أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - السحر قناع الأنطولوجيا: كيف يكشف التدخل الغيبي عن مرونة الكينونة وصراع الإرادات الوجودية -الْجُزْءُ الْأَوَّلُ-















المزيد.....


السحر قناع الأنطولوجيا: كيف يكشف التدخل الغيبي عن مرونة الكينونة وصراع الإرادات الوجودية -الْجُزْءُ الْأَوَّلُ-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8500 - 2025 / 10 / 19 - 21:29
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ مدخل نظري لدراسة العلاقة بين السحر والكينونة

إنَّ العلاقة الجدلية بين السحر و الكينونة (Being/Existence) تُعدّ إحدى أعتق وأعمق المحاور التي شغلت الفكر الفلسفي والميتافيزيقي منذ فجر الوعي البشري، فهي ليست مجرد مقارنة بين ممارسة غامضة وواقع ملموس، بل هي إستدلال على الطبيعة الجوهرية للواقع ذاته وقابلية الوجود للتشكيل والتأثير الخارجي. إن دراسة السحر من منظور كينوني وفلسفي تُجبرنا على تجاوز النظرة السطحية للأحداث وتأخذنا إلى حيث تلتقي الأنطولوجيا (علم الوجود) بالإبستمولوجيا (علم المعرفة) والأخلاق الوجودية.
يُمثّل السحر، في جوهره الفلسفي، إدعاءً جذريًا بإمتلاك معرفة قادرة على الفعالية؛ ليس فقط لفهم الكينونة، بل للتدخل النشط في آلياتها. هذا الإدعاء يهزّ أسس الفلسفة الوضعية والمادية التي تُصرّ على أن الوجود محكوم بضرورات فيزيائية صارمة وغير قابلة للخرق. فإذا كان السحر فعلاً إنسانيًا قادرًا على إحداث تغييرات تتجاوز الأسباب والنتائج المادية المألوفة، سواء كان هذا التغيير عبر خلق مرض لا تفسير له، أو التأثير على إرادة الأفراد، أو تغيير المصائر، فإن ذلك يُشير إلى أن الكينونة ليست كيانًا صلبًا و مُغلقًا، بل هي نسيج مرن، ومتعدد الأبعاد، ومُتأثر بالقوى الروحية والإرادية. هنا، تتحول الكينونة من موضوع سلبي للخضوع للقوانين إلى ساحة صراع بين الإرادات والقوى المتنوعة.
تُصبح الإشكالية المركزية هي ما هو الوجود الحقيقي؟ هل الكينونة محصورة فيما تدركه حواسنا وفقًا لقوانين الفيزياء الكلاسيكية، أم أن الحقيقة الميتافيزيقية تكمن في طبقات خفية من الوجود (عالم الغيب، العوالم الأثيرية، أو الطاقات الكونية) تشارك بفاعلية في تحديد ما هو كائن؟ إنّ السحر، بكونه محاولة للتلاعب بهذه الطبقات الغيبية، يُشير إلى أن القوانين الفيزيائية ليست سوى واجهة أو مستوى سطحي للواقع، وأن الحقيقة الأنطولوجية العميقة كامنة في الباطن الذي يحاول الساحر النفاذ إليه. وبالتالي، فإن العلاقة بين السحر والكينونة تُؤسس لفلسفة وجودية ترفض الإختزال المادي للواقع وتُصرّ على وجود أبعاد سحرية أو غيبية تُشكّل جزءاً لا يتجزأ من تكوين الوجود.
بالإضافة إلى ذلك، تُثير هذه العلاقة إشكالية حاسمة حول سلطة الكينونة البشرية وحدودها. إذا كان الإنسان قادرًا على إستخدام معرفة ما، سواء كانت سحرية أو غيبية لتغيير كينونة الآخرين، تدميرها، أو تعطيلها، أو سلب حريتها، فإن ذلك يفتح الباب أمام تساؤلات أخلاقية ووجودية عن مدى حق الكيان الفردي في ممارسة هذا الإستبداد الوجودي. هل يُصبح الساحر بذلك كائناً تجاوز حدود الإنسانية ليُحاكي سلطة مطلقة في تسيير الوجود؟ هذا الصدام بين الإرادة الساحرة والكينونة الحرة للضحية هو ما يُعرّف السحر فلسفياً كـفعل مناهض للحرية وإعتداء على قدسية الوجود الفردي.
بإختصار، إن تناول العلاقة بين السحر والكينونة من منظور فلسفي ليس ترفًا فكريًا، بل هو ضرورة لفهم الوجود في شموليته. إنه يُجبرنا على التفكير في طبيعة الحقيقة، و حدود القوة الإنسانية، ومعنى الحرية، ومكانة القوى الغيبية في صياغة مصائرنا، مما يُرسخ هذه العلاقة كمحور تأسيسي للإشكاليات الروحانية والميتافيزيقية والوجودية الأكثر عمقاً.

_ السحر والكينونة: صراع الإرادة الميتافيزيقية وتشكيل الواقع بين المادية والغيبيات

تُمثل إشكالية الحقيقة الميتافيزيقية للواقع، التي تتجسد في علاقة السحر بالكينونة، نقطة التماس الأكثر جذرية بين الفلسفة المادية والتصورات الروحانية والغيبيات. إن السؤال لا يدور ببساطة حول وجود السحر من عدمه، بل حول ما يكشفه وجوده أو حتى الإعتقاد به عن البنية الجوهرية للوجود ذاته (الكينونة).
إذا إفترضنا أن السحر فعّال، وأن الساحر يستطيع تغيير الواقع أو إحداثه، فهذا يفرض مراجعة شاملة لتعريفنا للكينونة. التفسير المادي يرى الكينونة كـأشياء صلبة محكومة بقوانين نيوتونية صارمة ومحددة. أما الرؤية الروحانية والميتافيزيقية فترى الكينونة كـنسيج طاقي أو إهتزازي مرن ومتشابك. في هذا الإطار، لا يُنظر إلى السحر كخرق للقانون، بل كتطبيق لقوانين ميتافيزيقية أعلى وأكثر تعقيدًا لم يتم إكتشافها أو الإعتراف بها علميًا بعد.
هذا النسيج الوجودي يُفترض أن يتكون من طبقات متعددة، حيث يُمثل عالمنا المادي الظاهر المستوى الأكثر كثافة و الأدنى إهتزازاً (عالم المُلك). السحر، روحيًا، هو محاولة للوصول إلى المستويات الأثيرية أو النجمية أو العقلية (عالم الغيب أو المثال)، حيث تكون الإرادة والنية أسرع وأكثر فعالية، ومن ثم إملاء تأثير معين على الطبقة المادية الأدنى. وبالتالي، فإن الكينونة ليست محكومة بالضرورة الفيزيائية وحدها، بل هي نتيجة تفاعل دائم بين هذه الطبقات.
الفرضية القائلة بأن السحر يُساهم في تحديد ما هو كائن تدعم فكرة وجود قوى غير مادية تشارك بنشاط في صياغة الواقع. هذه القوى يمكن أن تكون طاقات كونية غير مكتشفة، أو إستخدام لترددات إهتزازية معينة تستطيع التأثير على المادة كالأصوات والرموز. أو كائنات روحانية وسيطة كالجن، الأرواح، أو الكائنات الأثيرية، التي هي في حد ذاتها جزء من الكينونة الكلية لكنها غير مرئية للإدراك البشري العادي، و يتم توظيفها عبر الساحر. أو قوة الإرادة المُركّزة وهي قوة كامنة في الوعي البشري (الروح)، يتم تضخيمها وتوجيهها بتركيز شديد وطقوس خاصة للتأثير على المجال الطاقي للهدف، مما يغير من مظاهر كينونته.
في هذه الحالة، يتحول الوجود من عملية فيزيائية عمياء إلى عملية روحية واعية جزئياً، حيث أن هذه الأبعاد السحرية أو الغيبية هي المحددات الصامتة لكيفية ظهور الأشياء وكيفية تطورها. السحر يُصبح بذلك دليلاً على أن القوانين الفيزيائية مجرد حدود مؤقتة أو واجهة لا تعكس كامل الحقيقة الميتافيزيقية.
تُثير العلاقة بين السحر والكينونة إشكالية ميتافيزيقية حاسمة. هل التغيير الذي يُحدثه السحر هو تغيير في ماهية الكينونة، أم في مظهرها المدرك فقط؟
إذا كان السحر يعمل على التخييل أو الإيهام البصري كما يُشير القرآن الكريم في وصف سحرة فرعون: "سحروا أعين الناس"، فإن الإشكالية تنحصر في طبيعة الإدراك والوعي، و تصبح الكينونة المادية ثابتة، لكن الإدراك البشري هو القابل للتلاعب. ولكن إذا كان السحر يُحدث تغييراً حقيقياً في النتائج كالمرض الحقيقي، أو التفريق الفعلي، فإن هذا يفرض أن الكينونة المادية نفسها قابلة للتشكيل والتعديل عبر الإرادة غير المادية.
هذا يقود إلى نتيجة روحانية مهمة. أن جوهر الوجود (الماهية) ليس في المادة، بل في القوة الميتافيزيقية التي تُنظّم تلك المادة وتُحددها. السحر، في أفضل حالاته، هو دليل على أن الكينونة الروحية التي تشمل الوعي والإرادة لديها الأسبقية على الكينونة المادية، وأنها القوة الفاعلة و المؤثرة.
وبالتالي، تُلخص هذه الإشكالية في أن السحر يفتح الباب أمام الإعتراف بـواقع متعدد الأبعاد؛ واقع لا يُختزل في ما يُمكن قياسه بالمسطرة أو الوزن، بل يمتد إلى عوالم وطاقات وقوانين غيبية هي التي تُشغل محرك ما هو كائن وتُشارك في صياغة الحقيقة الميتافيزيقية للكينونة.

_ سلطة الساحر: البحث عن القوة المطلقة وثمن الكينونة الفاسدة

تُعدّ إشكالية سلطة الإنسان على الكينونة، المتمثلة في الفعل السحري، من أعقد وأخطر النقاط في الفكر الروحي و الميتافيزيقي، فهي تضع الإرادة البشرية في مواجهة مباشرة مع النظام الكوني وقوانين الطبيعة والقدر الإلهي. هذه الإشكالية ليست مجرد تساؤل عن القدرات الخارقة، بل هي بحث في ماهية الإنسان الوجودية وموقعه كفاعل في نسيج الوجود.
إذا سلّمنا بأن السحر هو فعل إنساني قادر على تجاوز القوانين المادية الصارمة، فهذا يعيد تعريف طبيعة الإنسان ذاته. الكينونة البشرية، في هذا السياق، لم تعد مجرد كيان بيولوجي يخضع للضرورة الفيزيائية، بل هي حاوية لقوة روحية هائلة قد تكون كامنة أو مُفعّلة. السحر، بطقوسه و رموزه وكلماته، يُصبح بمثابة مفتاح أو بروتوكول لفك شيفرة هذه القوة الكامنة في الروح والنفاذ بها إلى مستويات أعمق من الواقع. هذا النفاذ هو ما يسمح للساحر بالتدخل في جوهر وجوده ووجود الآخرين. القوانين الطبيعية، بالتالي، تُصبح حدودًا لـ الكينونة المادية فقط، لكنها لا تُقيّد الكينونة الروحية، التي يمكنها أن تستمد قوة من مصادر غيبية كالجن أو الطاقات الكونية لتصبح هي نفسها قوة قانونية جديدة تُفرض على الواقع الأدنى.
التساؤل عن حدود قوة الإرادة والمعرفة البشرية في إعادة تشكيل الكينونة يقود إلى نقطة الفصل الروحانية بين القوة المشروعة والقوة غير المشروعة.
القوة المشروعة (الكنونية) هي القوة الروحية التي يمنحها الخالق للإنسان ليحقق بها ذاته و يُعمّر بها الكون ضمن إطار الفضيلة والأخلاق. هذه القوة، التي تتجلى في الدعاء، و الإيمان، و التجرد الروحي، تكون موجهة نحو كمال الكينونة وليس إفسادها.
القوة غير المشروعة (السحرية) هي محاولة لتكثيف الإرادة إلى درجة تستطيع بها إستدعاء قوى غير مرئية أو سفلية عبر التضحية الأخلاقية والروحية لفرض تغيير على الواقع بشكل قسري وسريع ومخالف للنظام الكوني. هنا، تخرج الإرادة عن حدودها الروحانية لتدخل في منطقة الإستعلاء الوجودي.
يُكمن الخطر الروحي العميق في أن الساحر، عبر فعله، لا يُغير فقط الأحداث المادية، بل يُحاول إعادة تشكيل كينونة الآخرين عبر التأثير على مشيئتهم، صحتهم، أو علاقاتهم. هذا التدخل يُعتبر روحيًا إغتصابًا للوجود الذاتي؛ فهو يهدد مبدأ السيادة الروحية لكل فرد على مصيره. الكينونة الفردية، وفقًا للمعتقدات الروحانية، هي أمانة إلهية، والسحر محاولة لإختراق هذه الحصانة الوجودية.
إن حدود قوة الإرادة البشرية تكمن روحيًا في نقطة الإصطدام مع الإرادة الإلهية والحرية الفردية للآخرين. عندما يستخدم الإنسان معرفته (السحرية) لـتجاوز هذه الحدود، فإنه يدفع ثمنًا روحيًا هائلاً، حيث يتحول من كائن يهدف إلى الإرتقاء بكينونته إلى كائن يمارس الإستبداد الوجودي، فتصبح سلطته على الكينونة مسؤولة عن فساد روحه و عقابه الأبدي. وهكذا، يُصبح السحر ليس مجرد قدرة، بل محاكمة وجودية لقوة الإنسان، تُبيّن أنها محدودة بالضرورة الأخلاقية والكونية العليا.

_ تشريح الفعل السحري: هل يُغير السحر الواقع أم يُحرف الإدراك

تُشكل إشكالية تزييف الكينونة والوهم محورًا فلسفيًا و روحيًا حاسمًا في العلاقة بين السحر و الوجود، حيث تدور حول طبيعة التأثير السحري: هل هو تحوير حقيقي في جوهر الوجود (الماهية)، أم مجرد تلاعب دقيق بـأدوات الإدراك (المظهر)؟ إن الإجابة على هذا السؤال تحدد الموقف من الواقع ذاته، وتُقسم التأثير السحري إلى مستويين جذريين: السحر كـفعل وجودي و السحر كـفعل إيهامي.
إن الطرح الروحاني لهذه الإشكالية يرى أن الكينونة ليست كيانًا صلبًا واحدًا، بل هي مركب من طبقات؛ جسد مادي، و عقل/نفس، وروح. السحر يُظهر فعاليته عبر إستغلال نقاط الضعف والفصل بين هذه الطبقات.
السحر الذي يحدث التغيير حقيقي في الكينونة. هذا النوع من السحر يتجاوز مجرد خداع الحواس ليُحدث تغييرًا فعليًا في النتائج الوجودية. عندما يتسبب السحر في مرض عضوي حقيقي، أو تفريق بين زوجين يؤدي إلى طلاق موثق، أو تعطيل مادي ملموس في مسار حياة شخص، فإن هذا يشير إلى أن الفعل السحري قد تمكن من النفاذ إلى قوانين النظام الباطن (الغيبي) والتحكم فيها لفرض نتائج على النظام الظاهر. هنا، السحر لا يُغير فقط كيف نرى الكينونة، بل يُغير ما هي الكينونة بالفعل في اللحظة الزمنية المحددة. التغيير يصبح متجسدًا؛ يتحول من طاقة إيهامية إلى حدث مادي مؤلم. هذا يؤكد وجود قوى غير مادية تشارك في صياغة الكينونة، ويُقوّض مبدأ أن الواقع المادي مُستقل بذاته.
في المقابل، هناك أفعال سحرية تعتمد بشكل رئيسي على التلاعب بالإدراك البشري، سواء كان حسيًا أو نفسيًا. كما في مثال سحرة فرعون حيث يتم التأثير على حواس المشاهدين بحيث يُخيل إليهم أن الحبال والعصي تتحرك، بينما في الحقيقة لم يتغير جوهرها المادي. هنا، تظل الكينونة المادية ثابتة، لكن الإدراك البشري هو الذي يتعرض للتحريف. يتمثل هذا في سحر الهواتف والوسوسة، حيث يخلق الساحر بمساعدة قوى سفلية حالة من القلق الشديد، الشك، الهلوسات، والأفكار المتطرفة في عقل المسحور. الكينونة المادية للشخص قد لا تكون مريضة عضويًا في البداية، لكن كينونته النفسية والعقلية تتفكك، مما يؤدي إلى تغيير ملموس في سلوكه، قراراته، وعلاقاته.
يُصبح التحدي الروحي هو وضع المعيار الفاصل بين هذين النوعين من التأثير. إذا كان التأثير يزول بمجرد إزالة المثير السحري كعين الناظر أو إنتهاء الطقس، فهو أقرب إلى الوهم الحسي اللحظي. أما إذا إستمر التأثير، أو زادت آثاره العضوية والنفسية بمرور الوقت حتى دون وجود الساحر المباشر كالأمراض المستمرة أو التعطيل المزمن، فهذا يشير إلى تغيير أعمق و أكثر جوهرية في كينونة الهدف (إختراق النظام الطاقي الروحي). المعيار الأكثر حسمًا هو إذا كان التأثير قابلاً للقياس والتحقق في العالم الموضوعي، سواء كان طبيًا (مرض لا تفسير له)، أو إجتماعيًا (طلاق غير مبرر)، أو ماديًا (خسائر متتالية). هذا التحقق يؤكد أن السحر قد نجح في العبور من عالم الإيهام إلى عالم التجسيد الوجودي. يرى الروحيون أن السحر إذا عمل فقط على الطبقة الدماغية/العصبية فهو إيهام. أما إذا تمكن من التأثير على الطبقة الأثيرية/الطاقية المحيطة بالجسد (الهالة الروحية)، والتي تُعد الجسر بين الروح والمادة، فإنه يُحدث تغييرًا حقيقيًا في الكينونة لأنه يُدخل مُعادلات سلبية في البرنامج الوجودي للفرد.
تُفيد الإشكالية بأن الكينونة الإنسانية هي ميدان صراع بين الحقيقة والوهم. السحر، في جوهره الروحي، هو محاولة لـتزييف كينونة إنسانية عبر إدخال برنامج مُضلل (وهم) أو برنامج مُدمّر (تغيير حقيقي) إلى نظامها الباطن. إن الإدراك البشري هو أول ما يُستهدف لأنه البوابة بين العالم الداخلي و الخارجي، لكن الخطورة الكبرى تكمن عندما يتمكن السحر من تجاوز الإدراك و العبث بـالجوهر الروحي الذي يحدد شكل و مصير الكينونة بأكملها.

_ ثمن الفوضى الكونية: المسؤولية الوجودية للساحر وتدمير العقد الأخلاقي

تُعتبر إشكالية الأخلاق والمسؤولية الوجودية الناجمة عن تأثير السحر على الكينونة محوراً روحانياً وأخلاقياً لا يمكن تجاوزه، إذ تضع الفعل السحري في موضع التحدي الجذري لمبدأ قدسية الوجود الفردي وحقه في تقرير مصيره. هذه الإشكالية تتجاوز القانون البشري إلى صميم العقد الروحي و الأخلاقي الذي يحكم العلاقات بين الكائنات في المنظومة الكونية.
إن جوهر الفعل السحري المُضر بالغير. تدميرًا، تعطيلاً، تفريقًا هو إعتداء وجودي غير مشروع. فلكل كائن الحق الروحي المطلق في الوجود ككيان مستقل، يتمتع بكامل سيادته على إرادته ومسار حياته وقراراته. عندما يستخدم الساحر معرفته وقواه للتأثير على كينونة الآخر، فإنه يُمارس نوعًا من الإستبداد الروحي؛ إذ يُجبر كينونة أخرى على السير في مسار لم تختره، أو يُعطلها عن تحقيق غايتها الوجودية التي قدرها لها الخالق. هذا التدخل لا يقتصر على تغيير الظروف الخارجية، بل يمتد إلى تشويه الخريطة الروحية للفرد، و يُلقي بظلال الشر واليأس على حياته، مما يحول دون تحقيق الكمال الوجودي الذي تسعى إليه الروح.
في ضوء هذا الإعتداء، تُصبح المسؤولية الأخلاقية و الوجودية للساحر ثقيلة ومدمرة، و تتجسد في نقاط محورية. يُنظر إلى الساحر كعامل فوضى لا يضر الفرد المسحور فقط، بل يساهم في إحداث خلل في التوازن الروحي للكون كله. فالكينونة الكلية هي شبكة مترابطة، و الشر الذي يبثه الساحر في كينونة فردية ينتشر في النسيج الكوني الأوسع. بالتالي، يتحمل الساحر مسؤولية روحية تجاه كل إضطراب كوني ينجم عن فعله. أعظم هبة روحية للإنسان هي حريته في الإختيار (الإرادة الحرة). السحر، عبر السيطرة أو التعطيل، يُحاول سلب هذه الحرية، ليُحوّل الكينونة من فاعل واعي إلى ضحية مُسَيّرة. هذه هي القمة في المسؤولية الوجودية السلبية، لأن الساحر يُنكر على الآخرين جوهر إنسانيتهم الروحي. الأفعال السحرية المُضرة غالبًا ما ترتبط بعقود مع قوى سفلية (شيطانية) تتطلب من الساحر التخلي عن قيمه الروحية ومبادئه الأخلاقية. هنا، لا يتسبب الساحر في تدمير كينونة الآخرين فحسب، بل يُوقع نفسه في هلاك روحي أبدي، وهو يدرك (أو يجب أن يدرك) الثمن الروحي الباهظ لتدخله غير المشروع. هذا هو ذروة المسؤولية الوجودية: المسؤولية عن تدمير روحه هو لتحقيق مصالح عابرة.
أما التساؤل عما إذا كان يحق لكيان فردي التدخل وتغيير مسار كينونة أخرى بشكل جذري وغير مرغوب فيه، فالإجابة الروحانية حاسمة بالنفي المطلق. الإطار الأخلاقي الروحي مبني على مبدأ عدم الإضرار وإحترام الحدود الروحية للآخر. أي فعل يهدف إلى تغيير أو تعطيل مصير كينونة حرة دون رضاها هو خرق للعقد الكوني الروحي. هذا التدخل يُعتبر تجاوزًا لصلاحيات الكينونة الفردية، التي يجب أن تقتصر على العمل على تحسين كينونتها الذاتية والإرتقاء بها، لا العبث بكينونة الآخرين. الساحر الذي يمارس هذا التدخل يتخذ موقفًا روحيًا يتشابه مع المُدّعي للألوهية أو السلطة الإلهية المطلقة، وهو ما يضعه خارج دائرة الرحمة والتسامح الروحي.
بإختصار، تُفصح إشكالية الأخلاق والمسؤولية الوجودية عن أن السحر ليس مجرد ممارسة تقنية، بل هو قرار وجودي بالشر المطلق؛ قرار يُعلن فيه الساحر رفضه للنظام الأخلاقي الروحي، ويتحمل بموجبه المسؤولية الكاملة عن كل تفكك روحي ومادي يلحق بالكينونة المُستهدفة، وعن تدهور كينونته الخاصة.

_ الإجبار المُقنّع: كيف يُفسد السحر مرآة الروح ويُحوّل الحرية إلى وهم

تُعتبر إشكالية الحرية والقدر (الجبرية)، في سياق العلاقة بين السحر والكينونة، واحدة من أكثر الإشكاليات الروحانية تعقيداً وجدلية، فهي تمس المبدأ الوجودي المؤسس للإنسان وهو الإرادة الحرة. إذا كان السحر يستطيع التحكم في قرارات شخص ما، أو شل حركته، أو تعطيل مصيره (أي كينونته)، فإن ذلك يطرح تساؤلات عميقة حول ما إذا كانت الكينونة البشرية في جوهرها قابلة للإجبار الخارجي، وما إذا كان السحر يحول الإنسان من فاعل واعي ومختار إلى مفعول به مسيّر ومُعطَّل.
من منظور الفعل السحري، يمكن النظر إلى السحر كآلية تُطبّق الجبرية الخارجية على الكينونة الإنسانية. في حالة السحر المُتخصص في التحكم أو التفريق، يتم إختراق المجال الروحي والنفسي للشخص لإحداث تحول قهري في المشاعر أو السلوكيات. هذا الإختراق لا يعمل بالضرورة عبر الإقناع، بل عبر إحداث عقد أو تأثير طاقي يُغيّر التوازن الكيميائي أو النفسي أو الروحي للشخص، جاعلاً إياه يتخذ قرارات مثل كره زوجته أو ترك عمله تبدو كأنها نابعة من إرادته، لكنها في الحقيقة أعراض لإجبار روحي خفي.
هذا يثير الإشكال؛ إذا كانت الكينونة مُنحت الحرية كعطية إلهية لخوض إختبار الوجود، فكيف يمكن لقوة سفلية أو بشرية (الساحر) أن تُبطل هذه العطية؟ الجواب الروحاني يميل إلى أن السحر لا يلغي الحرية بشكل مطلق، بل يُقيّد نطاقها بشدة. هو يُنشئ قيوداً طاقية أو نفسية هائلة تجعل الخيار الحر صعبًا للغاية، لكنه لا يزيل مسؤولية الكينونة بالكامل. فالمقاومة الروحية والتحصين الروحي كالإيمان و الدعاء تُعد إثباتًا لوجود هامش من الحرية يجب على الكينونة أن تتمسك به وتفعّله.
العلاقة بين السحر ومفهوم القدر تُقدم زاوية مختلفة. لا يمكن أن يقع السحر إلا بمشيئة الله و إذنه، مما يجعله جزءاً من القدر الإلهي الشامل. في هذه الحالة، يتحول السحر من مجرد فعل جبري إلى إبتلاء روحي ووجودي.
يُصبح تعرض الكينونة للسحر إختباراً لعمق إيمانها وقدرتها على الصبر واللجوء إلى القوة الإلهية العليا. الكينونة التي تنجح في مقاومة السحر بالصبر والدعاء تثبت أن حريتها الروحية لم تُهزم، وأنها تختار الفاعلية الروحية على الإستسلام للجبرية السحرية. قد يكون تأثير السحر بمثابة صدمة للكينونة الغافلة، تدفعها للبحث عن المعنى والقوة الحقيقية في إتصالها بالإلهي، وبالتالي تُعيد الكينونة تحديد هويتها كـفاعل روحي بعد فترة من كونه مفعول به نتيجة الغفلة الروحية.
في الختام، يؤكد السحر على إمكانية تحويل الكينونة من فاعل إلى مفعول به، ليس عبر تدمير كامل للحرية، بل عبر إفساد أداة الإختيار (النية والإدراك). السحر يُفسد المعطيات التي يبني عليها الشخص قراراته، ويشوه المرآة الروحية التي يرى بها واقعه. هذا التحويل يُعد قمة الإجبار الوجودي. الساحر يتدخل ليجعل الكينونة تتصرف ضد مصلحتها العليا وضد طبيعتها السليمة. إن التساؤل الحقيقي ليس حول ما إذا كان السحر يُلغي الحرية (وهو لا يفعل كليًا)، بل حول ما إذا كانت الكينونة المُتأثرة قادرة على التمييز بين حريتها الحقيقية و بين الإجبار المُقنّع، وهو تحدٍ يضع على عاتق الكينونة المسحورة مهمة روحانية شاقة لإستعادة الوعي الحر والتحرر من أغلال الجبرية السحرية. هذا الصراع الروحي هو ما يُعرّف في نهاية المطاف القوة الروحية الحقيقية للكينونة وقدرتها على البقاء كـفاعل مختار.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...


المزيد.....




- انفراج مرتقب.. وزير الداخلية الفرنسي يبحث سبل استئناف الحوار ...
- القصر الملكي: المغرب يرفع الإنفاق على الصحة والتعليم إلى 15 ...
- القصر الملكي : المغرب يخصص في ميزانيته 15 مليار دولار للصحة ...
- المغرب يرفع ميزانية الانفاق على الصحة والتعليم إلى 15 مليار ...
- ألمانيا تستدعي سفيرها في جورجيا بسبب -التحريض- ضدها
- وزير الدفاع الأفغاني: نتوقع من قطر وتركيا مراقبة تنفيذ الاتف ...
- إسرائيل تتراجع عن قرار إغلاق معابر قطاع غزة
- وزير الحرب الأميركي: وجهنا ضربة جديدة لمركب مخدرات كولومبي
- طوفان أرهورمان يفوز بالانتخابات الرئاسية في قبرص التركية
- مخاوف من استغلال تعديلات قانونية لتقييد الحريات بالسودان


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - السحر قناع الأنطولوجيا: كيف يكشف التدخل الغيبي عن مرونة الكينونة وصراع الإرادات الوجودية -الْجُزْءُ الْأَوَّلُ-