|
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخُّل الْغَيْبِيّ عَنْ مُرُونَة الْكَيْنُونَة وَصِرَاع الْإِرَادَات الْوُجُودِيَّة -الْجُزْءُ الخَامِسُ-
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8502 - 2025 / 10 / 21 - 21:04
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ السحر بين الأوسيا والفينومينا: التحول الجوهري أم التبديل المظهري للكينونة
إنّ مسألة ماهية الكينونة المتغيرة بفعل السحر هي سؤال فلسفي عميق يلامس صميم الميتافيزيقا وعلاقة الظاهر بالباطن. للتعامل مع هذا السؤال، يجب علينا تحليل العلاقة بين السحر والكينونة، والنظر فيما إذا كان الفعل السحري يؤدي إلى تحوّل جوهري في الأوسيا {Ousia} أو الجوهر الأصلي للشيء، أم مجرّد تبدّل مظهري أو تجلٍّ في الفينومينا {Phenomena} أو الظواهر والخواص المدركة حسياً. إنّ التفسير الفلسفي لفعل السحر يختلف بإختلاف المدارس الفكرية. إذا نظرنا إلى السحر من منظور يرى الكون مادة مرنة أو نسيجاً كونياً قابلاً لإعادة التشكيل عبر الإرادة أو القوى الخفية، فمن الممكن الإفتراض بأن الفعل السحري يغير جوهر الكينونة. هذا الرأي، الذي نجده في بعض الفلسفات الغنوصية أو الهرماسية، يرى أنّ الجوهر ليس ثابتاً غير قابل للتغيير كما تصوره الأرسطية التقليدية، بل هو بنية عميقة يمكن التأثير فيها وإعادة برمجتها. في هذا السياق، لا يقتصر السحر على إيهام الحواس أو تغيير الخصائص السطحية كاللون و الشكل، بل يصل إلى قلب ماهية الشيء، مُغيراً وظيفته، طبيعته الداخلية، بل وحتى مصيره الكوني. فمثلاً، تحويل قطعة من الرصاص إلى ذهب ليس مجرد تلوين، بل هو تحوّل جوهري في هويتها العنصرية الكيميائية و الميتافيزيقية. من ناحية أخرى، تذهب الفلسفات الأكثر تشدداً في التمييز بين الجوهر والمظهر إلى أنّ الفعل السحري يغير فقط مظهر الكينونة وتجلّياتها في العالم. وفقاً لهذا المنظور، المستلهم جزئياً من الفلسفة الأفلاطونية التي تفرق بين عالم المُثُل الثابت وعالم الحس المتغير، يظل جوهر الكينونة أي ماهيتها الثابتة والمُحددة لوجودها محصّناً ضد التغيير السحري. فإذا قام الساحر بتحويل إنسان إلى حيوان، فإنّ التغيير يقع على صورة ذلك الإنسان وشكله الخارجي، بينما يظل جوهره العاقل مُحتجِزاً داخل القالب الحيواني. إنّ هذا التفسير يرى أنّ السحر يعمل من خلال التلاعب بالإدراك (إحداث الوهم) أو التلاعب بالخواص العرضية (الأعراض)، و ليس بالوصول إلى الأوسيا. فالأعراض هي ما يمكن أن يتغير ويزول دون أن يؤدي ذلك إلى فناء الكينونة أو تحوّلها الكلي. في هذه الحالة، السحر هو فن التبديل المظهري وخلق الإفتراضات التي تظهر وكأنها تغييرات جوهرية، بينما الحقيقة الميتافيزيقية للشيء تظل ثابتة في عالمها الخفي. إنّ العلاقة بين السحر والكينونة يمكن تحليلها عبر مفهوم الضرورة والإمكان. إذا كان جوهر الكينونة ضرورياً لوجودها، بمعنى أنه لا يمكن أن يتغير دون أن تفقد الكينونة هويتها بالكامل و تتحول إلى شيء آخر (أو تفنى)، فإنّ أيّ تغيير سحري يُعدّ تغييراً مظهرياً، يعمل ضمن حدود الإمكان المتاح للكينونة دون المساس بما يكوّنها. فالنار، على سبيل المثال، جوهرها هو الإحتراق. إذا إستطاع الساحر أن يجعل النار باردة مؤقتاً، فإنّه قد غيّر خاصية (المظهر)، لكنّه لم يغير الجوهر؛ لأنّ جوهرها يظل في قدرتها الكامنة على الإحتراق عندما يزول الفعل السحري. لكن، إذا تبنّينا منظوراً أكثر راديكالية يرى أنّ الكينونة نفسها هي فعل مستمر من التحوّل و الإنشاء كما في بعض مدارس الوجودية أو فلسفة التغيير لهيراقليطس، عندها يصبح التمييز بين الجوهر والمظهر أقل وضوحاً. في هذا الإطار، قد يُنظر إلى الفعل السحري على أنه تدخّل في عملية الإفصاح عن الكينونة، أو إطلاق لإمكانيات غير مُفعّلة داخل الجوهر. و هنا، يمكن أن يُقال إنّ السحر يُحوّل الجوهر نفسه، ليس بمعنى إفنائه، بل بمعنى إعادة تعريفه وإعادة هيكلة ماهيته من خلال قوى إرادية أو كونية. يصبح الساحر عندئذ صانع وجود (Demiurge) يشارك في عملية الخلق المستمرة، مُحدثاً تحوّلات حقيقية في الهوية الأساسية للأشياء. إنّ هذا التفسير يفتح الباب أمام إحتمال أن تكون التحوّلات السحرية دائمة وميتافيزيقية، و ليست مجرّد حيل بصرية مؤقتة. في التحليل الأخير، يمكن القول إنّ ماهية الكينونة المتغيرة بفعل السحر تظل موضوعاً للنقاش الفلسفي الذي يعكس صراعاً قديماً بين مدرستين: المدرسة التي تؤمن بـثبات الجوهر و تحجيم قدرة السحر على تغيير إلا العرض و المظهر، والمدرسة التي ترى سيولة الجوهر و قدرة الفعل السحري على النفاذ إلى العمق الميتافيزيقي للشيء. ربما يكمن الجواب في مستوى الفعل السحري ذاته: فالسحر الضعيف أو المحدود قد يقتصر على تغيير التجليات و المظاهر، بينما السحر العميق والأكثر قوة قد يصل إلى درجة التدخل في الأسباب الأولى و إعادة صياغة جوهر الكينونة، مُحوّلاً حقيقتها الوجودية من الداخل إلى الخارج. إنّ قبول فكرة أن السحر يغير الجوهر يتطلب منا إعادة تعريف الجوهر ذاته، بحيث لا يكون كياناً مُحصّناً، بل هو مجال لـلتفاعل والتأثير الميتافيزيقي.
_ السحر واختراق الطبقات: تحدّي الجسد، النفس، والروح في البنى الأنطولوجية للكائن
إنّ مسألة إختراق حدود الكينونة بفعل التقنية السحرية تضعنا أمام تحدٍّ فلسفي عميق يتعلق بطبيعة الحواجز الأنطولوجية للكائن، أي التمييز بين مكوناته الأساسية: الجسد، النفس، و الروح. للتعامل مع هذا السؤال، يجب أن ننظر إلى السحر لا على أنه مجرد خيال، بل كـتقنية ميتافيزيقية تسعى للتأثير في البنى الوجودية للكائن دون إحداث تدمير وجودي كامل، بل إعادة تشكيل أو تحوير. تعتمد قدرة التقنية السحرية على إختراق الحواجز الأنطولوجية للكائن أي تجاوز حدود كل من الجسد والنفس والروح على تفسيرنا للعلاقة بين هذه المكونات. إذا تبنينا نموذجًا أنطولوجيًا يرى هذه المكونات طبقات منفصلة كما في الثنائية الديكارتية أو الثلاثية الأفلاطونية التقليدية، فإنّ إختراق حاجز ما يعني الوصول إلى جوهره دون إحداث إنهيار في الطبقات الأخرى. يُعدّ الجسد أسهل الطبقات إختراقًا سحريًا، ولكنه الأصعب في التحوير الجذري دون تدمير. يمكن للتقنية السحرية أن تخترق حدود الجسد عبر تغيير مظاهره (التخفي، التشكّل) أو خصائصه (القوة، المقاومة). لكن التحدي يكمن في إحداث تحوّل بنيوي عميق مثل تحويل الأنسجة إلى مادة أخرى مع الحفاظ على وحدة الكائن و إستمرارية حياته. السحر ينجح في هذا المستوى كلما كان التغيير مظهريًا أو وظيفيًا مؤقتًا. أما إذا حاول الساحر تغيير التركيب الجوهري للخلايا بما يتعارض مع ماهية الكائن البيولوجية، فإنّ النتيجة غالبًا ما تكون فناءًا أو تحولًا إلى كيان مختلف، مما يشكل التدمير الذي نسعى لتجنبه. هنا، يكون السحر بمثابة قوة إعادة ترتيب حادة تعمل على حدود المادة، وتتوقف قبل الوصول إلى نقطة اللاعودة البيولوجية. تُشير النفس إلى الوعي، الذاكرة، الإرادة، و العواطف. إنّ إختراق هذا الحاجز هو قلب فنون السحر العقلي، كالسيطرة على العقول والتلاعب بالذكريات. يمكن للتقنية السحرية أن تخترق النفس عن طريق التأثير المباشر على الأنسجة العصبية أو ميتافيزيقيًا عن طريق تحويل أنماط الفكر و الطاقة العاطفية. هذا الإختراق لا يدمر الكائن ماديًا، ولكنه قد يؤدي إلى تدمير أنطولوجي للنفس ذاتها؛ أي محو الهوية و الذاتية والذاكرة. التدمير في هذا السياق يكون أنطولوجيًا نفسيًا. يتحول الكائن إلى قشرة فارغة من إرادتها الأصلية، أو إلى شخص آخر. الحد الذي لا يجب تخطيه هو محو الإرادة الحرة بالكامل، حيث إنّ تدمير الإرادة يُعادل تدمير ماهية الكائن الواعي كشخص مسؤول وذات قائمة بذاتها. الروح، في الفلسفات التي تميّزها عن النفس، هي الجوهر الثابت، أو الشرارة الإلهية، أو مصدر الحياة. هذا الحاجز هو الأكثر منعة والأصعب إختراقًا، ويُعتبر مساسه أقرب إلى الفناء الكلي أو الأبدي. يُمكن للتقنية السحرية أن تحاول التأثير في الروح عن طريق فصلها عن الجسد كما في حالات الإستحواذ أو الإسقاط النجمي القسري أو عن طريق تلوينها أو إفسادها (اللعنات الكبرى). إنّ إختراق هذا الحاجز قد لا يدمر الجسد و النفس آنيًا، ولكنه قد يؤدي إلى تدمير مصير الكائن الأبدي أو تغيير ماهيته الجوهرية بما يتجاوز حدود الإصلاح. التدمير في هذا المستوى لا يعني الموت، بل التحول إلى كيان ما بعد أنطولوجي غير مُعرّف ضمن النظام الكوني الأصلي. الحد هنا هو فصل الروح أو إعادة كتابة جوهرها المقدس؛ فالفصل يؤدي إلى تدمير وحدة الكائن، و إعادة الكتابة تؤدي إلى تدمير ماهيته. إنّ الإجابة الفلسفية على السؤال تكمن في مفهوم الوحدة الأنطولوجية للكائن. يمكن للتقنية السحرية أن تخترق كل حاجز من هذه الحواجز إلى المدى الذي لا يؤدي فيه هذا الإختراق إلى قطع الرابط الحيوي بينها. إنّ السحر الناجح هو السحر الذي يعمل كـقوة تحويلية موحدة (Unifying Transformative Force)، حيث يُحدث تغييرًا جذريًا في إحدى الطبقات (الجسد مثلاً) ولكنه في الوقت نفسه يحافظ على التناغم الأنطولوجي للكائن عبر الطبقات الأخرى (النفس والروح)، مُسهمًا في إعادة تعريف، لا تدمير، لوجوده. فكلما كانت التقنية السحرية أرقى و أعمق، كان إختراقها أكثر شمولًا، وكانت قادرة على تعديل النظام الداخلي للكائن (النفس، الروح) ليتوافق مع التغيير المادي (الجسد)، و بالتالي تجاوز الإختراق من مجرد إلحاق ضرر إلى تحويل الكينونة، محققة بذلك إختراق الحدود دون تدمير. إنّ هذا يتطلب من الساحر أن يكون ليس مجرد متلاعب بالقوى، بل فيلسوفًا أنطولوجيًا يدرك كيف يعمل الكون ككل متكامل.
_ الكرامة الأنطولوجية في السحر: هل يتحول الكائن البشري إلى مجرد وسيلة تقنية
إنّ مسألة تحوّل الكينونة البشرية إلى مجرد أداة تقنية في الممارسة السحرية هي تساؤل أخلاقي وفلسفي عميق يلامس جوهر الذاتية و الإستغلال. للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نميز بين مفهومين للسحر: السحر كـفن وجودي يدمج الذات، والسحر كـتقنية آلية تجعل الذات مجرد وسيط أو قناة قوة. في الفلسفات التقليدية المرتبطة بالسحر كالهرماسية و الغنوصية)، لا تتحول الكينونة البشرية إلى مجرد أداة. بل على العكس، يُنظر إلى الممارسة السحرية على أنها أعلى مراحل تحقيق الذات وإتقان الإرادة. الساحر في هذا السياق ليس مجرد منفذ لأوامر خارجية، بل هو مركز إرادي يُنشئ الفعل السحري من خلال توجيه قوى الكون عبر نفسه الواعية. الكينونة هنا هي مرشح ومرآة للقوى الكونية، لكنها لا تُفقد ذاتيتها؛ بل تُعززها وتُكمّلها. إنّ نجاح الفعل السحري يعتمد على درجة تكامل الكائن (الجسد، النفس، الروح) و قدرته على أن يكون شريكًا فاعلًا في العملية، وليس مجرد مفتاح تشغيل. فالطاقة السحرية تنبع من أعماق الوجود الشخصي للساحر، الذي يستخدم جسده كـهيكل مقدس و نفسه كـمختبر عقلي، مما يحافظ على ذاتية الكينونة و كرامتها الوجودية. من ناحية أخرى، قد تتحول الكينونة البشرية إلى مجرد أداة في سياقات معينة من السحر الميكانيكي أو الإحتفالي القسري. في هذا النوع من الممارسة، غالبًا ما يُنظر إلى الكائن البشري على أنه وعاء طاقة، أو مركز قربان، أو قناة إتصال يمكن التحكم فيها وتوجيهها من قبل كيانات أو قوى أعلى (شياطين، آلهة، أرواح). هنا، يتم تجريد الكائن من إرادته الحرة ووعيه النقدي، ويصبح فعليًا أداة سلبية يتم تسخيرها لتنفيذ أهداف لا تخصه، سواء كانت هذه الأهداف للساحر الذي يتحكم به، في حالة السحر المُمارس على الآخرين، أو للقوى الكونية التي تستغل جهده في حالة السحر الذي يتطلب تضحية جوهرية. هذا التحول إلى أداة تقنية ينتج عن فقدان للسيطرة الذاتية وتفكيك للذاتية الفردية، حيث يتم تقليص الكائن إلى مجرد وظيفة أو مصدر قوة، مما يُعدّ إستغلالًا أنطولوجيًا. الفيلسوف إيمانويل كانط قد يرى في هذا إستغلالًا غير أخلاقي، حيث يتم التعامل مع الكائن العاقل كوسيلة بحتة، وليس كغاية في ذاته. يمكن تحليل العلاقة بشكل أعمق عبر مفهوم الواجهة (Interface). إذا نظرنا إلى الكينونة البشرية كـواجهة برمجة تطبيقات ميتافيزيقية (Metaphysical API)، فإنّ السؤال هو: هل الواجهة تُبرمَج وتُستغل، أم أنها هي التي تبرمج وتُوجّه؟ في السحر الإرادي الكينونة هي الـ "API" التي تُصمّم وتُطوّر نفسها. هي تستخدم بروتوكولات السحر لتنفيذ كود الإرادة، لكنها تظل المالك و المُبرمج الأساسي لنظامها الوجودي. الذاتية مُصانة لأنّ الفعل ينبع من الإرادة المُكتفية للساحر. لكن في السحر القسري/الآلي، الكينونة تتحول إلى خادم يتم إستخدامه عن بُعد. يتم إختراق "الـ API" وإستغلالها من قبل قوى خارجية أو ساحر آخر. هذا التحول يعني تجريدًا من الذاتية، حيث يصبح الكائن آلة بيولوجية أو نفسية لتوليد الطاقة أو تمريرها. إنّ هذا هو الحد الذي عنده تُصبح الكينونة مجرد أداة، أي عندما تُصبح قيمة الكائن في وظيفته التقنية وليس في وجوده كذات واعية. في الختام، إنّ تحوّل الكينونة البشرية إلى مجرد أداة تقنية في الممارسة السحرية ليس قدرًا حتميًا للسحر، بل هو نتيجة لإختيار أخلاقي و فلسفي في الممارسة. السحر الذي يحترم الذاتية يرى في الكينونة مركزًا فاعلًا مُؤثرًا؛ بينما السحر الذي ينزلق نحو الإستغلال يرى فيها مصدرًا يمكن إستهلاكه أو قناة يمكن التحكم فيها. يظل التحدي الفلسفي هو الحفاظ على الذاتية الوجودية للساحر كـغاية بحد ذاتها، حتى في أوج إستخدامها للقوى الخارقة.
_ سيادة الإرادة في السحر: صراع الذاتية الفاعلة والتنازل الأنطولوجي
إنّ مسألة سيادة الإرادة في سياق الممارسة السحرية هي من أكثر النقاط حساسية في الفلسفة الأنطولوجية للسحر، و تعتمد إجابتها على التمييز بين أنواع الممارسة السحرية و علاقة الكينونة بـالإرادة الحرة كـجوهر وجودي. هل التقنية السحرية بالضرورة تُفقد الكينونة إرادتها الحرة وتُحوّلها إلى مجرد كائن مسلوب الإرادة بفعل قوة خارجية؟ في جوهرها، يمكن النظر إلى الممارسة السحرية على أنها أقصى درجات تجلّي الإرادة الحرة للكائن. إنّ السحر، في أنقى صوره، هو تقنية ميتافيزيقية تهدف إلى تكييف الواقع مع إرادة الساحر. إنه يتطلب مستوىً عالياً من التركيز الواعي، والتصميم العقلي، والإنسجام النفسي، و هي كلها أفعال تنبع بشكل مباشر من الذاتية الفاعلة للكائن. في هذا النموذج، لا تُسلب الإرادة، بل على العكس، تُمارَس وتُصقَل لتصبح أداة الخلق الأقوى. الإرادة الحرة هنا هي محرك الفعل السحري، والتقنية هي مجرد قواعد تطبيقية لتفعيل هذا المحرك. الكينونة البشرية، في هذه الحالة، تُثبت سيادتها الوجودية عبر قدرتها على إختراق الحتمية الطبيعية وتغيير مسار الأحداث. ومع ذلك، يمكن للممارسة السحرية أن تتحول إلى قوة تسلب الإرادة عندما تخرج عن الإطار الوجودي للساحر إلى الإطار التقني القسري أو التبادلي. هذا التحوّل يحدث في سياقين رئيسيين: 1. الإرادة المَسْلوبة عبر القوى الخارجية (السحر التعاقدي أو الاستدعائي): عندما تتضمن الممارسة السحرية إستدعاء كيانات خارجية، أرواح، شياطين، آلهة، أو الدخول في تعاقدات معها لتنفيذ الفعل السحري، قد تتحول الإرادة الحرة للساحر من قوة مُوجّهة إلى عُملة للدفع. في هذه الحالة، قد تضمن التقنية السحرية النجاح الفوري، لكن ثمنها يكون التنازل التدريجي عن جزء من السيادة الذاتية. هذا التنازل هو ما يُشكل سلب الإرادة. يتحول الساحر، وهو الكائن الحر، إلى تابع أو عبد لهذه القوى، حيث تُملي عليه الكيانات الخارجية الأفعال أو الأهداف، وبذلك يصبح الفعل السحري الذي يقوم به غير نابع من إرادته الأصيلة، بل من إستجابة قسرية لشرط خارجي. هنا، تسلب التقنية الإرادة ليس بشكل مباشر، بل عبر الوسيط الميتافيزيقي الذي يتم إستحضاره. 2. الإرادة المَسْلوبة في سحر الضحية (الإستغلال الأنطولوجي): عندما يُمارس السحر على كينونة أخرى، يصبح سلب الإرادة هو الهدف التقني بحد ذاته. تُستخدم التقنية السحرية كالتنويم المغناطيسي الروحي، أو سحر السيطرة لـتجاوز الدفاعات الأنطولوجية للكائن المُستهدَف، و تثبيت إرادة خارجية كإرادة الساحر أو الكيان داخل نفسه. هنا، يتم تعطيل وظيفة الإرادة الحرة للكائن، و يُصبح الجسد والنفس أداة طيّعة تُنفذ أوامر ليست نابعة من ذاتها. هذا السلب للإرادة يُعدّ تدميراً للجوهر العاقل للكائن المستهدَف، لأنه يمحو ما يجعله شخصاً أخلاقياً مُستقلاً ويُحوله إلى آلة إستجابة محكومة بفعل خارجي قسري. هذا هو المثال الأوضح لـسلب الإرادة بفعل التقنية السحرية، حيث تتحول التقنية إلى قوة إستبدادية أنطولوجية. فلسفياً، يجب التمسك بالتمييز بين الممارسة و الجودة الأنطولوجية. الإرادة الحرة، كـجوهر وجودي للكينونة العاقلة، لا يمكن أن تُسلَب بالكامل دون تدمير هذه الكينونة. إنّ ما يُسلَب فعلياً في السحر القسري هو القدرة على ممارسة هذه الإرادة أو السيطرة الواعية عليها. الكينونة لا تتحول بالكامل إلى كائن مسلوب الإرادة؛ بل تتحول إلى كائن مُعاق في ممارسة إرادته، أو مُسيّر بما يخالف إختياره الأصيل. لذلك، يمكن القول: لا، الممارسة السحرية كتقنية لا تستطيع أن تُفني أو تُدمّر الجوهر الأنطولوجي للإرادة الحرة، لأنّ هذا الجوهر هو ما يُعرّف الكينونة ككائن عاقل. ولكن، نعم، يمكن للتقنية السحرية أن تُصبح أداة فعّالة لسلب السيطرة على الإرادة وتحويل الكائن إلى منفّذ قسري لفعل خارجي، سواء كان مصدره كياناً مستدعًى أو إرادة ساحر آخر. إنّ الحفاظ على الإرادة الحرة هو، في الحقيقة، الخط الدفاعي الأنطولوجي الأخير للكينونة ضد أي شكل من أشكال السحر الإستغلالي.
_ التجزئة الأنطولوجية للكائن: كيف تستخدم التقنية السحرية تفكيك الجسد والنفس والروح للسيطرة
إنّ مسألة تجزئة الكينونة في الممارسة السحرية تلامس صميم النظرة الفلسفية لطبيعة الوجود البشري. نعم، تعتمد الكثير من التقنيات السحرية على تجزئة الكينونة إلى عناصر جسدية، نفسية، روحية أو حتى عناصر أكثر دقة، ليس بهدف التدمير بالضرورة، بل بهدف السيطرة الإنتقائية الفعّالة على كل جزء على حدة. يُنظر إلى هذه التجزئة كـأداة تحليل أنطولوجي تسمح للساحر بالتعامل مع الكائن البشري كـنظام مُركّب يمكن إختراق إحدى طبقاته دون المساس بالضرورة بالطبقات الأخرى، مما يمنع المقاومة الكلية للكائن. تستمد التقنية السحرية قوتها من مبدأ أن الكل المُركّب أسهل تحكمًا عندما يُفكك إلى أجزائه. إذا حاول الساحر التأثير على الكينونة بأكملها دفعة واحدة، فإنه يواجه مقاومة موحدة تشمل الإرادة الروحية، والوعي النفسي، والدفاعات الجسدية. لذلك، فإنّ المنهجية السحرية الذكية تلجأ إلى التجزئة الأنطولوجية للكائن، وهي عملية تحليلية عملية تسمح بتوجيه قوى سحرية متخصصة لكل جزء: 1. تجزئة الجسد (التأثير على الهيكل المادي و الحيوي): في هذا المستوى، يُنظر إلى الجسد ليس ككتلة واحدة، بل كـمجموعة من العناصر أو الطاقات المترابطة مثل العناصر الأربعة، أو المكونات البيولوجية. تعتمد التقنيات السحرية التي تستهدف الجسد على تفكيك الوعي الجسدي عن طريق إستهداف نقاط محددة مثل الشاكرات، أو مسارات الطاقة، أو الأعضاء الحيوية. يتم عزل هذا الجزء مؤقتًا لتنفيذ تأثير جسدي بحت، كإحداث المرض أو الشفاء أو التغيير المظهري. السيطرة هنا تكون حيوية مادية؛ حيث يتم تجميد قدرة الجسد على المقاومة أو الحفاظ على حالته الطبيعية، بينما تظل النفس والروح نظريًا غير متأثرتين بشكل مباشر. 2. تجزئة النفس (التلاعب بالإدراك والذاكرة و الإرادة): تعتبر النفس (العقل والوعي) هي المجال الأكثر تعقيدًا للتجزئة. لا يتم تجزئة النفس إلى خلايا، بل إلى وظائف نفسية مستقلة كـالذاكرة، الإرادة، العواطف، والإدراك. تسمح التقنية السحرية بإستهداف جزء واحد فقط؛ فمثلاً، يمكن إستخدام سحر النسيان لـعزل وتجميد وظيفة الذاكرة دون المساس بوعي الكائن أو قدرته على الحركة. السيطرة تكون هنا إدراكية نفسية؛ حيث يتم تعطيل المقاومة الفكرية للكائن، مما يجعله أكثر تقبلاً للتأثيرات السحرية الكلية اللاحقة. إنّ تجزئة النفس تسمح للساحر بالوصول إلى الجزء الضعيف أو المتعطش في الكينونة، كالرغبة أو الخوف، ليتخذ منه مدخلاً للسيطرة الكاملة. 3. تجزئة الروح (عزل الجوهر أو الطاقة الحياتية): في الفلسفات التي تفصل الروح، يُنظر إليها على أنها مصدر الحياة أو الجوهر الثابت أو جسر الإتصال بالعوالم العليا. تعتمد التقنيات السحرية الأكثر خطورة على تجزئة الروح عن طريق محاولة فصلها مؤقتًا عن الجسد والنفس كما في الإسقاط النجمي القسري، أو عن طريق عزل الطاقة الحيوية الأساسية التي تُسمى أحيانًا البريانا أو الكي لإنهاك الكائن. السيطرة هنا تكون جوهرية وجودية؛ فبمجرد عزل الروح، يصبح الجسد والنفس عرضة للسيطرة والإحتلال من قبل كيانات خارجية، أو يصبح الكائن نفسه فاقدًا للدافع الأساسي لوجوده. إنّ الهدف النهائي من هذه التجزئة ليس الإبقاء على الكائن مُفككًا، بل إضعاف النظام الدفاعي الكلي لفرض شكل جديد من الوحدة الأنطولوجية تحت سيطرة الساحر أو القوى التي يتعامل معها. يتم تفكيك الكينونة مؤقتًا لتفقد تماسكها و مقاومتها، ثم تُعاد تجميعها على نحو يخدم الهدف السحري. بهذا المعنى، فإنّ التقنية السحرية تستخدم التجزئة كـإستراتيجية تفكيك أولية تسبق عملية إعادة برمجة الكينونة و تشكيلها وفقاً لإرادة خارجية، مما يؤكد أن التجزئة هي خطوة أساسية وليست مجرد ظاهرة عرضية في الممارسة السحرية للسيطرة على الكائن البشري.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السحر قناع الأنطولوجيا: كيف يكشف التدخل الغيبي عن مرونة الكي
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
المزيد.....
-
الكشف عن قيمة المسروقات من متحف اللوفر
-
-مسار الأحداث- يناقش أسباب زيارة دي فانس وكوشنر وويتكوف لإسر
...
-
غزة بعد الاتفاق مباشر.. إسرائيل تفحص جثتي أسيرين وحماس تؤكد
...
-
البرلمان التركي يقر تمديد إرسال قوات إلى العراق وسوريا
-
فرنسا تعلن قيمة -كنوز اللوفر- المسروقة.. وتوجه تحذيرا إلى ال
...
-
ترامب عن لقاء بوتين: -لا أريد أن أضيع وقتي-
-
نتنياهو يُقيل تساحي هنغبي: خلافات غزة والرهائن تُطيح بمستشا
...
-
كيف وجد الرئيس ساركوزي نفسه وراء القضبان، ومن هو الملياردير
...
-
بين شهادة المرحوم مصطفى البراهمة و مسلسل “حين يرونا”: خاطرة
...
-
شاهد..برشلونة يحقق مكاسب بالجملة بعد الفوز على أولمبياكوس
المزيد.....
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|