|
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخُّل الْغَيْبِيّ عَنْ مُرُونَة الْكَيْنُونَة وَصِرَاع الْإِرَادَات الْوُجُودِيَّة -الْجُزْءُ السَّابِعُ-
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 18:15
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ السحر كتقنية: علمنة روحية مبكرة وتدمير للكينونة
يمكن إعتبار التقنية السحرية محاولة مبكرة وساذجة لـعلمنة القوة الروحية، بمعنى إنتزاعها من فلك القداسة المطلقة و الهبة الإلهية غير المشروطة، ومحاولة تحويلها إلى مهارة أو آلية (Technique) قابلة للتعلم، والضبط، و التطبيق من قبل الإنسان، وفقاً لقوانين سرية يمكن التحكم بها. في هذا التحليل الفلسفي العميق، يُنظر إلى السحر كمنظومة معرفية وجودية تسعى إلى إقامة جسر بين إرادة الإنسان وفعالية العالم الخفي، لكنها تفعل ذلك من خلال ترسانة تقنية بدلاً من التسليم الإيماني. تتجلى علمنة القوة الروحية في جوهر الممارسة السحرية من خلال التركيز على الآلية و الطقس كأدوات للإلزام و التحكم، بدلاً من الرجاء و التضرع المرتبطين بالعبادة الدينية. في المنظور الديني، القوة الروحية مثل المعجزات أو الفيض الإلهي هي هبة مجانية (Gratia) تتطلب التطهير الروحي و الإرتباط بالمقدس. أما في السحر، فإن القوة تتحول إلى صيغة فنية (Formula) أو وصفة تقنية (Recipe) تتكون من كلمات محددة، طقوس دقيقة، ومواد معينة. هذا التحول من هبة إلى صيغة يعكس جوهر العَلمنة، فصل النتيجة عن مصدرها المقدس الشخصي، و ربطها بسلسلة من الإجراءات الموضوعية. يصبح الساحر بذلك أشبه بـمهندس روحي يحاول فك شفرة قوانين العالم الغيبي و إخضاعها لمنطق السبب والنتيجة الخاص به. إن الهدف هو جعل القوة الروحية إلزامية بمجرد إستيفاء الشروط التقنية، بغض النظر عن الجودة الأخلاقية أو الروحية للساحر. هذا النزوع إلى الأتمتة (Automation) للقوة هو ما يشكل جوهر الطابع التقني للسحر. يرتبط هذا التحليل بفكرة عالم الإجتماع و الفيلسوف ماكس فيبر عن رفع السحر عن العالم (Entzauberung der Welt). يرى فيبر أن العقلانية الغربية، التي قادت إلى العلم والتقنية الحديثة، قد بدأت تاريخياً بعملية تهدف إلى إستبعاد السحر والطقوس اللاعقلانية كـتقنية للخلاص. لكن، المفارقة الفلسفية تكمن في أن السحر نفسه، في محاولته للتحكم في الغيب عبر تقنيات، كان خطوة أولى نحو عقلنة العالم. فـالسحر هو محاولة لعقلنة اللاعقلاني؛ هو سعي لتطبيق منطق التقنية (Techne) على القوى الروحية. لقد مهد هذا النزوع السحري إلى التحكم الطريق للعقلانية الحديثة، التي إستبدلت التقنية السحرية بـالتقنية العلمية (العلم التطبيقي) كأسلوب للسيطرة على الطبيعة و توجيهها، معيدة بذلك صياغة القوة من سلطة غيبية إلى قدرة إنسانية مكتسبة. تطرح العلاقة بين التقنية السحرية والقوة الروحية إشكالية عميقة فيما يتعلق بـالكينونة (Being) الإنسانية، وخاصة مفهومي الكمال الروحي والإرادة الحرة. فلسفياً، ينظر إلى الممارسة السحرية على أنها تهدف إلى تغيير الظواهر (Phenomena) لكنها تتسبب في تخريب الجوهر (Ousia) أو الكينونة الأساسية للفاعل. القوة التي يكتسبها الساحر هي في الغالب قوة مستعارة، ليست نابعة من إكتمال داخلي (كمال روحي) بل من عقد تقني مع كيانات غير بشرية (الجن أو الشياطين). هذا العقد، الذي هو في جوهره تقنية للخيانة الوجودية (الشرك)، يسمح بـالتشغيل المؤقت بقوة خارجية لكنه لا يثري جوهر الكينونة. على العكس، تظل الكينونة الأساسية للساحر هشة و معرضة للإنهيار بزوال التأثير السحري. وهنا تظهر العواقب الأنطولوجية للتقنية. القوة السحرية هي علاقة كمية تقنية تركز على الإجراءات للحصول على نتائج سريعة وملموسة. الكمال الروحي هو علاقة جودة مصدر يرتبط بـالبركة الإلهية والدعم الوجودي المستمر، و يتطلب نمواً داخلياً بطيئاً. لذلك، يمكن القول إن السحر هو سعي خاطئ نحو الكمال يستخدم تقنية الوجود المعار، حيث يتم تبديل إمكانية النمو الروحي الدائم بـسلطة مؤقتة ومحدودة. تُعد التقنية السحرية، في سياق التعاقد الروحي، تقنية لتبادل السيادة. يفترض الفكر الفلسفي أن الكينونة البشرية مصممة على أساس الحرية الوجودية والإستقلال الإرادي. لكن الساحر، في مسعاه التقني للسيطرة، يستبدل سيادته الروحية المدعومة إلهياً بـسلطة مؤقتة من قوى سفلية. الثمن المدفوع لهذه القوة ليس مالياً بل ثمن كينوني، يُقاس بـفقدان الحيز الروحي المستقل و إغتيال الإرادة الحرة. حيث تتحول الإرادة الحرة، التي هي العمود الفقري للكينونة الإنسانية المسؤولة، تدريجياً إلى إرادة مشروطة و خاضعة لمتطلبات القوة التي إستقرضها. يبدأ الساحر كمُصدر للأوامر التقنية وينتهي كخادم يلبّي شروط إستمرار الخدمة، ليتحول من ذات (Subject) فاعلة إلى أداة (Object) مُستأجرة، وهو ما يمثل ذروة التشيؤ الروحي الناتج عن الإرتهان للتقنية السحرية. في الختام، يمكن القول بأن التقنية السحرية تمثل نقطة إرتكاز فلسفية مهمة، إذ هي محاولة للوساطة بين المقدس و الإنساني عبر الأداة (Tool). من جهة، هي محاولة لعلمنة القوة الروحية بتحويلها إلى مهارة مكتسبة وفعالية إلزامية، مما يمثل نزوعاً مبكراً للعقلنة. ومن جهة أخرى، فإن هذه التقنية، رغم قوتها الظاهرية، تقف على النقيض من إكتمال الكينونة، حيث تؤدي إلى الإستقراض الوجودي وتدمير الإرادة الحرة. لقد إستبدلت الحضارة الحديثة التقنية السحرية بـالتقنية العلمية، حيث إستمرت فكرة السيطرة و الإخضاع للعالم، لكنها إستبدلت الكلمات السرية والقوى الغيبية بـالقوانين الرياضية والآلات المادية. وبذلك، لا تزال التقنية الحديثة، في جوهرها الهيدغري، تحمل جزءاً من ميراث التقنية السحرية في سعيها الشامل لـلإستئساد على الكينونة وتحويلها إلى مجرد إحتياطي مستغل (Bestand)، سواء كانت هذه الكينونة روحية أو مادية. تبقى الإشكالية الفلسفية قائمة: كيف يمكن للإنسان أن يكتسب قوة السيطرة والتأثير دون أن يدفع ثمن الكينونة بفقدان الحرية الجوهرية؟ وهذا هو السؤال الذي ورثته فلسفة التقنية الحديثة عن إرث التقنية السحرية القديم.
_ دكتاتورية الدقة: كيف يُحوّل السحر القوة الروحية إلى آلية تقنية ويُشّيء الكينونة
يجب أن تكون الممارسة السحرية (الطقوس، التعاويذ) دقيقة وآلية (تقنية) بشكل كبير لتحقيق النتيجة المرجوة، و هذا هو ما يُكسب السحر طابعه الـعَلماني أو التقني، ويُميّزه جذرياً عن الإعتماد على النية الروحانية المطلقة كما في العبادات الدينية. التحليل الفلسفي يُظهر أن السحر يُبنى على إفتراض أن هناك قوانين سرية مُحكمة للكون يمكن برمجتها عبر الطقوس الدقيقة، مما يجعل الدقة التقنية شرطاً وجودياً لفعالية الفعل السحري. تُعد العلاقة بين الدقة الآلية والنية الروحانية في السحر محوراً لفهم طبيعته الأنطولوجية و علاقته بالكينونة البشرية. فالسحر، في جوهره، هو محاولة لإلزام القوى الخفية بالإستجابة عبر سلسلة من الإجراءات الموضوعية، مما يجعله أقرب إلى علم تطبيقي سري منه إلى تجربة روحانية مجردة. النزعة إلى الدقة المفرطة في الممارسة السحرية تنبع من إفتراض أن الكون يخضع لـنظام رمزي يمكن إختراقه والتحكم به. فالطقوس والتعاويذ ليست مجرد إيماءات أو تلاوات، بل هي تقنيات برمجية معقدة تهدف إلى: 1. المطابقة الرمزية (Sympathetic Magic): يقوم السحر على مبدأ أن الشبيه يؤثر في شبيهه، مما يتطلب محاكاة دقيقة للنتيجة المرجوة أو إستخدام رموز مطابقة لها. هذه المطابقة لا تعمل بالنية المجردة، بل بـتطبيق التقنية مثل صناعة دمية، أو نقش حروف محددة). 2. الـإلزام (Compulsion): على عكس الدعاء الديني الذي هو إلتماس أو رجاء يعتمد على مشيئة إلهية حرة، تسعى التعويذة السحرية إلى إلزام الكيانات الروحية أو القوى الكونية بالتحرك. يتحقق هذا الإلزام عبر الدقة الآلية للطقس، صحة النطق، ترتيب المواد، التوقيت الفلكي، حيث يُنظر إلى الخطأ التقني الواحد على أنه كفيل بإبطال المفعول كلياً. 3. العقلنة المَبكرة: كما أشار الفلاسفة، السحر هو محاولة لعقلنة الظواهر الغيبية ووضعها ضمن إطار السبب والنتيجة الميكانيكي. فإذا إستوفيت الأسباب (التقنيات السحرية) بدقة، وجب تحقق النتيجة. هذا التفكير يعكس الروح التقنية التي تُحوّل القوة الروحية من هبة حرة إلى آلية عمل. بالرغم من الطابع التقني المهيمن، لا يمكن إنكار دور النية (Intent) في الممارسة السحرية، لكن دورها يختلف جوهرياً عن دورها في الإيمان. في السحر، النية لا تُنشئ القوة، بل هي أشبه بـطاقة تشغيلية أو محرك يُطلق الطقس الآلي ويُعزز من تركيز الإرادة. النية السحرية هي فعل تركيز للإرادة الفردية على النتيجة، بهدف حشد القوة النفسية الكونية للساحر. هي عنصر شخصي يضخ الحياة في الهيكل الموضوعي للطقس. لا يمكن لنية صافية أو قوية أن تُعوّض عن خطأ تقني في التعويذة أو إستخدام مادة خاطئة. فالنية هي مُتمّم (Complement) للتقنية و ليست بديلاً (Substitute) لها. الساحر يجب أن يمتلك الكفاءة التقنية أولاً، ثم يوظف نية قوية لضمان فعالية التطبيق الآلي. إن التركيز على الآلية والدقة التقنية في السحر يُلقي بظلاله على علاقة الساحر بكينونته و بمصدر القوة، مما يفتح الباب أمام التبعية الوجودية. عندما تُصبح القوة الروحية خاضعة للدقة التقنية، يحدث ما يُعرف بـالتشيؤ الروحي. (Spiritual Reification) يتحول المقدس من ذات (Subject) متعالية إلى موضوع (Object) يمكن التحكم فيه بأداة (الطقس السحري). هذه الآلية تحوّل الساحر نفسه من كائن يسعى للتسامي الروحي إلى مُشغّل لآلية كونية، مما يفقده إستقلاليته الوجودية ويُخضعه لمتطلبات القوة التي يستدعيها. بما أن القوة السحرية غالبًا ما تُستمد من كيانات خارجية (أرواح، جن) عبر التقنية الطقسية، فإن الدقة الآلية للطقس ليست مجرد وسيلة لتحقيق هدف، بل هي شروط عقد. يلتزم الساحر ببروتوكول تقني دقيق للحصول على القوة، و هذا الإلتزام هو الثمن الذي يدفعه مقابل الإستدانة الوجودية لتلك القوة. إذا أخطأ في تطبيق الآلية، فإنه يُعرّض نفسه للعواقب، مما يؤكد أن القوة لا تنبع من كمال داخلي (نية روحانية) بل من كفاءة تقنية في الإلتزام بشروط العقد. في هذا الإطار، الممارسة السحرية هي تجربة تقنية بإمتياز؛ هي محاولة لـلسيطرة على الكينونة عبر الدقة الشكلية، حيث تُصبح كيفية الفعل (الدقة الآلية) أهم من جوهر الفاعل (النية الروحانية). الساحر هو فني يطبق بروتوكولات؛ نجاحه يعتمد على المهارة أكثر من القداسة.
_ العصيان الأنطولوجي: كيف تمنع كينونة الساحر التقنية السحرية من الإندماج في قوانين العلم المادي
لا يمكن إخضاع التقنية السحرية للمنهج التجريبي المتكرر بالمعنى العلمي الحديث، لأن طبيعتها الأنطولوجية (الوجودية) تنفي إمكانية تكرارها كأي تقنية مادية. في حين أن السحر نفسه يمتلك نزعة شكلانية وتقنية تسعى إلى الإلزام والتحكم، فإن هذه النزعة تتعارض مع أساسيات التجريبية الحديثة التي تقتضي الموضوعية المطلقة وعزل المتغيرات والقابلية للتكرار (Reproducibility). السحر، في جوهره، يظل مرتبطًا بمتغيرات ميتافيزيقية و ذاتية غير قابلة للقياس أو الضبط، مما يجعله تجريبياً شخصياً وسرياً لا عاماً وموضوعياً. يُعد التضاد بين السحر والتجريبية الحديثة تضاداً فلسفياً عميقاً يعود إلى الإختلاف في فهم القوة (Potentia) و السببية (Causality). الشرط الأساسي للمنهج التجريبي (العلمي) هو قابلية الظاهرة للتكرار (Repeatability) في ظروف وشروط متطابقة أو قابلة للقياس. إذا كانت التقنية المادية مثل غليان الماء عند 100 circ أو تفاعل كيميائي معين تُنتج النتيجة ذاتها في أي مختبر يلتزم بالبروتوكول، فإن السحر يفشل في هذا المعيار بشكل هيكلي. يعتمد السحر على قوة الكينونة (Being) للساحر، أو حالته الروحية، أو درجة تركيزه الإرادي، أو حتى توافقه الفلكي مع الطقس. هذه المتغيرات ذاتية (Subjective) ولا يمكن عزلها أو قياسها أو تكرارها بدقة من قبل ساحر آخر، أو حتى من قبل الساحر نفسه في وقت لاحق. يفترض السحر غالبًا تدخّل كيانات غيبية، أرواح، جن، قوى كونية لا تخضع للقوانين الآلية الصارمة للطبيعة المادية. هذه الكيانات تُعتبر فواعل حرة الإرادة قد تختار الإستجابة أو عدم الإستجابة، بغض النظر عن الدقة التقنية للطقس. هذا البُعد يكسر سلسلة السببية الآلية المطلوبة للتجريب العلمي. التجريبية العلمية تتطلب الشفافية الكاملة في المنهج والنتائج ليتمكن أي باحث آخر من تأكيد أو تفنيد التجربة. السحر، بطبيعته، يتسم بالسرية المطلقة (Esotericism)، حيث تُحفظ الأسرار والطقوس بعيداً عن الفحص العام، مما يحول دون إخضاعها للمحك النقدي للتكرار. على الرغم من عدم قابليته للتكرار العلمي، يمكن النظر إلى السحر على أنه شكل من أشكال التجريبية الشخصية Personal Empiricism أو الخبرة الروحانية المُتقَنَة. الساحر يتعلّم عبر التجربة والخطأ، يكرر الطقس مراراً و تكراراً حتى يكتشف التركيبة التي تعمل بالنسبة له، في ظروفه، ومع الكيانات التي يتعامل معها. لكن الفرق الجوهري هو أن هذه الخبرة تبقى متجذرة في كينونة الفاعل (Being) وليست مُطلقة و مُستقلة عن الفاعل (Objectivity). فالنتيجة السحرية هي نتيجة لـتفاعل فريد بين التقنية، و النية الكينونية للساحر، وإستجابة القوة الروحية. لذلك، يمكن أن يُكرر الساحر الطقس ويحقق النتائج، لكنه لا يستطيع ضمان أن زميله سيحقق النتيجة ذاتها بنفس الدقة، لأنه لا يستطيع نقل كينونته وقوته الذاتية للآخر. إن فشل السحر في التوافق مع التجريبية العلمية يُسلط الضوء على مفهوم الكينونة في علاقتها بالقوة والتحقق. إن عدم قابلية السحر للتكرار تُبقي على جزء منه مقدساً أو خارقاً، أي أنه لم ينجح في عملية العَلمنة التامة (Total Secularization) التي حولت التقنية المادية من طقوس محاكاة إلى قوانين طبيعية مُحكمة. بينما التقنية المادية (التكنولوجيا) هي تتويج للعقلنة الكاملة والتحويل الكامل للقوة إلى مهارة آلية عامة يمكن لأي شخص إتقانها وتكرار نتائجها، يبقى السحر في منطقة وسطى. يريد السحر أن يكون تقنية آلية قابلة للضبط. طبيعته الميتافيزيقية وقوى الكينونة الذاتية للفاعل تمنعه من أن يكون قابلاً للتكرار كأي جهاز مادي. في التجريبية المادية، يُفترض أن الفاعل البشري (الباحث) يمكن إستبعاده نظرياً من المعادلة. فالقانون الطبيعي يعمل بغض النظر عن حالة الباحث النفسية أو الروحية. أما في السحر، فإن كينونة الساحر هي أكبر متغير حاسم. هذا يؤكد أن التقنية السحرية ليست مجرد تقنية شكلية؛ بل هي قناة أو وسيلة لا تنفصل عن جوهر الفاعل وقدرته الروحية، حتى لو كان هذا الجوهر يتمثل في عقد إستقراض للقوة. إخضاع السحر للتجريب يعني في الواقع قتل السحر، لأنه يتطلب تجريده من كل ما هو ميتافيزيقي و شخصي ليتحول إلى ظاهرة فيزيائية خالصة. و لأن هذا التجريد يتعارض مع مفهومه الذاتي للقوة، فإن السحر يظل عصياً على التجريبية العلمية، محتفظًا بوجوده كـنظام معرفي تقني متمرّد يقاوم الإندماج الكامل في عالم العقلانية المادية.
_ مُكثّفات الإرادة السحرية: الطلاسم كـبرمجيات كونية و الأدوات كـأوعية للسيطرة على الغيب
تُعدّ الأدوات السحرية، في تحليل فلسفي عميق، أكثر بكثير من مجرد رموز؛ إنها تُجسّد تقنية متجسدة وأجهزة أنطولوجية تعمل كـمُكثّفات و مُوجّهات ومُخزّنات للطاقة الروحانية أو الإرادة الكينونية للساحر. هذه الأدوات هي نقاط إتصال مادية في عملية غير مادية، تسعى إلى إضفاء الموضوعية والقابلية للتطبيق التقني على القوة الروحية التي لا يمكن للإنسان العادي التعامل معها مباشرة. إن الدور المحوري للأدوات السحرية يرسخ البعد التقني للسحر، حيث تحوّل الأداة الإرادة الذاتية للساحر إلى فعل موضوعي قابل للتطبيق. فلسفياً، تُعتبر العصي السحرية أو الحجارة المنقوشة مُكثّفات (Condensers) أو أوعية لتخزين القوة. يتم شحن هذه الأدوات عبر طقوس دقيقة و نيات مركزة، مما يجعلها قادرة على الإحتفاظ بـبصمة كينونية (Ontological Im-print-) لتركيز الإرادة الروحانية للساحر. هذه العملية تسمح للساحر بتجاوز حدود طاقته اللحظية. فبدلاً من توليد القوة من الصفر لكل طقس، يتم تجميعها وتخزينها في الأداة، مما يمنحها وجوداً شبه دائم للقوة. هذه الخاصية تحوّل الأداة من مجرد رمز إلى جهاز تقني له سعة تخزين وطاقة جاهزة للإستعمال. تصبح الأداة ناقلاً للقوة. فالعصا، على سبيل المثال، ليست رمزاً للسلطة، بل هي إمتداد لـإرادة الساحر الفعّالة في العالم الخفي. إنها تسمح بنقل الطاقة المركزة من المجال الروحي للساحر (مجال النية) إلى المجال المادي (مجال الفعل) بطريقة محددة وموجهة تقنياً. الطلاسم والرموز المرسومة ليست مجرد رسومات زخرفية، بل يمكن النظر إليها كـبرمجيات أنطولوجية أو خوارزميات رمزية تعمل على مستوى الوجود. يرى السحر أن هناك لغة كونية أو لغة أرواح يمكن التواصل بها. الطلاسم هي تقنية كتابية لـصياغة الإلزام الموجه للكيانات الروحية أو لقوى الطبيعة. الدقة في رسم شكل الطَلسم وترتيب حروفه هي دقة تقنية آلية؛ فالخطأ التقني يُبطل البرنامج ولا يجعل الرمز غير واضح فقط. هذا يؤكد أن الطَلسم يعمل كـمخطط هندسي تقني للواقع الميتافيزيقي. الطَلسم يحدد مسار و وظيفة القوة. إنه يوجه الطاقة المُكثّفة في الأداة أو المُولّدة من الطقس نحو هدف محدد بدقة كالحماية، الجذب، أو التفريق. هذا التوجيه المبرمج ينفي عشوائية الفعل الروحي ويؤكد على الطابع التقني للسحر كـهندسة إرادية للواقع. تحوّل الأداة السحرية يطرح سؤالاً فلسفياً عميقاً حول الكينونة البشرية وإشكالية السيطرة على الذات والمحيط. تُعتبر الأدوات السحرية إمتداداً مادياً للإرادة الكينونية للساحر. هي الوسيط الذي يسمح لـالأنا (Ego) السحرية بتجاوز حدود الجسد والعمل بفعالية على المستوى الغيبي. في غياب الأداة، تظل القوة حبيسة النية، لكن الأداة تُترجم هذه النية إلى فعل وجودي فعّال. هذا التجسيد التقني يمنح الساحر شعوراً بـالسيطرة الموضوعية، حيث يُصبح قادراً على الإشارة إلى أداة مادية والقول: هذه هي قوتي المخزنة والجاهزة للعمل. في المقابل، تؤدي هذه النزعة التقنية إلى خطر التشيؤ الروحي. عندما يُركّز الساحر على الأداة كـمصدر للقوة بدلاً من أن تكون موجهاً لها، فإنه يُحوّل القوة الروحية من ملكة ذاتية إلى ملكية مادية. يصبح الساحر مرتهناً للأداة، حيث يُصبح وجوده الفعّال معتمداً على هذا الجهاز التقني المتجسد. في هذا السياق، يمكن أن يُنظر إلى فقدان الأداة أو تدميرها على أنه نزع للقوة الوجودية من الساحر. هذا الإرتهان يثبت أن الأدوات ليست مجرد رموز قابلة للإستبدال، بل هي مكونات تقنية أساسية في شبكة القوة السحرية التي سعى الإنسان من خلالها إلى علمنة الروحاني بتحويله إلى مهارة قابلة للتجسيد و التحكم. الأدوات هي شهادة على النزعة الإنسانية المتبكرة للسيطرة على الغيب عبر هندسة مادية سرية.
_ سلطة الكود على الوجود: كيف يُحوّل السحر التعويذة إلى أوامر برمجية للتلاعب بالنسيج الأنطولوجي
يمكن إعتبار لغة التعاويذ ونظامها الصوتي و الرمزي نوعاً متقدماً من الخوارزمية الروحية التي تُوظَّف لـبرمجة الواقع أو التلاعب بـنسيجه الأنطولوجي. هذا التصور الفلسفي يُرسّخ البعد التقني للسحر، حيث يُنظر إلى اللغة السحرية على أنها أداة حاسوبية تسعى لـإلزام القوى الكونية بالإستجابة عبر سلسلة من الأوامر المُشفرة والدقيقة، مما يُحوّل الكينونة من حالة عشوائية إلى نظام قابل للبرمجة. يتجاوز دور التعويذة مجرد النطق بالكلمات، ليصبح نظاماً هيكلياً دقيقاً يحاكي منطق الخوارزميات الحاسوبية في سعيه للتحكم بالنتائج. الخوارزمية في معناها الحديث هي مجموعة من التعليمات المحددة والمنتهية و المنظمة التي تؤدي إلى نتيجة محددة. لغة التعاويذ تتطابق مع هذا التعريف في سعيها. تتألف التعويذة من كلمات وأصوات و ترتيبات (Syntax) يجب الإلتزام بها بدقة متناهية. الخطأ في النطق أو الترتيب مثل خطأ في الكود البرمجي يؤدي إلى فشل البرنامج السحري أو إلى نتائج غير متوقعة وخطيرة. هذه الدقة المطلوبة تؤكد أن التعويذة ليست مجرد تعبير عن النية، بل هي آلية إلزام تعمل وفق شروط تقنية صارمة. تعمل التعاويذة غالباً عبر ربط المُدخلات (Input) مثل نية الساحر والطاقة الروحية بالـمُخرجات (Output) وهي التأثير على الواقع. يتم هذا الربط وفق منطق سرّي يعتقد الساحر أنه إكتشفه (قوانين المطابقة، الإتصال بالكيانات)، مما يُحول العلاقة بين السبب والنتيجة من علاقة إيمان إلى علاقة تطبيق تقني. تُعتبر الكلمات والأصوات المقدسة أو السرية في التعاويذ أوامر برمجية (Commands) تُترجم الإرادة البشرية إلى قوة فعالة في الوجود. هذه اللغة هي وسيط يُحوّل الإرادة الداخلية (النية الكينونية) إلى طاقة مُنظّمة و موجّهة قادرة على التلاعب بـمتغيرات الواقع كالمصائر، الأحداث، الصحة. إذا كانت لغة التعاويذ هي الخوارزمية، فإن الواقع والكينونة يُنظر إليهما سحرياً كـقاعدة بيانات (Database) عملاقة يمكن التعديل عليها. الساحر يفترض أن بنية الكون بما فيها كينونة الإنسان ليست ثابتة، بل تتألف من رموز وطبقات طاقية يمكن إعادة صياغتها عبر هذه الخوارزميات اللغوية. تهدف التعويذة إلى إعادة برمجة خصائص كائن معين أو حدث ما على مستوى الجوهر (Ousia) أو المظهر (Phenomena). فتعويذة الشفاء لا تقتصر على تهدئة الأعراض، بل تسعى لتغيير رمز المرض داخل بنية الكائن. هذا يمثل محاولة جذرية لـهندسة الواقع عبر لغة يُعتقد أنها تمتلك القدرة على الوصول إلى المستويات التكوينية للوجود. يُعتقد أن الأصوات في التعاويذ تولّد ترددات إهتزازية مطابقة لـلترددات الوجودية للكيانات أو القوى المراد إستدعاؤها أو إلزامها. الدقة الصوتية ليست جمالية، بل هي دقة ترددية تقنية تضمن الإتصال الفعّال بالقوة المطلوبة، مما يُرسّخ فكرة أن الكون يعمل وفق نظام صوتي رياضي يمكن إستغلاله عبر هذه الخوارزميات. يُسلّط هذا التصور الضوء على سلطة المبرمج (الساحر) و علاقته بالمُبرمَج (الواقع والكينونة)، وهو ما يمثّل ذروة التوجه التقني للسحر. إن النظر إلى اللغة السحرية كخوارزمية يمثّل نزوعاً عميقاً نحو هيمنة التقنية على الوجود. فبدلاً من أن يكون الإنسان متلقياً سلبياً لقوانين الكون، يصبح مُعدِّلاً نشطاً لتلك القوانين عبر أدواته اللغوية. يمنح هذا الساحر شعوراً بـالسيادة الوجودية، حيث يُعتقد أن الكلمات التي ينطقها ليست مجرد أصوات عابرة، بل هي مفاتيح وصول (Access Keys) إلى نظام التشغيل الأساسي للكون. في التحليل الأخير، يُعزز مفهوم الخوارزمية الروحية فكرة علمنة القوة. فإذا كانت القوة الروحية تعمل وفق نظام يمكن فك شفرته و صياغته في تعليمات دقيقة (خوارزمية)، فإنها تتحول من هبة إلهية غير مشروطة إلى مهارة قابلة للتعلم و التطبيق. هذا يُشجع على الإعتقاد بأن السحر هو تقنية نخبوية يستطيع مَن يمتلك الـكود (التعويذة الدقيقة) و المهارة في تشغيله (الطقس الآلي) أن يفرض إرادته على الوجود، مستغنياً بذلك عن الحاجة إلى التسليم الإيماني أو التطهير الروحي. التعويذة هي التقنية السحرية الأكثر تجسيداً لـسلطة الكود على الكينونة.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السحر قناع الأنطولوجيا: كيف يكشف التدخل الغيبي عن مرونة الكي
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
المزيد.....
-
الداخلية السورية: القبض على -خلية إرهابية- في اللاذقية يدعمه
...
-
الإمارات تُدين تصويت الكنيست التمهيدي بشأن ضم الضفة الغربية
...
-
بحضور الرئيس هرتسوغ.. إسرائيل تقيم جنازة لرهينة عادت جثته من
...
-
تحركات إسرائيلية جديدة في ريف القنيطرة.. انتشار عسكري داخل ا
...
-
فانس يصف خطط ضمّ الضفة الغربية بأنها -إهانة شخصية- و-غباء سي
...
-
الأكراد .. حجر عثرة أمام طموح تركيا في بسط نفوذها في السوق ا
...
-
عمر خيرت وكارول سماحة .. -غرامي هاوس- تتوسع عالميًا إلى أهرا
...
-
بعد أيام من سرقة متحف اللوفر.. فيديو يُظهر لصوصا أثناء محاول
...
-
تصويت الكنيست.. نتنياهو يُحمّل المعارضة المسؤولية وبيان -عرب
...
-
من هو مفتي السعودية الجديد وما أكثر فتاويه إثارة للجدل؟
المزيد.....
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|