي قصةَ روحٍ تودعُ رفيقها الأخيرَ. كانَ يجهشُ بالبكاءِ...، بكاءً يُمزّقُ الصدرَ ويهزُّ أركانَ الوجودِ، بكاءً يروي قصةَ فراقٍ أليمٍ يُقطعُ بهِ شريانُ الحياةِ، قصةَ نهايةِ عصرٍ من النغمِ الروحيِّ، و بدايةِ توبةٍ لا رجعةَ فيها، تُعيدُ الروحَ إلى نقائها الأولِ. كلُّ دمعةٍ كانتْ قصيدةً لا تُنسى، وكلُّ شهقةٍ كانتْ لحناً أبدياً يترددُ في فضاءِ الصمتِ، في وداعٍ لا يُنسى، يُنقشُ في سجلِّ الروحِ الأزليةِ إلى أبدِ الآبدينَ.
تتابعتْ عقودٌ، ذابتْ في تيارِ الزمنِ كأنفاسِ فجرٍ بعيدٍ، و مضتْ عشراتُ السنينَ، وهي تُسلّمُ رايةَ الأيامِ لقرونٍ أخرى تُولدُ من رحمِ النسيانِ. والكنّمبري، في عزلتهِ الأزليةِ، غافٍ في جوفِ المغارةِ، تُحيطُهُ أسوارُ الصمتِ المُطلقِ، كأنما هو كوكبٌ تائهٌ في فضاءِ الخلودِ. ظلَّ ساكناً، كقلبِ ليلٍ لا يكشفُ أسرارَهُ العميقةَ، ولا يُبدي خفاياهُ، إلى أنْ أشرقتْ فجرُ الألفيةِ الثالثةِ، مُعلنةً مولداً جديداً للزمنِ الذي لا يتوقفُ.
لقد أمضى ما يزيدُ عن أربعمائةِ عامٍ، أربعمائةِ شتاءٍ إرتجفتْ فيهِ الأرضُ، وأربعمائةِ ربيعٍ أزهرتْ فيهِ الروحُ، وهو حبيسُ ذاكَ الكهفِ المهجورِ، الذي يتنفسُ أنفاسَ الغيابِ. بقيَ هناكَ، ككنزٍ أسطوريٍّ تُخفيهِ الأرضُ عن أعينِ البشرِ الجائعةِ، سرٌّ لا يُدركُ كنهَهُ إلا القلوبُ التي تتذوقُ معنى الخلودِ. لكنَّ قيمتَهُ، يا لَلهولِ! أغلى من أيِّ كنزٍ قد تُخفيهِ البطونُ، حتى لو فاضتْ جنباتُهُ بالذهبِ المُذابِ، أو لمعتْ جنباتُهُ ببريقِ الفضةِ التي تُبهرُ العيونَ، أو تراقصتْ على أرضهِ الأحجارُ الكريمةُ التي تُبهرُ الأبصارَ وتُسلبُ العقولَ. ذاكَ الكنّمبري، لا يُقابلهُ ثمنٌ في موازينِ الدنيا، لا يُقدَّرُ بمالٍ مهما بلغَ، فهو روحٌ تجسدتْ في خشبٍ، وصدىً لأرواحٍ لا تفنى، وقصةُ عشقٍ تتجاوزُ حدودَ المكانِ والزمانِ. لا توازيهِ كنوزُ الأرضِ مجتمعةً في كلِّ عوالمها، ولا تفي بِقدرهِ عروشُ الملوكِ وزينتهم. إنهُ إرثٌ من النغمِ المقدسِ، وشاهدٌ على زمنٍ مضى بكلِّ أفراحِهِ وأحزانِهِ، وهمسٌ من أثيرِ الأسرارِ الخفيةِ التي لا يُدركُها إلا القلبُ العاشقُ، الذي يرى ما لا تراهُ العيونُ، ويسمعُ ما لا تسمعُهُ الآذانُ. إنهُ الأسطورةُ التي لا تموتُ، وتعيشُ في صمتِ المغارةِ إلى الأبدِ.
في ليلٍ ألقى على الأكوانِ سُكناهُ، وبسطَ الصمتُ على الأرواحِ رداءَهْ، كان بابا الحسنُ يُتْلى، كأنما الفجرُ ينسابُ من شفتيهِ، يطردُ ليلَ الوجعِ من قلبٍ مسكونٍ. فيهِ جنٌّ من سلالةِ المجدِ، يوشوشُ للروحِ سرًا، كهمسِ الريحِ في غصونِ الأزلِ، عن الكمبري، قصةٌ نُسجتْ بماءِ الذهولِ.
لم يكنْ بابا الحسنُ بساحرٍ يُخفي بساطَ النجومِ، بل كانَ راهبَ الإيمانِ، تطأُ قدماهَ دروبَ الغيبِ، يستلُّ سحرًا من جوفِ الثرى كأنما يقتلعُ شوكًا من بستانِ روحٍ. كم فكَّ عقودًا كأغلالٍ من خيوطِ الظلامِ، لكنَّ هذا النداءَ، لم يكنْ كغيرهِ، بل كانَ دعوةً من عمقِ الوجودِ:
خذِ الوديعةَ المقدسةَ، كنزًا لم تلمسْهُ يدٌ إلا من أذنتْ لهُ الأقدارُ.
إلى المغارةِ، حيثُ تُقيمُ أسرارُ الكونِ في صمتٍ، ويُقيمُ الجنُّ الشريفُ على أعتابِها. خطا بابا الحسنُ بخطى الروحِ، مستأذنًا حراسًا كالجبالِ، لا تُرى إلا بالقلوبِ. فتحتْ لهُ الأبوابُ، لا بقوةِ السلاحِ بل بسلطانِ الطهرِ. لقد كانَ محبوبًا عندهم، كأنما هوَ قنديلٌ يُضيءُ ليلَهم، مهابًا كصولجانٍ من نورٍ، يُخشى لأنهُ رجلٌ تقيٌّ، يحملُ اللهَ في كلِّ خفقةِ قلبٍ.
سلّموهُ الكمبري، لا طلبًا بل إهداءً من قلبِ الغيبِ، كأنما قد أُلقيَ في كفيهِ نورُ فجرٍ أزليٍّ. وصلَ الكنزُ إلى هذا الرجلِ الطيبِ، بابا الحسن، فآحتضنَهُ القلبُ قبلَ الكفِّ، وظلَّ يحتفظُ بهِ، أمانةً تتوهجُ في دياجيرِ الأيامِ.
لقد رأيتُ الكمبري بعينيَّ، وشعورٌ هائلٌ إجتاحَ كياني، كأنما الروحَ قد إنسلختْ من جسدي، و الوجودَ قد تبدّلَ في لمحِ البصرِ. إحساسٌ في منتهى الغرابةِ، يُغيّبُ العقلَ ويُحلقُ بالحواسِّ في فضاءاتٍ لا تُحدُّ بحدودِ الوصفِ. مالا يمكنُ تصوُّرُهُ، وما لا يمكنُ أن يخطرَ على بالِ بشرٍ، كانَ في ذروةِ المهابةِ، وفي قمةِ الجمالِ.
كانَ الكمبري كقُبلةٍ من نورٍ على جبينِ الظلامِ، يُشعُّ سرًا لا يُفهمُ، ويهمسُ بكلماتٍ لا تُسمعُ. فيهِ تتجسدُ أسرارُ الكينونةِ، وفيهِ ينبضُ صمتُ الأزلِ. إنهُ ليسَ مجردَ وديعةٍ، بل هوَ روحُ الغيبِ التي تجسدتْ، سحرٌ مقدس يلامسُ أعماقَ الروحِ، و يأسرُ البصائرَ بجمالٍ يتجاوزُ الوصفَ، ليُلقيَ على المتأملِ خيالاتٍ من دهشةٍ ودهشةٍ.

النهاية



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الْكِمُبْرِئ -الْجُزْءُ التَّاسِع-
- الْكمُبْرِئ -الْجُزْءُ الثَّامِن-
- الْكمُبْرِئ -الْجُزْءُ السَّابِع-
- الْكمُبْرِئ -الْجُزْءُ السَّادِسُ-
- الْكِمبْرِئ -الْجُزْءُ الْخَامِس-
- الْكِمُبْرِئ -الْجُزْءُ الرَّابِع-
- الْكمبْرِئ -الْجُزْءُ الثَّالِث-
- الكّْمْبّْرِيّ -الْجُزْءُ الثَّانِي-
- الْكِمُبْرِي -الْجُزْءُ الْأَوَّلُ-
- أَطْلَانتس وَسيِّدِي مُوسَى
- الزَّرَادِشْتِيَّة
- جَوْهَرٌ أَعْمَق أَسْرَار الْوُجُود
- إخْتِرَاق الزَّمَكَان
- المُثَقَّف الْمُزَيَّف
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...


المزيد.....




- اجتماع ثلاثي في عمّان لدعم استقرار السويداء ووحدة سوريا
- وزير الخارجية المصري: تنسيق مع واشنطن والدوحة لإحياء هدنة ال ...
- إسقاط المساعدات فوق غزة يتواصل وسط تشكيك بمدى فعاليتها
- وقف تصدير الأسلحة الألمانية لإسرائيل - نهاية مبدأ المصلحة ال ...
- قمة ألاسكا حول أوكرانيا: هل تصطدم طموحات ترامب بشروط بوتين؟ ...
- تصاعد المخاوف في أوروبا بشأن المواد الكيميائية الأبدية السام ...
- خطوة في طريق مسدود.. قراءة إيرانية في زيارة وفد الطاقة الذري ...
- السيسي: نرفض المساس بأمننا المائي وحصتنا من نهر النيل
- إيران تعلن القبول بمفاوضات مباشرة مع أميركا -حال توفر الشروط ...
- عاجل | الإخبارية السورية: رتل عسكري للاحتلال الإسرائيلي تحرك ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الْكِمُبْرِئ -الْجُزْءُ الْعَاشِر-