أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخُّل الْغَيْبِيّ عَنْ مُرُونَة الْكَيْنُونَة وَصِرَاع الْإِرَادَات الْوُجُودِيَّة -الْجُزْءُ التَّاسِع-















المزيد.....


السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخُّل الْغَيْبِيّ عَنْ مُرُونَة الْكَيْنُونَة وَصِرَاع الْإِرَادَات الْوُجُودِيَّة -الْجُزْءُ التَّاسِع-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8508 - 2025 / 10 / 27 - 17:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ ثمن الإزاحة الوجودية: فلسفة التكلفة الروحية للقوة السحرية

هناك ثمن روحي ملازم لاستخدام القوة السحرية تقنياً، وهذا الثمن ليس بالضرورة أن يكون دائماً سلباً أو تدميراً لكينونة الساحر أو المتعامل معه، بل غالباً ما يكون ثمناً وجودياً يتمثل في تعديل أو تحويل أو إستهلاك للطاقة الكينونية. الممارسة السحرية، بوصفها تدخلاً واعياً ومُوجَّهاً في نسيج الواقع، لا يمكن أن تكون عملية مجانية، بل تخضع لمبدأ حفظ الطاقة الكونية (The Conservation of Energy Principle) في المجال الميتافيزيقي.
فلسفياً، يُنظر إلى إستخدام القوة السحرية كـإقتراض طاقي أو إزاحة للواقع. فإذا كان السحر هو فن تغيير الواقع وفقاً للإرادة، فإن تحقيق هذا التغيير يتطلب طاقة تتناسب مع حجم التدخل. هذا الثمن الروحي يمكن تحليله من عدة جوانب. الثمن الأولي والأكثر وضوحاً هو الإستنزاف الطاقي من الذات الروحية للساحر. إن النية الصادقة المُركّزة، التي تُعتبر المُحرك التقني للسحر، ليست مجرد فكرة عابرة، بل هي تجسيد مكثف للقوة الحياتية والإرادة الواعية (الـمانا الداخلية. نجاح العملية التقنية يتطلب ضخ كميات هائلة من الطاقة النفسية و الروحية للساحر في الطقس. هذا الإستهلاك يُترجم في الواقع إلى إجهاد روحي، وضعف في التركيز، أو إحساس بالفراغ الوجودي بعد إتمام الطقس. فإذا كان الهدف عظيماً، كان الثمن المُستثمر من كينونة الساحر عظيماً أيضاً. هنا الثمن ليس سلبياً بالضرورة، بل هو تكلفة التشغيل اللازمة لإطلاق القوة.
يتطلب إتقان التقنية السحرية ونجاحها ليس فقط طاقة، بل تحولاً جذرياً في وعي الساحر نفسه. الساحر الناجح يجب أن يتخلى عن اليقين السلبي للعالم العادي ويتبنى اليقين الإرادي، الذي يعني الإيمان المطلق بقدرته على التغيير. هذا التحول هو ثمن روحي. يكلف العزلة الفلسفية عن الوعي الجمعي، التخلي عن المعتقدات السابقة، وتحمل المسؤولية الكينونية الكاملة عن كل فعل سحري. هذا الثمن هو نضج روحي لكنه قد يكون مدمرًا نفسياً إذا لم يكن الساحر مستعداً لتحمل عبء القوة. يصبح الثمن الروحي سلبياً ومُدمِّراً عندما يكون التدخل السحري خارج نطاق التوازن الكوني وهو ما يُعرّف السحر الأسود أو المدمر. هنا، لا يتم دفع الثمن من خلال الإستثمار العادل للطاقة الشخصية، بل من خلال الإستيلاء على طاقة الغير أو مخالفة القانون الكوني. عندما تُستخدم التقنية السحرية للتلاعب بإرادة شخص آخر، أو للإضرار به، فإن الثمن يُدفع من كينونة ذلك الشخص. السلب هو إنتهاك للسيادة الكينونية للمتعامل معه. فالساحر يفرض إرادته على مصير كائن آخر، مما يؤدي إلى تشتيت طاقة المُتعامل معه، أو إفساد قراراته، أو إضعاف روحه. هذا السلب هو تدمير روحي للضحية. في هذه الحالة، يعود الثمن المدمر ليدفعه الساحر نفسه، ليس كإجهاد، بل كـدين روحي. الممارسة السحرية المدمرة هي إعادة ترتيب قسرية وغير طبيعية للواقع، وهذا يتطلب توازناً مُعادلاً من الكون. الفساد يتمثل في الـكارما السلبية؛ حيث تتدهور العلاقة الوجودية للساحر مع الكون، مما يؤدي إلى التفكك الداخلي، و الفشل المستمر في مجالات أخرى من الحياة، و التعاسة الروحية، حتى لو تحققت الأهداف المادية للطقس. فـثمن القوة التقنية هنا هو إفساد الجوهر الروحي للذات مقابل نجاح زائف.
فلسفياً، الثمن الروحي لإستخدام القوة السحرية التقنية هو تكلفة الإزاحة الطاقية التي تتطلبها عملية تغيير الواقع. إذا كان التغيير يخدم التناغم الكوني والخير العام (السحر الأبيض)، يكون الثمن هو الإستثمار الواعي للطاقة الشخصية وهو ثمن نضج وتضحية وليس سلباً. أما إذا كان التغيير يخدم الذات الأنانية على حساب الآخرين (السحر الأسود)، فإن الثمن يتحول إلى سلب و تدمير لكينونة المُستهدَف، و ينتهي بفساد روحي ووجودي للساحر نفسه كقانون كوني للتوازن. القانون هنا هو أن القوة التقنية لا تعمل في فراغ روحي؛ فكل عمل سحري هو معاملة طاقية تتطلب دفعاً، و يُحدد طبيعة النية ما إذا كان هذا الدفع سيؤدي إلى نمو روحي أو تدمير كينوني.

_ دبلوماسية الكينونة الميتافيزيقية: الثمن الروحي لتوظيف القوة الفائقة

إن الطبيعة الروحانية للعقد أو الإستعانة بكينونات غير بشرية في الممارسة التقنية السحرية تُمثل مستوى متقدماً و عميقاً من التدخل في نسيج الكينونة، حيث يتحول الساحر من مُجرّد مُحفِّز ومُوجِّه للطاقة إلى وسيط أو مدير لعلاقات طاقية مع قوى خارجة عن عالمه المادي المباشر. هذا الفعل ليس مجرد طقس شكلي، بل هو فعل وجودي جذري يُعيد تعريف حدود الذات والإرادة، ويُدخِل بُعداً جديداً من الفعالية التقنية المُكتسَبة مقابل إلتزام روحي عميق.
فلسفياً، تُعتبر الكينونات غير البشرية كالجن أو الأرواح جزءاً من الطيف الكينوني الأوسع الذي يتواجد في مستويات إهتزازية مختلفة عن المستوى المادي المألوف. هذه الكينونات تمتلك قدرات تقنية متفوقة على التلاعب بالطاقة والواقع، وغالباً ما تكون غير مُقيّدة بالحدود المادية والزمانية التي تُكبّل الساحر البشري. العقد أو الإستعانة هنا ليست عملاً عشوائياً، بل هي تقنية روحانية مُحكمة تقوم على مبدأ المُقايضة الوجودية والمُشاركة في الهدف. بدلاً من أن يستنفد الساحر طاقته الشخصية (الـمانا الداخلية) في تحقيق الهدف، فإنه يستعين بـقوة خارجية ذات كفاءة تقنية أعلى لإنجاز العمل السحري. الكيان غير البشري يعمل كـمُسرِّع طاقي أو قوة تنفيذية تتولى الجانب التقني الصعب من تغيير الواقع كالـبناء الميتافيزيقي للتعويذة أو توجيه الطاقة. العقد ليس مُجرد وعد، بل هو ربط طاقي وإرادي بين الذات البشرية والكيان غير البشري. الساحر يُقدم ثمناً روحياً قد يكون جزءاً من طاقته، أو ولاءه، أو خدمة مستقبلية، أو حتى جزءاً من مصيره أو كينونته، وفي المقابل يضمن الكيان الفعالية التقنية للممارسة السحرية. هذا يضمن لـ التقنية السحرية نتائج مُضاعفة ويقيناً أعلى، لكنه يُحوّل مصدر اليقين والتحكم من إرادة الساحر الباطنية إلى تفاهم خارجي.
الطبيعة الروحانية لهذا النوع من الممارسات تتعمق في فلسفة السيادة الكينونية وحدودها. عند إبرام العقد، يتنازل الساحر جزئياً عن سيادته المطلقة على مصيره وكينونته لصالح الكيان المُستعان به. هذا الكيان يكتسب حصة في إرادة الساحر أو مصيره كضمان للثمن. وهنا يكمن الخطر الروحي الأكبر: النجاح التقني الخارجي (تحقيق الهدف) يتم على حساب الإستقلال الروحي الداخلي. فالساحر يُصبح مُديناً وجودياً لقوة قد تتجاوز قدرته على السيطرة مستقبلاً.
الإستعانة المتكررة بكينونات ذات طبيعة مُظلمة أو سلبية كبعض أنواع الجن أو الأرواح الضارة يؤدي إلى تلوّن أو تلوث جوهر الساحر. يحدث تآكل تدريجي لصفاء الروح، حيث يبدأ الساحر في تبني صفات وطاقة الكيان الذي يستعين به لضمان نجاحه التقني. هذا التغيير ليس مجرد فعل أخلاقي، بل هو تحول كينوني يجعل الساحر أقرب إلى طبيعة تلك الكينونة غير البشرية، مُؤكداً أن التقنية السحرية هي أداة ذات إتجاهين، فهي لا تغير الواقع فقط، بل تغير أيضاً طبيعة المُشغّل. في جوهره، تُعتبر الإستعانة بالكينونات غير البشرية شكلاً من أشكال الدبلوماسية الميتافيزيقية. الساحر يتقن تقنيات الإتصال، و الإقناع، والمقايضة (الطقوس والتعاويذ الخاصة بالإستدعاء) لـإقناع هذه الكيانات بالعمل. نجاح العملية التقنية هنا لا يعتمد فقط على قوة نية الساحر، بل على مهارته في إدارة هذه العلاقة الروحانية والوفاء بشروط العقد الوجودي.
خلاصة القول، إن الطبيعة الروحانية للعقد مع الكينونات غير البشرية هي محاولة للوصول إلى فعالية تقنية فائقة و مُيسَّرة من خلال تحويل الالتزامات الروحية إلى عملة وجودية تُدفع مُقابل القوة. إنه يمثل قمة السعي للتحكم، لكنه أيضاً قمة المخاطرة الروحية بـالرهن الجزئي للكينونة من أجل تحقيق غايات مادية أو إرادية آنية.

_ المسؤولية الكينونية المطلقة: لماذا لا يوجد إهمال في قاموس التقنية السحرية

إن المسؤولية الروحية والأخلاقية للساحر عن الآثار الجانبية غير المقصودة لتقنيته السحرية على كينونات أخرى هي مسؤولية كاملة و شاملة، وتُعد جوهر المبدأ الأخلاقي في الممارسات السحرية الحقيقية. فلسفياً، لا يمكن للساحر أن يتذرع بعدم القصد أو الجهل بالعواقب لتجنب تحمل التكلفة الوجودية لتدخله، لأن السحر هو في الأساس فعل إرادي واعٍ يستهدف تغيير نسيج الكينونة. هذا الفعل، بطبيعته، يتجاوز الحدود المادية والزمانية، مما يجعل آثاره الجانبية غير المقصودة جزءاً لا يتجزأ من النتيجة الكلية التي يجب تحمل تبعاتها الروحية.
تختلف المسؤولية في السياق السحري عن المسؤولية في السياق القانوني المادي. في العالم العادي، يمكن التمييز بين القصد الجنائي (النية) والإهمال (الآثار الجانبية غير المقصودة). أما في إطار السحر، فإن النية الأساسية (الأصلية) لإطلاق القوة هي التي تفرض المسؤولية عن جميع النتائج؛ المقصودة وغير المقصودة. تفترض الفلسفة السحرية أن الكون نظام واحد مُترابط، حيث لا وجود للكيانات المنفصلة بالمعنى المطلق (مبدأ الوحدة الكلية). عندما يُطلِق الساحر طاقته المُوجَّهة عبر تقنيته، فإن هذه الطاقة ترسل موجات إهتزازية تُغيّر توازن الشبكة الكلية للوجود. أي أثر جانبي غير مقصود هو في الواقع نتيجة ثانوية حتمية لعملية الإزاحة الطاقية. الساحر الذي يستخدم تقنية (طقس، تعويذة، رمز) بشكل قوي ومُركّز يتحمل مسؤولية الإزاحة الطاقية الكلية التي تُحدثها هذه التقنية. إذا كان القصد موجهاً نحو "أ" لكنه أثر في "ب" بشكل غير مقصود، فإن هذا التأثير يقع تحت مسؤولية الساحر، لأنه لم يُسيطر بشكل كافٍ على مجال إنتشار قوة تعويذته.
يُعتبر الساحر الذي يتقن تقنياته عالماً بالقوانين الكونية. و لذلك، فإن الجهل بهذه القوانين أو التقصير في توقع الآثار الجانبية يُعد فشلاً تقنياً وأخلاقياً في آن واحد. إذا ألحق الساحر الضرر بكينونات أخرى (بشر، أرواح، بيئة) نتيجة لآثار جانبية غير مقصودة، فإن هذا يُفسر على أنه إهمال جسيم في واجب التحقق والسيطرة. هذا الإهمال يُسجَّل في السجل الكينوني للساحر كـدين روحي أو كارما سلبية مُستحَقة. فالساحر يتحمل مسؤولية ليس فقط ما أراد أن يفعله، بل ما سمح لقوته بأن تفعله. تتجلى المسؤولية الأخلاقية للساحر في إلتزامه بفلسفة الإحاطة الشاملة قبل و خلال وبعد تطبيق التقنية السحرية. يجب على الساحر، كجزء من تقنيته الأخلاقية، أن يُكرس جزءاً من طقسه لـتوقع و حساب الآثار الجانبية المحتملة على الكينونات غير المستهدفة. هذا يُعرف بـعامل عدم الضرر (Do No Harm) الروحي. الساحر المسؤول يضع ضمانات طاقية ورمزية ضمن الطقس لـتضييق مجال تأثير التعويذة وحصرها في الهدف المقصود فقط، مما يُقلل من فرصة التسريب الطاقي أو الرنين العشوائي مع كينونات أخرى. إذا حدثت آثار جانبية غير مقصودة وأدت إلى ضرر، فإن المسؤولية الروحية تقتضي من الساحر العمل على إعادة التوازن الكينوني. لا يقتصر التعويض على تقديم إعتذار مادي، بل يتطلب تدخلاً سحرياً مُعاكساً (طقس تصحيحي أو طقس شفاء) لإزالة الأثر السلبي الذي تسببت فيه تقنيته. هذا العمل التصحيحي هو إعادة فرض النظام على الفوضى التي خلقها، ويُعتبر جزءاً من عملية دفع الثمن الروحي الذي نوقش سابقاً.
في الختام، يُمكن القول إن المسؤولية الروحية و الأخلاقية للساحر لا تتوقف عند حدود قصده المعلن، بل تمتد لتشمل المحصول الكلي لفعله الكينوني. الساحر ليس مُنفذاً أعمى، بل هو مهندس للواقع؛ وبقدر ما تكون تقنيته قوية، تكون مسؤوليته عن كل ذرة طاقة مُطلقة منها شاملة ومُطلقة. إن السيطرة التقنية لا تكتمل إلا بـالسيطرة الأخلاقية على مجال تأثير القوة.

_ الإعتداء الوجودي: كيف يتحوّل السحر الضار إلى إنتهاك لـ السيادة الكينونية وحق الآخرين

إن الممارسة السحرية الموجهة للضرر تُعد، من منظور فلسفي وأخلاقي عميق، إعتداءً وجودياً صريحاً على حق الكينونة الأخرى في سيادتها، و حريتها، ونظامها الداخلي. فالسحر، في جوهره، هو فرض إرادة على الواقع؛ وعندما تُوجَّه هذه الإرادة للإضرار بكائن آخر، تتحول التقنية السحرية من أداة للتغيير الذاتي إلى سلاح ميتافيزيقي لإنتهاك السيادة الكينونية للغير.
المفهوم الفلسفي للـكينونة (Being) يحمل في طياته حق كل ذات في السيادة الوجودية، أي الحق في تقرير مصيرها، وتشكيل واقعها، و الحفاظ على سلامتها الطاقية والروحية. عندما يُمارس الساحر طقساً للإضرار بكائن آخر، فإنه يقوم بثلاثة أفعال تُشكّل اعتداءً وجودياً:
1. إنتهاك الحدود الطاقية: كل كينونة مُحاطة بـمجال طاقي (الأثير، الهالة) يُشبه السيادة الإقليمية للذات. السحر الضار هو قوة مُخترقة تُرسل طاقة مُوجَّهة لـتفكيك أو إفساد هذا المجال، مما يجعل الكينونة عُرضة للمرض، أو الفشل، أو التشوش العقلي. هذا الإختراق هو إنكار فعلي لحق الكينونة في الحصانة الذاتية.
2. التلاعب بالإرادة الحرة (Free Will): الهدف الأعمق للسحر الضار ليس بالضرورة التسبب في ضرر مادي مباشر، بقدر ما هو تدمير قدرة الكينونة المُستهدفة على الإختيار الواعي. فالسحر المُوجَّه للضرر يعمل على تشويش البصيرة، أو غرس أفكار قهرية، أو إثارة مشاعر سلبية لا تتوافق مع الإرادة الأصيلة للذات. هذا التلاعب يُعد إعتداءً على جوهر الإنسانية و الروح، إذ يُحوّل المُستهدَف من كائن مُسيِّر إلى كائن مُسيَّر، مما يُجرّده من حقه الوجودي الأسمى.
3. فرض الواقع البديل: الممارسة السحرية الضارة تفرض على المُستهدَف واقعاً غير مُراد أو غير مُختَار. الساحر يُنشئ رابطاً طاقياً قسرياً يُلزم الطرف الآخر بالإنخراط في مسار مصيري تمَّ تصميمه من الخارج. هذا الفعل يُمثل إنكاراً فلسفياً لحق الكينونة في أن تكون ما إختارت أن تكونه، و يجعل مصيرها خاضعاً لإرادة خارجية مُعادية.
المسؤولية الروحية للساحر لا تقتصر على الكينونة المُستهدفة، بل تمتد لتشمل النظام الكلي للوجود. السحر الضار هو فعل فوضوي يُخلّ بالتوازن الكوني ويُعد إعتداءً على الكلية. تفترض النظم الروحية أن لكل كينونة مساراً كارمياً (دينونياً) يُساعدها على النمو والتطور. السحر الضار هو تدخل مصطنع وقسري في هذا المسار، يحاول إجبار الكينونة على دفع ثمن لم تختاره أو لم تكتسبه عبر أفعالها. هذا الإفساد يُعد خرقاً للقانون الكوني الأكبر. إن الطاقة الناتجة عن النية الضارة ليست مجرد طاقة سلبية، بل هي طاقة مُدنَّسة (Polluting Energy) للوعي الكلي. الممارسة السحرية الموجهة للضرر تضخ إهتزازات مُنخفضة ومتنافرة في نسيج الواقع، مما يؤثر على المحيط الكينوني الأوسع، و يُمكن أن يخلق مجالات طاقية سلبية تُعاني منها كينونات أخرى غير مُستهدفة بشكل مباشر.
في التحليل الأخير، فإن الساحر الذي يوجه تقنيته للضرر يُصبح هو نفسه المُعتدى عليه روحياً، حيث أن هذا الفعل يُرسّخ فيه حالة من التفكك الوجودي كما نوقش سابقاً في فساد الروح. إن ممارسة الاعتداء على سيادة الآخرين هي إعلان للذات عن إنفصالها عن الوحدة الكونية وعن قبولها بأن تكون قوة فوضوية و مُستبدة. لذا، فإن السحر الضار ليس مجرد عمل غير أخلاقي بل هو فعل مُضاد للوجود (Anti-Existential Act). إنه ينفي حقوق الكينونة ويؤكد أن قوة الإرادة الفردية يمكن أن تُستخدم لإلغاء الإرادة الكينونية للآخرين، وهو ما يُعد ذروة الإعتداء الوجودي.

_ السحر بين الإذن الإلهي وتفعيل القدر: فلسفة التقنية، الإرادة الحرة، والمسؤولية الأخلاقية

إن العلاقة بين الممارسة السحرية والقدر الإلهي هي أحد أكثر الموضوعات تعقيداً وإثارة للجدل في الفلسفات الدينية والروحية. إذا انطلقنا من الفرضية الإيمانية بأن السحر لا يقع إلا بإذن إلهي كما تُقرّ به نصوص دينية كـ "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله"، فإن الممارسة السحرية تتحول فلسفياً من محاولة لمنازعة القدر إلى تقنية معقدة لـتفعيل أو تشغيل أو الوصول إلى جزء من الأقدار المُمكنة التي أتاحها الإذن الإلهي سلفاً ضمن نسيج الكينونة.
من منظور عميق، يُمكن النظر إلى القدر الإلهي على أنه مصفوفة ضخمة وشاملة من الإحتمالات الكينونية المُتاحة. هذه المصفوفة لا تُجبر الأفراد على مسار واحد صارم، بل تحدد مجال الإمكان (The Field of Possibility) الذي يمكن أن تتشكل ضمنه الأحداث. في هذا الإطار، الممارسة السحرية ليست محاولة لتجاوز أو منازعة الإرادة الإلهية العليا التي وضعت هذه المصفوفة، بل هي آلية تقنية لإستخدام الإرادة الحرة التي هي أيضاً هبة إلهية للإختيار و تفعيل أحد المسارات القدرية المُتاحة داخل هذه المصفوفة. النية الصادقة و التقنية السحرية المُركَّزة (الطقوس، الرموز) تعمل كـمُحفِّز أو مُذبذب يوجه الوعي الفردي ليُحقق الرنين مع إحتمال قَدَري مُعين. الساحر لا يخلق القدر، بل يُسرّع تجسيد قدر مُحتمل كان سيتحقق ربما لاحقاً، أو لن يتحقق إلا بجهد أكبر. الإذن الإلهي في هذه الحالة ليس مجرد موافقة عارضة، بل هو الشرط الوجودي الذي يجعل أي تأثير سحري ممكناً أصلاً. يعني ذلك أن قوة السحر نفسها مُضمَّنة في قوانين الكينونة التي وضعها الخالق. الممارسة السحرية هي إذن إكتشاف وإستخدام لهذه القوانين المُضمَّنة (الميتافيزيقية)، تماماً كما يكتشف العالم قوانين الفيزياء و يستخدمها تقنياً.
الفلسفة التي تقول إن السحر لا يقع إلا بإذن تضع السحر في إطار فعل بشري تحت المظلة الإلهية. الساحر يمارس حقه في الإختيار، وهذا الإختيار هو جزء من القدر نفسه. إذا إختار الساحر المسار (أ) عبر التقنية السحرية، فإن هذا المسار (أ) كان ضمن الإمكانات التي سمح بها القدر الإلهي منذ الأزل. رغم أن التقنية السحرية قد تكون في جوهرها تفعيلاً للقدر المتاح، إلا أنها يمكن أن تتخذ شكل منازعة أخلاقية وروحية عندما تتجاوز الحدود التالية. تتحول الممارسة إلى منازعة عندما تكون نية الساحر تتضمن تحدياً أو رفضاً للحكمة الكلية للقدر. فإذا كان الساحر يستخدم قوته لمنع أو عكس نتيجة كان يعلم يقيناً أنها ضرورية لنموه الروحي أو نمو الكينونات الأخرى مثل طقس يمنع عملية تعلم ضرورية، فإنه ينازع الغرض الحكمي من القدر، حتى لو كان التفعيل التقني ممكناً. هذا لا يعني منازعة القوة المطلقة، بل منازعة الغاية و الحكمة. السحر الضار كما نوقش سابقاً هو محاولة لـفرض إرادة شخصية أنانية على سيادة وحرية كينونة أخرى. رغم أن هذا الفعل قد يقع بإذن إلهي لأسباب قد لا يفهمها البشر، مثل إختبار الصبر أو الإرادة الحرة، إلا أن النية الساحر تظل نية إنتهاك وعدوان. من وجهة نظر الساحر، هو ينازع الحقوق الوجودية للآخرين التي أقرها الخالق لهم، وبالتالي يتحمل المسؤولية الروحية والأخلاقية الكاملة لعمله المدمر، حتى لو كان هذا العمل نفسه ممكناً ضمن القدر العام.
في التحليل الفلسفي العميق، لا يمكن أن ينازع الإنسان القدر الإلهي المطلق، لأن كل فعل بشري بما في ذلك الممارسة السحرية هو في النهاية مُحتوى في القدر الأكبر الذي سمح به. ولكن، التقنية السحرية هي الوسيط المُعقد الذي يُمكن الإرادة البشرية الحرة من التأثير بوعي وقوة في شكل تجسد هذا القدر. هي تقنية تفعيل، لكنها أيضاً إختبار للساحر: هل يستخدم هذه القوة المُكتسبة (المُحتواة في الإذن الإلهي) لـمحاذاة إرادته مع الحكمة الكلية (السحر البنّاء)، أم يستخدمها لـخدمة الأنانية والعدوان، وبالتالي ينازع القوانين الأخلاقية للوجود؟ النتيجة النهائية هي أن السحر هو إستخدام تقني للقوانين الميتافيزيقية، والتي هي بدورها جزء من القانون الكوني الأكبر والقدر الإلهي.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السحر قناع الأنطولوجيا: كيف يكشف التدخل الغيبي عن مرونة الكي ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...


المزيد.....




- حادث غير متوقع يقلب أجواء احتفالية بمناسبة الهالوين رأسًا عل ...
- مصر تعتمد استراتيجية -العمران الأخضر- لخفض استهلاك الطاقة.. ...
- أنس الشايب يثير جدلا بزيارته للجزائر وانتقادات له ولمؤثرات - ...
- هجوم ليلي بطائرات مسيرة يقتل 3 في كييف
- في أطول جولة خارجية له.. ترامب يصل إلى اليابان بعد قمة آسيان ...
- ليتوانيا تغلق حدودها مع بيلاروسيا وتبحث تنفيذ مزيد من الإجرا ...
- أمجد الشوا ناشط مرشح لرئاسة لجنة التكنوقراط في غزة
- مقال بغارديان: حرب غزة لن تنتهي ما لم تتحقق العدالة
- هل تعزز زيارة رئيس الوزراء البريطاني ستارمر إلى أنقرة الشراك ...
- بول بيا يفوز بولاية ثامنة في انتخابات الكاميرون


المزيد.....

- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخُّل الْغَيْبِيّ عَنْ مُرُونَة الْكَيْنُونَة وَصِرَاع الْإِرَادَات الْوُجُودِيَّة -الْجُزْءُ التَّاسِع-