حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8524 - 2025 / 11 / 12 - 14:17
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ التقنية السحرية: القناع العملي للميتافيزيقا الشعبية
إن التساؤل حول ما إذا كانت التقنية السحرية هي مجرد تجسيد عملي لـ الميتافيزيقا الشعبية التي تفسر الوجود و الكينونة يفتح الباب أمام تحليل فلسفي عميق يلامس جوهر الأنطولوجيا وعلاقة الإرادة البشرية بالنظام الكوني. يمكن القول بأن هناك تداخلاً وثيقاً، فالتقنية السحرية قد تكون بالفعل القناع العملي لتلك الرؤية الشعبية للعالم، حيث يتم تحويل الإيمان و التفسير الميتافيزيقي غير العلمي إلى منهج إجرائي يحاول إحداث التغيير في نسيج الواقع المدرك. تنشأ الميتافيزيقا الشعبية من حاجة الإنسان الفطرية لتفسير الظواهر التي تتجاوز السببية المادية المباشرة، فترى الوجود كنسيج معقد ومتعدد الأبعاد، يحكمه قوى خفية وأرواح و كيانات غير مرئية. هذا التصور يرى العالم على أنه قابل للتأثير والتلاعب من خلال آليات غير فيزيائية. هنا، تظهر التقنية السحرية كـتكنولوجيا الإعتراض، وهي محاولة منظمة ورمزية لإستقطاع الطاقة أو التأثير من مسارات وجودية بديلة، لا تخضع للقوانين الفيزيائية المألوفة. في هذا الإطار الفلسفي، يمكن النظر إلى التعاويذ، الطلاسم، و الطقوس السحرية على أنها ليست مجرد رموز نفسية، بل شفرات وصول تقنية (Technical Access Codes) أو لغة برمجة أنطولوجية. هي تختزل الإرادة والنية المُكثَّفة للساحر في هيكل رمزي مُحكم، مما يسمح لها بالتفاعل مع البنية التحتية للواقع أو كود وجوده وتغيير حالتها الوجودية. إنها تحويل الإيمان الشعبي بوجود قوى خفية إلى فعل موجه يسعى لإحداث رنين وتعديل في القوانين الكونية على مستوى الكينونة المستهدفة. تختلف التقنية السحرية عن التقنية العلمية في أن مصدر قوتها يكمن في الإرادة المُكثَّفة (The Intensified Will) للساحر. تفترض الميتافيزيقا الشعبية أن الإرادة الواعية والمُركَّزة يمكن أن تتجسد كـقوة موجّهة تخترق النسيج الأنطولوجي المرن للوجود. في هذا السياق، تصبح الكينونة الناتجة عن السحر، سواء كانت كيانات مستدعاة أو تأثيرات مُحدثة، كياناً مُشتقاً أو مُستحدثاً يعتمد في بقائه على مصدر طاقة ثانوي (الساحر أو الطقس). هذا يفسر الهشاشة الوجودية الأولية التي غالباً ما توصف بها نتائج السحر، كونها ليست كيانات أصلية نابعة من القانون الكوني العام، بل حادثة (Event) ذات طابع زمني محدد. إن التحليل الفلسفي للسحر يفرض فكرة جذرية مفادها أن الكينونة (الوجود) ليست كياناً صلباً ومغلقاً تحكمه الضرورة الفيزيائية الصارمة، بل هي نظام طاقي مُعقَّد ومجال تفاعلي تتشابك فيه المستويات الجسدية، والنفسية، والروحانية. السحر، في جوهره، هو صراع إرادات وجودية؛ حين يقوم الساحر بإلقاء سحر على كينونة أخرى، فإنه يقوم بعملية إدماج طاقي مفاهيمي يخترق البنية الروحانية للكائن ويُشكل ما يمكن تسميته بـالتشويه الوجودي. هذا التشويه الوجودي هو تجسيد للميتافيزيقا الشعبية القائلة بأن هناك قوى أخرى غير المادية يمكن أن تسكن الكائن أو تؤثر فيه، حيث يسعى الكائن المسحور إلى إستعادة حالته الأنطولوجية الأصلية، بينما تسعى قوة السحر الأجنبية إلى البقاء. بهذا المعنى، فإن التقنية السحرية هي المحاولة الأكثر درامية وعملية لتحويل النظرة الميتافيزيقية الشعبية للكون إلى واقع مُعاش ومُغيَّر، حتى لو كان هذا التغيير مؤقتاً أو هزيل البقاء على المستوى الأنطولوجي. إنها ليست مجرد إيمان غيبي، بل هي تطبيق تقني لمنظومة إعتقادية ترى مرونة في الكينونة تتجاوز حدود العقلانية العلمية المعاصرة. السحر هو قناع الأنطولوجيا الذي يكشف عن إستعداد العقل البشري لتصور واقع يمكن التلاعب بقوانينه الأساسية عبر الإرادة والرمز.
_ نزع صفة الخارق وإعادة التصنيف الأنطولوجي: فلسفة التقنية السحرية كـتطبيق كينوني مُتقدِّم.
إن طرح السؤال حول ما إذا كان يُنظر إلى كل ظاهرة خارقة للطبيعة على أنها نتاج لـتقنية سحرية، سواء كانت بدائية أو متقدمة، يمثل مدخلاً فلسفياً عميقاً لإعادة تعريف الحدود بين الأنطولوجيا (علم الوجود)، الإبستمولوجيا (نظرية المعرفة)، والبراكسيس (التطبيق العملي) للسحر. إن هذا التحليل يقتضي نزع صفة الخارق عن الظاهرة وإستبدالها بصفة التقني، مما يحول الظواهر الغامضة من مجرد أحداث وجودية إلى عمليات إجرائية مُتعمَّدة يمكن فهم آلياتها، حتى لو كانت هذه الآليات تتجاوز النموذج العلمي السائد. في إطار الفلسفة التي تنظر إلى السحر كتقنية، لا يمكن إعتبار الظاهرة الخارقة للطبيعة مجرد خرق عشوائي لقوانين الفيزياء، بل يجب النظر إليها كـنتيجة تقنية (Technical Outcome) ناجمة عن تطبيق مبادئ وجودية لا نعرفها بعد، أو تم نسيانها. إن النظرة التقنية للسحر تدفعنا إلى إزالة صفة الغموض عن الخوارق. فإذا كان السحر هو تطبيق لـميتافيزيقا شعبية كما ذكرنا سابقاً، فإن الظاهرة الخارقة هي ببساطة التجسيد العملي لتلك المبادئ الميتافيزيقية. على سبيل المثال، بدلاً من النظر إلى التخاطر كحدث روحي غامض، يمكن إعتباره شكلاً من أشكال الإتصال التقني عن بُعد (Tele-Communication Technique) الذي يستخدم آليات غير معروفة كالوعي المُكمّم أو حقول الطاقة الوجودية كوسيط نقل. هذا التحول من الخارق إلى التقني يفتح المجال أمام قابلية التكرار والنمذجة لتلك الظواهر، حتى لو لم نتمكن من تحقيقها بوسائلنا الحالية. يمكن تحليل الفرق بين ظواهر السحر البدائي و المتقدم على أساس كفاءة الإستخدام للجهد الأنطولوجي. تتميز بالتعقيد الطقوسي و الجهد الرمزي الهائل كالطقوس المطولة، تضحيات، رموز معقدة، حيث يتم تعويض نقص المعرفة بالآلية الحقيقية عبر الإفراط في المنهج الإجرائي الرمزي. هنا، تكون الظاهرة الخارقة نتاجاً لجهد هائل لتحقيق تعديل بسيط في نسيج الكينونة. التقنية المتقدمة هي التي تحقق نفس الظاهرة الخارقة بأقل جهد وأقصى كفاءة مثلاً، فكرة تحريك الأشياء بالعقل دون الحاجة لطقوس معقدة. هذا الشكل من التقنية السحرية يمثل الفهم الجذري للآليات الكونية التي تسمح بالتحكم المباشر في الكينونة، وهذا ما يسعى إليه كل من العلم المتقدم والسحر المتقدّم في نهاية المطاف؛ السيطرة على الواقع بكفاءة عالية. تصل النظرة الفلسفية التي تتبنى هذا الطرح إلى فكرة أن الوجود (الكينونة) يمكن النظر إليه كنظام تشغيل هائل ومعقد، تحكمه مجموعة من القوانين الكونية (Cosmic Laws) التي لم يُكتشف أغلبها بعد. في هذا الإطار. الظواهر الطبيعية هي النتائج المتوقعة لتطبيق القوانين المعروفة ضمن نطاق الوصول المحدود (Limited Access) أو المستوى الفيزيائي لنظام التشغيل هذا. الظواهر الخارقة السحرية هي النتائج التي تظهر عند إستخدام شيفرات متقدمة (Advanced Codes) أو إمتيازات المُشغِّل (Operator Privileges) التي تسمح بالتعديل على المستوى الأساسي للوجود (الأنطولوجي)، مما ينتج عنه سلوك لا يمكن تفسيره ضمن النطاق الفيزيائي المحدود. إذاً، لا شيء خارق للطبيعة بالمعنى المطلق، بل هناك فقط تقنيات لم يفهمها العلم السائد بعد. كل ظاهرة تبدو خارقة هي في الحقيقة تعبير عن قانون غير مُكتشف تم تفعيله بشكل ما بقصد أو بغير قصد. السحر هو مجرد الإسم التاريخي و الفلسفي للتقنية التي تستغل هذا القانون. بهذا المعنى، يصبح السؤال: هل يُنظر إلى كل ظاهرة خارقة على أنها تقنية سحرية؟ مجاباً بـنعم، ضمن إطار فلسفي موحِّد، حيث أن السحر هو مجرد أحد أسماء تطبيقات الكينونة المتقدمة. إنه إعادة تصنيف أنطولوجي لكل ما هو غامض ليصبح إجرائياً، ليتحول العالم من مكان يخضع للصدفة إلى مكان مُبرمَج وقابل للتعديل لمن يملك المعرفة التقنية.
_ التمييز الفلسفي والأنطولوجي بين الطقوس الدينية و التقنية السحرية: صراع بين الإذعان و الإكراه والغائية الوجودية
إن التمييز بين الطقوس الدينية التي يُعتقد أنها تؤثر في الكينونة أو الواقع والتقنية السحرية المُحرَّمة هو أحد أعقد التحديات الفلسفية و الأنطولوجية، لأنه لا يكمن في المنهج الإجرائي كيف يتم الفعل، بل في المنشأ الأنطولوجي من أين تأتي القوة والهدف النهائي ماذا يسعى الفاعل لتحقيقه. من منظور فلسفي عميق، يمكن القول إن الخط الفاصل ليس خطاً إجرائياً، بل هو خط إيديولوجي وجودي يفصل بين شكلين مختلفين من علاقة الإنسان بالقوة الكونية العليا. يتمحور التمييز الفلسفي الأساسي بين الدين و السحر حول مصدر القوة التي يتم إستجلابها للتأثير على الكينونة و الواقع. تنبع قوة الطقس الديني من مبدأ الإستمداد (Supplication) و الإذعان (Submission) لإرادة إلهية عليا (كيان إلهي مطلق). الهدف من الطقس هو التوافق مع هذه الإرادة الكونية أو طلب تدخلها المباشر في شؤون البشر. تعتبر الطقوس الدينية وسيلة لإعادة تأكيد الإرتباط الأنطولوجي بين الكائن البشري والمصدر الأسمى للوجود. عندما يؤدي الطقس الديني إلى تغيير في الكينونة كشفاء مريض أو تحقيق هدف، فإن هذا التغيير يُفسر على أنه هبة إلهية أو رحمة مُنحت كنتيجة للإيمان والإستقامة، وليس كنتيجة حتمية لآلية الطقس ذاته. الفاعلية هنا غير مشروطة بالإجراء، بل مشروطة بالنية الإيمانية وبالرضا الإلهي. تعتمد التقنية السحرية، في جوهرها الفلسفي، على مبدأ الإكراه (Coercion) أو الإستغلال (Exploitation) للقوى الخفية أو الكيانات الوجودية الأدنى من الإله المطلق (أرواح، شياطين، طاقات كونية). الساحر يسعى إلى تحويل المعرفة الميتافيزيقية إلى صيغة تقنية إلزامية؛ فبمجرد تطبيق الطقس أو التعويذة بشكل صحيح، يُعتقد أن النتيجة يجب أن تتحقق حتماً، بمعزل عن الرضا الأخلاقي أو الإرادة العليا. يسعى السحر لإظهار الإستقلالية الأنطولوجية للفاعل (الساحر)، حيث يحاول إلزام نظام الوجود بالتغير وفقاً لإرادته الخاصة. التقنية السحرية هي محاولة لإدارة الكينونة بشكل آلي ومباشر عبر معرفة شفرات الوصول الخاصة بها. الفرق الفلسفي العميق الآخر يكمن في الغائية (Teleology) أو الهدف النهائي من الفعل. هدف الطقس الديني غالباً ما يتجه نحو التطهير الذاتي، السمو الروحي، التكفير عن الخطايا، أو إصلاح العلاقة مع القوة العليا و المجتمع. حتى عندما يكون الهدف دنيوياً كطلب الرزق أو الشفاء، فإنه يظل مرتبطاً بإطار أكبر من العدل والخير و الرحمة، ويُقدم بصفة الرجاء لا الإلزام. هدف التقنية السحرية يتمحور عادة حول الإرادة الشخصية والمصلحة الفردية أو التحكم المباشر في الآخرين أو الظروف المادية، وغالباً ما يتضمن ذلك خرقاً للحرية الأنطولوجية للكائنات الأخرى مثل سحر المحبة أو سحر الأذى. من منظور أخلاقي فلسفي، يُنظر إلى السحر على أنه إعتداء وجودي يفرض إرادة على إرادة أخرى دون إذن أو مسوغ أخلاقي مقبول. وبناءً على هذا التحليل، يمكن تحديد الخط الفاصل بأنه ليس في شكل الفعل كلاهما قد يستخدم الترتيل، الرمز، والنية المُكثَّفة، بل يكمن في العقد الوجودي الذي يحكم علاقة الفاعل بالقوة الكونية. تتمايز الطقوس الدينية المُعتبَرة عن التقنية السحرية المُحرَّمة فلسفياً؛ فبينما تستمد الطقوس الدينية مصدر قوتها من إرادة عليا ورحمة إلهية (إستمداد) وتؤسس طبيعة علاقتها على التواضع والإذعان والرجاء، وتسعى لـغاية أخلاقية تتمثل في التسامي والخير و الصلاح العام، لتكون نتيجتها الأنطولوجية منحة غير مضمونة ومشروطة بالنية، فإن التقنية السحرية تستمد قوتها من كيانات أدنى أو قوانين كونية (إكراه)، و تبني علاقتها على التحكم والإلزام والإرغام، وتهدف لـغاية أخلاقية تتمحور حول المصلحة الشخصية والتحكم و الإيذاء، لتكون نتيجتها الأنطولوجية آلية ومتوقعة و مشروطة بالإجراء. الطقس الديني هو تكنولوجيا للإيمان تهدف إلى تأكيد الهيراركية الوجودية (الخالق فوق المخلوق)، بينما التقنية السحرية هي تكنولوجيا للإرادة تهدف إلى خرق هذه الهيراركية ومحاولة تحقيق السيادة الذاتية على الواقع عبر إستغلال القوانين الكونية الخفية. هذا هو التمييز الجوهري الذي يجعل أحدهما سبيلاً مشروعاً للتدخل في الكينونة والآخر محظوراً.
_ التماثل التقني والأنطولوجي بين السحر و العلوم القديمة (الكيمياء والفلك): وحدة المعرفة الإيزوتيرية قبل المنهج الحديث
إن التساؤل حول وجود تماثل تقني في آليات العمل بين السحر والعلوم القديمة مثل الكيمياء والفلك من حيث تأثيرها على الكينونة يلامس جوهر المنظور الإبستمولوجي الذي ساد قبل ظهور المنهج العلمي الحديث. يمكن القول إن هذا التماثل كان جوهرياً وضرورياً في تلك الحقبة، حيث لم يكن هناك فصل واضح بين ما هو روحي رمزي وما هو مادي تجريبي. كلا المسلكين كانا يهدفان إلى تطبيق مبدأ المعرفة الكامنة (Esoteric Knowledge) لإحداث تغييرات ملموسة في نسيج الواقع والكينونة. تعتبر الكيمياء القديمة (Alchemy) المثال الأبرز على التداخل بين التقنية السحرية والعلم المبكر. لم يكن الكيميائيون يسعون فقط لتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب (الإستحالة المادية)، بل كانوا يسعون أيضاً لتحقيق الإستحالة الأنطولوجية للذات البشرية (الكمال الروحي). كان الأساس التقني المشترك هو مبدأ المراسلات (Correspondence)، وهو مبدأ ميتافيزيقي يفترض وجود تماثل وتأثير متبادل بين العوالم الكلية (الكون أو السماوات) والعوالم الجزئية (الإنسان أو المادة). (As Above, So Below)، في الكيمياء إعتمد الكيميائيون على هذا المبدأ لتفسير تفاعلات المواد؛ حيث كانت كل مادة مرتبطة بـكوكب أو صفة روحية معينة. العملية الكيميائية مثل التقطير أو التكليس لم تكن مجرد تفاعل فيزيائي، بل كانت طقساً تقنياً يهدف إلى تحرير الروح الكامنة في المادة للوصول إلى حالتها الأنقى. هذا الإجراء هو تماثل تقني للسحر، الذي يستخدم الطقوس والرموز (المراسلات) للتأثير في نسيج الكينونة غير المرئي. في السحر يستخدم الساحر الرموز و المواد في طقوسه بناءً على إرتباطها الكوني مثلاً، إستخدام دم معين أو عشبة معينة لأنها تخضع لتأثير المريخ، كوكب الحرب. كلاهما يرى في الرمز والمادة وسيلة تقنية للتأثير على قوى أكبر بناءً على مبدأ التناغم الكوني. علم الفلك القديم (Astrology) لم يكن مجرد رصد لحركة الأجرام، بل كان تقنية زمنية وجودية تسعى للتنبؤ بـالكينونة القدرية للأحداث والأشخاص، و بالتالي محاولة التلاعب بها أو التكيف معها. كان الفلكيون القدامى يستخدمون أدوات دقيقة لرصد السماء، ليس بدافع الفضول العلمي المجرد، بل كـأداة تقنية للحكم (Technical Instrument of Judgment). عبر حساب مواقع الكواكب، الأجرام التي يُعتقد أنها تؤثر على الوجود، كان الفلكي يحدد اللحظة الأنطولوجية المثلى لبدء أي فعل مثل الزراعة، السفر، أو حتى الطقوس السحرية. السحر يستخدم علم الفلك لتحديد أقوى نقطة زمنية لإنشاء طلس أو إلقاء تعويذة، مما يضمن النجاح التقني للعملية السحرية. هنا، يتم إستغلال الترتيب الكوني كنظام تقني لدعم الإرادة البشرية. العلم القديم الفلك يقوم بـقراءة الكينونة الكونية لمعرفة تأثيرها الحتمي على الكينونة الفردية (التنبؤ). هذا التنبؤ بحد ذاته هو شكل من أشكال التأثير؛ فبمجرد معرفة القدر المتوقع، يمكن إتخاذ إجراءات قد تكون سحرية أو مادية لتعديل أو تخفيف هذا المصير. الـتماثل التقني يكمن في أن كلاهما، السحر و العلوم القديمة كانا يعملان ضمن إطار أنطولوجيا مُوحَّدة ترى الكون كـكيان حي ومتفاعل (Animistic Cosmos)، حيث لا يوجد إنقطاع بين السبب المادي والسبب الروحي. التقنية السحرية هي الإستخدام المباشر لهذه المبادئ الميتافيزيقية، بينما العلوم القديمة، الكيمياء و الفلك هي التطبيق المنهجي المُنظَّم لها في مجالات محددة. كانت العلوم القديمة بمثابة الذراع الأكاديمي لنفس المنظومة المعرفية التي كان السحر يمثل ذراعها العملي والغامض.
_ السحر كتقنية أنطولوجية وهوية ثقافية: الوعاء الوجودي لتفسير العالم والمقاومة الإبستمولوجية
يمكن النظر إلى الممارسة السحرية كتقنية موروثة على أنها جزء أصيل ولا يتجزأ من هوية الكينونة الثقافية لعدد كبير من الشعوب. هذا الطرح يتجاوز مجرد إعتبار السحر ممارسة هامشية أو خرافة عابرة، ليضعه في مصاف التقنيات الوجودية والمنظومات المعرفية التي شكلت البنية العميقة لتفسير العالم والتفاعل معه في تلك الثقافات. إن العلاقة بين السحر والثقافة علاقة أنطولوجية؛ فالسحر لا يُمارس فحسب، بل إنه يُشكل نسيج الواقع المدرك وطريقة فهم الذات داخل هذا الواقع. إن السحر، في سياقات ثقافية عديدة، يعمل كـتقنية تكوينية (Formative Technique) تساهم في بناء الوعي الجمعي وتحديد الهوية الثقافية. لا يمكن فصل السحر عن جوانب الحياة الأساسية في تلك المجتمعات، بل إنه يندمج فيها ليصبح جزءاً من الكينونة الثقافية نفسها. في المجتمعات التي تتبنى هذا المنظور، لا يُنظر إلى العالم على أنه كيان مادي جامد، بل كـنظام حيوي متفاعل تسكنه القوى والأرواح. السحر هنا ليس تدخلاً خارقاً، بل هو الوسيلة التقنية لفهم وتنظيم هذا التفاعل. إنه يوفر لغة ميتافيزيقية كإستخدام الرموز والطقوس والأساطير تفسر النجاح و الفشل، المرض والصحة، والسلم والحرب. هذه اللغة تشكل الأساس الذي تُبنى عليه القوانين الإجتماعية, الممارسات الطبية التقليدية، وحتى الفنون و الحكايات الشعبية. الهوية الثقافية تصبح في جوهرها هوية سحرية وجودية، حيث يُعرّف الإنسان علاقته بالكون عبر هذا المنظور. تُورث الممارسات السحرية جيلاً بعد جيل، ليس كـخرافات، بل كـتقنيات عملية للتعامل مع تحديات الوجود مثل طقوس جلب المطر، الحماية من الحسد، أو إستحضار الأرواح. هذا التوارث يحافظ على الذاكرة الأنطولوجية للثقافة، أي طريقة فهمها لكيفية عمل الوجود و من يمتلك القوة فيه. عندما يفقد شعب ما ممارساته السحرية الموروثة، فإنه لا يفقد مجرد مجموعة من الطقوس، بل يفقد جزءاً من منظومته المعرفية التي كانت تفسر له العالم، مما يؤدي إلى تصدع في هوية الكينونة الثقافية ويجعلها عُرضة للهيمنة التفسيرية لثقافة أخرى كالهيمنة العلمية الحديثة. تتجلى أهمية السحر كـ هوية ثقافية عندما يحدث صراع إبستمولوجي بينه وبين التفسيرات الغربية الحديثة (المنهج العلمي). بالنسبة للعديد من الشعوب الأصلية أو التقليدية، فإن الإصرار على إستمرار الممارسات السحرية هو شكل من أشكال المقاومة الوجودية والثقافية. يُصبح السحر ليس مجرد مسألة صحة أو خطأ علمي، بل مسألة أصالة ثقافية في مواجهة حداثة مُستوردة تسعى لـتجريد الكينونة من عناصرها الروحية والرمزية. عندما يتم إدانة السحر ووصفه بالخرافة، فإن ذلك يُعتبر هجوماً على جوهر الهوية وطريقة فهم الكون. بشكل عام، الممارسة السحرية كتقنية في هذه السياقات ليست مجرد ظاهرة إجتماعية سطحية؛ بل هي قاعدة أنطولوجية تُبنى عليها الثقافة بأكملها، وتعمل كـوعاء وجودي يحفظ تفسير الشعب للعالم ويحدد علاقته بالكينونة، مما يجعلها جزءاً أصيلاً من هويته.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟