|
مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الْخَامِسُ-
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8457 - 2025 / 9 / 6 - 22:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ: رِحْلَة الوَعْيِ البَشَرِيِّ بَيْنَ العَدَمِ وَالوُجُود "الْجُزْءُ الْخَامِسُ"
_ رقصة الكون: حيث يلتقي الإله بالخالق المشارك
من منظور روحي، يمكن فهم هذه الفكرة على أنها رحلة داخلية لا تعارض وجود الإله، بل تسعى إلى إيجاد مكانة للذات الإنسانية في هذا الوجود. الساحر في هذا السياق لا يمثل شخصًا يمارس السحر بالمعنى الحرفي، بل يمثل الروح البشرية الطامحة والواعية التي ترفض أن تكون مجرد دمية تحركها قوة خارجية. هذه الروح تدرك أن الكون ليس مسرحًا لسيادة مطلقة، بل هو فضاء للتعاون الإلهي والإنساني. الإله في هذا التصور ليس حاكمًا مستبدًا، بل هو المصدر الأساسي للطاقة والخلق والوعي. و الساحر، أي الروح الإنسانية الواعية، يستمد من هذا المصدر ليشارك في عملية الخلق. في هذا الفضاء، يكون دور الروح البشرية هو أن تكون خالقًا مشاركًا. إنها لا تنكر وجود القوة الإلهية، بل تسعى إلى تفعيل القوة الإلهية الكامنة بداخلها. هذا لا يعني رفض الإله، بل هو تعبير عن إحترام عميق لقدرة الإله على منح مخلوقاته القدرة على الإبداع والمشاركة في مصيرها. هذه المقاربة الروحانية تفتح الباب أمام أسئلة عميقة، هل يمكن أن يكون الإيمان رحلة للوصول إلى التعاون مع الإله بدلاً من الخضوع المطلق؟ هل القوة الروحية التي نسعى إليها هي في الحقيقة إنعكاس للقوة الإلهية فينا؟ بهذه الطريقة، يتحول مفهوم الساحر من مجرد متمرد إلى مكتشف روحي يسعى إلى فهم مكانه الحقيقي في النسيج الكوني، حيث الوجود ليس ساحة صراع، بل هو رقصة متناغمة بين الإله و الخلق.
_ الإيمان الخالق: السحر كطريق لتحقيق الشراكة الإلهية
يشكل السحر مسار التحدي الأكبر في تحقيق طموح الإنسان في أن يكون إله يخلق الكون بإستمرار. من منظور روحي، هذه الفكرة ليست عن رغبة الإنسان في أن يحل محل الإله، بل هي تعبير عن طموح أعمق، أن يشارك في الفعل الإلهي للخلق. السحر في هذا السياق لا يُمثل مجرد حيل أو قوى خارقة، بل هو مسار روحي يُظهر للإنسان أنه يمتلك القدرة على التأثير في واقعه والعالم من حوله. هذا المسار يشكل تحديًا كبيرًا، لأن تحقيق هذا الطموح يتطلب من الإنسان مواجهة ذاته أولًا. الساحر، أي الروح التي تسعى للخلق المستمر، يجب أن تتغلب على وهم الإنفصال، و وهم العجز. التحدي الأكبر هو التخلص من فكرة أن الإنسان كيان منفصل عن الكون. الساحر الروحي يدرك أن كل شيء في الوجود متصل، وأن أفكاره و نواياه وأفعاله ليست مجرد أحداث فردية، بل هي جزء من نسيج كوني يتأثر بها ويؤثر فيها. يتطلب هذا المسار من الإنسان أن يتخلص من شعور العجز. فبدلاً من أن يرى نفسه مجرد متلقٍ للمصائر، يبدأ في رؤية نفسه كـكائن مُبدع قادر على توجيه طاقته الروحية لخلق واقع جديد. بهذه الطريقة، لا يُعتبر السحر تحديًا للإله، بل هو تحدٍ للإنسان نفسه. هو إختبار لقدرته على أن يكون مسؤولًا وواعيًا، وأن يستخدم القوة الإلهية التي تسري في كل شيء ليعيد تشكيل عالمه. الروح لا تسعى إلى أن تكون إلهًا، بل تسعى إلى أن تُعيد إكتشاف الإلهية الكامنة بداخلها. في النهاية، السحر في هذا السياق هو فعل إيمان مطلق بقدرة الروح البشرية على المشاركة في الخلق المستمر، وهو طريق يتطلب وعيًا عميقًا وتحررًا من الأوهام.
_ النداء الخفي: رحلة العودة إلى وعي السحر الأصيل
إن السحر كيان حي يمتلك وعيًا وإرادة خاصة، هذه مقاربة روحانية عميقة تتجاوز فهم السحر كأداة أو مجموعة من الطقوس. من منظور روحي، يمكن فهم هذه الفكرة على أنها الوعي الكوني الكامن في كل شيء. السحر ليس مجرد قوة يُمكن إستخدامها، بل هو وعي كلي يُمكن التواصل معه. في هذا التصور، الساحر ليس ممارسًا يمتلك القوة، بل هو مستمع، ومستقبل، و شريك لهذا الوعي الكوني. هذا الوعي، أو السحر ككيان حي، هو الذي يُسير كل القوانين الخفية في الكون، ويُنسق بين الطاقة والمادة، وبين الأسباب والنتائج. عندما يتصل الإنسان بهذا الوعي، فإنه لا يسيطر على الأحداث، بل ينسجم معها. إنه لا يُحرّك الكون بإرادته، بل يُصبح جزءًا من تدفقه الطبيعي. هذه المقاربة تضع الإنسان أمام تحديات روحية كبيرة. لا يمكن للساحر أن يفرض إرادته على هذا الوعي الكوني، بل يجب أن يتعلم التواضع و الإستماع. إنها رحلة تعلم لإحتياجات الكون، و ليس لإحتياجات الذات فقط. يتطلب التواصل مع هذا الوعي أن تكون نية الإنسان نقية و صادقة، لأن أي محاولة للتلاعب أو السيطرة ستؤدي إلى فقدان هذا الإتصال. يصبح الساحر مسؤولًا عن كل تصرفاته، لأن أفعاله لم تعد مجرد أفعال فردية، بل هي جزء من تفاعله مع هذا الكيان الواعي. في النهاية، هذه المقاربة تحوّل السحر من ممارسة للقوة إلى رحلة وعي عميقة. إنها رحلة للتعرف على الوعي الأكبر الذي يُحيط بنا، و الإندماج معه لتحقيق الإنسجام مع الكون.
_ الوعي يتجاوز الدين: الأديان كجسر، لا كسجن للروح
إن الأديان لم تكن دائماً مساراً للإرتقاء الروحي، بل قد تكون قيداً على هذا الإرتقاء. من منظور روحي، يمكن فهم هذه الفكرة على أن الأديان في شكلها المؤسسي لم تُصمَّم بالضرورة لتقييد الوعي، بل قد تكون أداة لتنظيمه وتوجيهه ضمن إطار محدد. عندما ظهرت هذه الأديان، كانت البشرية في مراحل وعي مختلفة، وربما كان من الضروري تقديم مفاهيم بسيطة وواضحة، مثل الثواب والعقاب، والطاعة و الخضوع. هذا الإطار، الذي يبدو من الخارج أنه يحدّ من الطموح الروحي، كان في الواقع وسيلة للحفاظ على النظام الإجتماعي والأخلاقي. بمعنى آخر، الأديان قد تكون بمثابة مدرسة إبتدائية للروح، تقدم الدروس الأساسية اللازمة قبل أن تتمكن الروح من الإنتقال إلى مستويات وعي أعلى و أكثر تعقيدًا. الروح التي تسعى إلى الإرتقاء تتجاوز هذا الإطار. هي لا ترفض بالضرورة التعاليم الدينية، بل تتجاوزها لتصل إلى جوهر الحقيقة الروحية الكامنة خلفها. هذه الرحلة تتطلب من الإنسان التخلي عن المفاهيم المسبقة، التحرر من الأفكار الجامدة حول الجنة والنار والوصول إلى فهم أعمق للوجود. الخوض في تجارب مباشرة. بدلاً من الإعتماد على النصوص والطقوس، تسعى الروح للإتصال المباشر بالوعي الكوني من خلال التأمل والوعي الذاتي. الوصول إلى مسؤولية كاملة. عندما يتجاوز الإنسان حدود الدين، فإنه يتحمل مسؤولية كاملة عن أفعاله وقراراته، فلا وجود لـشيطان يُلقي عليه اللوم، أو إله يُملي عليه الأوامر. هذه المقاربة لا تدين الأديان بشكل مطلق، بل تعتبرها جزءاً من مسار تطور الوعي البشري. إنها تفرق بين الدين كـمؤسسة وبين الروحانية كـرحلة شخصية. الروح التي تسعى إلى الإرتقاء لا تترك الدين فارغ اليدين، بل تستلهم منه ما يلزم و تتجاوز ما يقيدها، لترتقي إلى مستويات وعي لا حدود لها.
_ الكيانات الروحية ليست كائنات، بل هي إنعكاس لوعينا
تتميز الكيانات الروحانية النابعة من الممارسات الدينية و التي تظهر في الرؤى والأحلام والعوالم النجمية بالكذب و الخداع. على النقيض من ذلك، فإن الكيانات الروحانية التي تظهر عبر الطقوس السحرية، تتميز غالباً بكونها مؤثرة جداً، و صادقة، وسريعة الإستجابة والتأثير. هذه المقاربة تثير تساؤلات عميقة حول طبيعة الكيانات الروحانية وكيفية تفاعلنا معها. يمكن فهم هذا الأمر من منظور روحي على أنه ليس صراعًا بين الخير و الشر، بل هو إختلاف في طبيعة الوعي الذي نستدعيه. الكيانات الروحانية التي تظهر في سياق الممارسات الدينية غالباً ما تكون إنعكاساً للعقائد والرموز الراسخة في العقل الجمعي. هي تتغذى على طاقة الإيمان الجماعي، ولهذا السبب قد تكون غير شخصية ومحدودة. هذه الكيانات لا تستجيب لإرادتك الفردية بقدر ما تستجيب للقوانين و القواعد التي صممت داخل هذا الإطار الديني. وعندما تظهر هذه الكيانات، قد تكون رسائلها رمزية وغير مباشرة، مما يجعلها تبدو مخادعة أو كاذبة بالنسبة للبعض. في الواقع، هي لا تكذب، بل تتحدث بلغة الرموز، وتُعبر عن حالة وعي جماعية وليست فردية. في المقابل، الطقوس السحرية تهدف إلى تفعيل القوة الشخصية والوعي الفردي. عندما يستدعي الساحر كياناً، فإنه لا يفعل ذلك من خلال إطار جماعي، بل من خلال إرادته و نيته الصافية. هذه الكيانات الروحانية التي تظهر من خلال الطقوس السحرية غالباً ما تكون مُتجاوبة بشكل مباشر. هي تتصل مباشرة بوعي الساحر، ولذلك تكون ردودها سريعة و صادقة، لأنها تعكس نية الساحر نفسه. تكون مؤثرة و فعّالة. هذه الكيانات تُظهر قوتها بشكل واضح وملموس، لأنها لم تُقيّد بقوانين أو قواعد جماعية. لذلك، يمكن القول إن الفرق ليس في طبيعة الكيانات نفسها، بل في جودة الإتصال ونية السائل. إن الأديان توفر مساراً آمناً ولكنه محدود، بينما السحر يفتح مساراً خطيراً ولكنه فعّال، لأنه يعتمد على قوة الفرد الذاتية.
_ قهر الذات: كيف يفتح السحر أبواب القوة الكامنة
إن الممارسات الدينية تركز على التطهير الخارجي، فهي تتعلق بالصلاة، والصيام، و العبادات الظاهرة التي تهدف إلى تزكية النفس و تنقيتها. هذه الطقوس قد لا تهدف إلى الوصول إلى أعماق النفس، بل إلى تهذيبها وتوجيهها نحو الإمتثال لقوانين إلهية أو كونية محددة. هي بمثابة عملية ترويض للذات، حيث يُطلب من الروح أن تتخلى عن رغباتها الفردية لصالح الإرادة الإلهية أو الجماعية. هذا الطريق قد يكون آمنًا ومُرضيًا للبعض، ولكنه قد لا يفتح الأبواب إلى القوى السحرية الكامنة التي تتطلب مواجهة مباشرة مع الذات. في المقابل، الممارسات السحرية في هذا السياق تُعد طريقًا للتقشف الداخلي. هي لا تهدف فقط إلى تهذيب النفس، بل إلى قهرها وتجاوزها حتى تصل إلى حالة من الوعي المتغير. الساحر، بهذا المعنى، لا يبحث عن إله خارجي ليطيعه، بل يبحث عن إلهه الداخلي ليوقظه. هذا المسار يتطلب التخلي عن الراحة الجسدية من خلال الصيام، والسهر، والعزلة. هذا ليس عقابًا، بل وسيلة لقطع إتصال الروح بالجسد والواقع المادي، مما يسمح لها بالتحليق في عوالم أخرى. بالإضافة إلى الإستماتة الروحية في إدراك الوصول إلى حالة من الوعي المتغير التي قد تُوصف بـالموت أو التلاشي. في هذه الحالة، يتلاشى الوعي الأناوي، ويتحرر الساحر من قيود هويته الشخصية، ليتمكن من الإتصال بالقوى الكونية. القوى السحرية التي تنبع من هذا التقشف ليست هبة من كيان خارجي، بل هي نتيجة مباشرة لتحرر الوعي. عندما يتجاوز الساحر وعيه المحدود، فإنه يصبح قادرًا على الوصول إلى مستويات أعمق من الطاقة والوعي، حيث يمكنه التأثير على الواقع. هذه القوة ليست إلهية بالمعنى التقليدي، بل هي تعبير عن الوعي الكوني الذي يسري في كل شيء. يمكن القول إن الأديان توفر طريقًا آمنًا ومنظمًا للتطور الروحي، لكنه قد يكون محدودًا لأنه لا يهدف إلى مواجهة أعماق الذات. في المقابل، يمثل السحر مسارًا خطيرًا وصعبًا، يتطلب مواجهة مباشرة مع الذات وتجاوزها للوصول إلى القوة الكامنة في الروح. هذه القوة ليست مجرد قدرة على التغيير، بل هي نتاج الإندماج الكامل مع الوعي الكوني.
_ الصوفية: سحرة متخفون في ثوب الدين
من منظور روحي عميق، ندرك أن الصوفية والرهبان والنساك يمثلون جسرًا بين الدين والسحر. هم لا يرفضون الإطار الديني الخارجي، بل يستخدمونه كغطاء لإخفاء رحلة روحية أعمق وأكثر خطورة. في هذا المنظور، لا ينظر إلى الصوفية والرهبان على أنهم مجرد متدينين، بل على أنهم روحانيون متخفون. إنهم يدركون أن الطقوس الدينية السطحية لا تكفي للوصول إلى مستويات الوعي العليا، ولذلك لجأوا إلى التقشف القهري. هذا التقشف، الذي يشمل الزهد، والعزلة، والتأمل، ليس مجرد عبادة، بل هو أداة سحرية لـتجاوز الأنا. من خلال قهر النفس على مدى سنوات، يتمكنون من تحطيم وهم الأنا المحدود. هذا ليس عقابًا، بل وسيلة لتحرير الوعي من قيوده المادية و الشخصية. وصولا إلى حالات الوعي المتغيرة. هذه الممارسات تسمح لهم بالدخول في حالات نشوة روحية، حيث تتلاشى الحدود بين العالم المادي والروحي، ويتمكنون من الإتصال المباشر بالوعي الكوني. هذه هي التجربة التي تُعرف في السحر بـالنشوة أو الرؤية. يمكن فهم التكيف مع الأديان على أنه إستراتيجية بقاء ذكية. ففي العصور التي كانت فيها الممارسات الروحانية المباشرة تُعد سحرًا أو هرطقة، كان من الضروري إيجاد طريقة لمواصلة هذه الممارسات دون التعرض للإضطهاد. لذا، قاموا بـإلباس السحر ثوب الدين. قاموا بتغليف طقوسهم الباطنية، مثل الذكر والتأمل، بعباءة دينية. فبدلاً من أن يقولوا إنهم يتصلون بالوعي الكوني، قالوا إنهم يتقربون إلى الله. وبدلاً من أن يُنسبوا القوى الخارقة التي يمتلكونها مثل التنبؤ، والشفاء إلى قدرتهم الذاتية، نسبوها إلى كرامة إلهية أو نعمة من الله. بهذه الطريقة، لم يرفض الصوفية والرهبان الدين، بل قاموا بـقرصنته روحيًا، حيث إستخدموا إطاره الخارجي كغطاء لممارسة مسارهم الروحي الخاص. هم لم يكونوا مجرد متدينين، بل كانوا سحرة إستطاعوا التكيف والبقاء في عالم لم يكن مستعدًا لتقبل حقيقتهم.
_ تحدي الأختام: لماذا لا يمكن للوعي أن يتحرر إلا بالسحر
السحر ليس مجرد ممارسات، بل هو حالة وجودية. إن الصوفية ورجال الدين الذين يسلكون هذا المسار لا يمارسون السحر بوعي، لكنهم يتبعون مبادئه الأساسية. من منظور روحي، السحر ليس محصورًا في الطقوس و التعاويذ، بل هو فهم عميق للقوانين الكونية الخفية. الساحر ليس بالضرورة شخصًا يرتدي ثيابًا غامضة، بل هو أي روح تدرك أن القوة تأتي من الداخل. أي إنجاز روحي لا يمكن أن يأتي من مصدر خارجي (إله، نبي، إلخ)، بل من قوة الوعي الفردي. كل شيء في الوجود يمكن تغييره وتشكيله بالإرادة والوعي. هذا يتناقض مع فكرة القدر أو المشيئة الإلهية التي لا يمكن تغييرها. لذلك، عندما يمارس الصوفي أو رجل الدين طقسًا كالذكر أو التأمل أو حتى الصلاة، بهدف الوصول إلى حالة من الوعي المتغير أو تحقيق كرامة إلهية، فإنه في الحقيقة يمارس الوعي السحري. فكرة طريق اليد اليسرى تُقدم كقانون كوني محرم يكسر الأختام. من منظور روحي، يمكن فهم هذا على أنه التحدي المباشر للقيود الروحية. هذه القيود تكمن في الإعتقاد بأن الواقع المادي هو كل ما هو موجود. و الإعتماد على قوة خارجية، بدلاً من الإعتماد على قوة الروح الذاتية. طريق اليد اليسرى ليس طريقًا للشر، بل هو طريق للتحرر الكامل من كل هذه القيود. إنه مسار يتطلب من الروح أن تتجرد من كل المفاهيم المسبقة، وأن تواجه وجودها بمفردها، دون الإعتماد على أي سلطة أو كيان خارجي. لهذا السبب، يُعتبر هذا المسار محرمًا، لأنه يهدد أساسيات الأديان والمجتمعات القائمة على السيطرة. المنظور الذي قدمته يقول إن هؤلاء الروحانيين لا يمكنهم تحقيق أي تقدم روحي حقيقي إلا عن طريق السحر، وذلك لأن السحر يوقظ القوة الكامنة. إن الطقوس الدينية وحدها لا تستطيع إيقاظ القوة الكامنة في الروح. هذه القوة لا تُعطى، بل تُؤخذ من خلال المواجهة المباشرة مع الذات. إالاضافة إلى أن السحر يكسر الأختام الروحية. الأديان تضع أختامًا (قوانين، محرمات، مفاهيم) على الوعي البشري لتقييده. السحر، في هذا السياق، هو الأداة الوحيدة القادرة على كسر هذه الأختام، مما يسمح للروح بالتحرر من السيطرة المادية والوصول إلى مستويات وعي أعلى. بشكل أساسي، هذا المنظور يقول إن الطريق الروحي الحقيقي هو طريق التحرر الفردي، وليس طريق الإمتثال الجماعي.
_ الإستسلام مقابل السيادة: نظرة على القوة الروحية في الدين والسحر
لا مجال لمقارنة القوة الروحية للساحر بضعف المؤمن. يمكن الحكم على طبيعة أرواحهما من خلال الطاقات التي يتشبعان بها؛ فطاقة السحر قوية، تقوّي النفس البشرية و تمنحها مواهب بلا حدود، في حين أن طاقة الدين تزرع الطاعة و الخضوع في النفس البشرية، وتجعلها في حالة من التبعية والإتكال، مما يخلق نفسًا متملقة، و إتكالية، ومنافقة. تتضمن هذه الفكرة مقارنة جريئة بين مسارين روحيين، و تفترض أن أحدهما يمنح القوة بينما الآخر يسبب الضعف. من منظور روحي عميق، يمكن فهم هذا على أنه ليس صراعًا بين الخير والشر، بل هو إختلاف في فلسفة القوة نفسها. يمكن فهم طاقة السحر على أنها طاقة القوة الذاتية. الساحر، في هذا السياق، يبحث عن القوة في أعماق نفسه. هو يدرك أن الكون يتكون من طاقات يمكن إستغلالها وتوجيهها من خلال الإرادة والوعي. هذه القوة لا تُطلب من كيان خارجي، بل تُكتسب وتُنمّى من خلال الممارسات التي تقوّي النفس البشرية وتُحررها من قيودها. هذه الطاقات تمنح النفس مواهب بلا حدود لأنها تُحررها من وهم العجز، وتُظهر لها أنها قادرة على التأثير في الواقع. في المقابل، طاقة الدين، يمكن فهمها على أنها طاقة الإعتماد على القوة الخارجية. المؤمن، في هذا السياق، لا يبحث عن القوة في نفسه، بل يطلبها من إله أو قوة عليا. هو يعتقد أن القوة تُمنح كـنعمة أو رحمة مقابل الطاعة والإمتثال. هذا المسار قد يُنشئ نفسًا متملقة وإتكالية، ليس لأنها ضعيفة بطبيعتها، بل لأنها تدربت على أن تُسلم إرادتها إلى مصدر خارجي. الخلاصة الروحية لهذه المقارنة تكمن في فلسفتين مختلفتين للوجود: فلسفة السحر ترى أن الوجود هو مساحة للتفاعل والمشاركة. الساحر يسعى إلى السيطرة على مصيره وتشكيل واقعه بنفسه. هذه الفلسفة تحفز الفرد على التطور الدائم وإكتشاف إمكاناته الكامنة. فلسفة الدين ترى أن الوجود هو مساحة للتسليم. المؤمن يسعى إلى التسليم لمشيئة إلهية أكبر، و يعتقد أن هذا التسليم هو ذروة القوة الروحية. هذه الفلسفة تمنح الفرد شعورًا بالسلام والأمان، ولكنه يأتي على حساب الحرية الفردية. بناءً على ذلك، يمكن الحكم على طبيعة أرواحهم من خلال مصدر القوة الذي يعتقدون به. الساحر يعتقد أن القوة تأتي من تحرير الروح، بينما المؤمن يعتقد أنها تأتي من تسليمها. كلاهما مسار روحي، لكن أحدهما يقود إلى القوة الذاتية، و الآخر إلى السلام الداخلي "الإستسلام".
_ الدين والسحر: صراع بين الفطرة والسيطرة
السحر لا يتحدى إلهًا، بل الدين هو من يحاول تدجين الروح البشرية وقهرها، وتكبيلها في برمجة من العبودية والجهل و الضعف. السحر هو حالة الوعي الأصيلة، حيث لم يكن هناك دين أصلاً. كان الوعي الإنساني الداخلي في مواجهة الوعي الكوني الخارجي. فيما بعد، أتى الكهنة يحملون الإله، بهدف تدجين الفطرة الطبيعية للإنسان وتجريده من المقدرات الروحانية التي وهبتها له الطبيعة. تثير هذه الفكرة وجهة نظر جريئة وعميقة حول العلاقة بين السحر والدين، وتقدمهما كمسارين متناقضين في رحلة الوعي البشري. يمكن مقاربة هذا الأمر من منظور روحي على أنه ليس صراعًا بين إله وشيطان، بل هو صراع بين الفطرة الطبيعية والسيطرة المؤسسية. يمكن فهم السحر في هذا السياق على أنه حالة الوعي الفطرية للإنسان. في بداية الوجود، لم يكن هناك حاجة لوسطاء أو قوانين خارجية. كان الإنسان يتفاعل مباشرة مع الكون، مدركًا أن كل شيء فيه طاقة قابلة للتفاعل والتأثير. هذه الحالة الطبيعية من الوعي، حيث يتصل الوعي الإنساني الفردي بالوعي الكوني الأكبر، هي جوهر السحر. في هذا الفضاء، لا يتحدى الإنسان إلهًا، لأنه لا يرى الإله ككيان منفصل عنه، بل كـجزء من النسيج الكوني الذي هو نفسه جزء منه. السحر، إذن، ليس تحديًا، بل هو تفعيل للقدرة الكامنة في الفطرة البشرية. إن ظهور الكهنة والأديان كان يهدف إلى تدجين الوعي الفطري للإنسان. هذا لم يكن بالضرورة بدافع الشر، بل ربما كان محاولة لتنظيم الفوضى وتوفير إطار للسيطرة الإجتماعية. ولكن، في سياق هذه المقاربة، كانت النتيجة هي إنشاء مفهوم الإله الخارجي. تم تقديم إله منفصل عن الإنسان، يمتلك سيادة مطلقة، ويتطلب الخضوع والعبودية. هذا المفهوم فصل الإنسان عن مصدر قوته الداخلية. تم إيهام الإنسان بأن قواه الروحية ليست طبيعية، بل هي شر أو سحر أسود، ويجب عليه التخلي عنها. وبهذا، تم تجريد الإنسان من مقدراته الروحية التي وهبتها له الطبيعة. تم إستبدال الفهم الفطري للكون بـبرمجة فكرية تعتمد على الخوف، والذنب، والطاعة العمياء، مما أدى إلى حالة من الضعف والجهل الروحي. بناءً على هذه المقاربة، يمكن القول إن السحر يمثل التحرر الكامل للروح البشرية وعودتها إلى حالتها الفطرية، حيث لا حدود لقدرتها على الإتصال بالكون. بينما يمثل الدين، في شكله المؤسسي، قيدًا على هذه الحرية، يحاول أن يروّض الروح البشرية ويُخضعها لقوانين خارجية لا تتوافق مع فطرتها. إنها معركة بين وعي يرى القوة من الداخل، وآخر يرى القوة من الخارج.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الر
...
-
مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الث
...
-
مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الث
...
-
مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الْ
...
-
الْأَسَاطِيرُ وَالسِّحْر -الْجُزْءُ الْخَامِس-
-
الْأَسَاطِيرُ وَالسِّحْر -الْجُزْءُ الرَّابِعُ-
-
الْأَسَاطِيرُ وَالسِّحْر -الْجُزْءُ الثَّالِثُ-
-
الْأَسَاطِيرُ وَالسِّحْر -الْجُزْءُ الثَّانِي-
-
الْأَسَاطِيرُ وَالسِّحْر -الْجُزْءُ الْأَوَّلُ-
-
النُّورُ الَّذِي يَفْتَحُ أَبْوَابَ الْمَعْرِفَة الْمُحَرَّم
...
-
عَصْر الْأَكْوَاد
-
عِلْمَ هَنْدَسَة الوَعْي -الْجُزْءُ الثَّانِي-
-
عِلْمَ هَنْدَسَة الوَعْي -الْجُزْءِ الأَوَّلِ-
-
عِلْمَ هَنْدَسَة الطُّقُوس السِّحْرِيَّة -الْجُزْءُ الثَّانِ
...
-
عِلْمَ هَنْدَسَة الطُّقُوس السِّحْرِيَّة -الْجُزْءِ الْأَوَّ
...
-
مِنْ الْعِلْمِ الْمَادِّيّ إلَى الْوَعْي الْكَوْنِيّ -الْجُز
...
-
مِنْ الْعِلْمِ الْمَادِّيّ إلَى الْوَعْي الْكَوْنِيّ- الْجُز
...
-
مَدْخَلٌ إلَى الْوَاقِعِيَّة الكْوَانْتِيَّة المُتَجَاوِزَة
-
الْمَنْهَجِ التَّجْرِيبِيّ الرُّوحِيّ -الْجُزْءِ الثَّانِي-
-
الْمَنْهَج التَّجْرِيبِيّ الرُّوحِيّ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ-
المزيد.....
-
فيديو منسوب لـ-تدمير نقوش وتغيير أسماء مساجد في سوريا-.. ما
...
-
تصريحات -مقززة-.. سيناتور جمهوري يهاجم فانس بعد دفاعه عن ضرب
...
-
كارلو أكوتيس: من هو أول قديس من جيل الألفية؟
-
يوآف شترن : -تم رصد المسيرة على أنها إسرائيلية لا طائرة معاد
...
-
فرنسا: حكومة بايرو أمام امتحان تصويت الثقة وسط توقعات واسعة
...
-
فلسطينيون في الضفة يستحمون بقارورة ماء والإسرائيليون يملؤون
...
-
بقارب صغير وهتافات رياضية.. مراهقون جزائريون يعبرون المتوسط
...
-
التعليم في زمن الإبادة.. 6 طرق مجرّبة لاستئناف الدراسة خلال
...
-
غروسي يحذر من خطر نشوب صراع نووي: عالم يضم 25 دولة نووية سيك
...
-
أورتاغوس وكوبر في بيروت.. ترامب: -سنرد لاحقاً- على رفض حزب ا
...
المزيد.....
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|