أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الجادرية... المرآة التي كشفت وجه السلطة














المزيد.....

الجادرية... المرآة التي كشفت وجه السلطة


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8515 - 2025 / 11 / 3 - 20:50
المحور: قضايا ثقافية
    


في قلب بغداد، حيث تلتفُّ دجلة حول خاصرتها كعاشقٍ يطوّق حبيبته المرهقة، تمتدُّ الجادرية كقصيدةٍ من نخيلٍ وزجاجٍ ووجوهٍ متعبةٍ من الترف والضجر، كأنها مدينة داخل مدينة، تفيضُ بالثراء كما تفيضُ بالأسئلة. هناك، حيث يتقاطع الجمال مع السلطة، وتلتبسُ الحدائق بالدهاليز، يتبدّل الهواء بين عبق الياسمين ورائحة الصفقات.الجادرية ليست حيًّا فحسب، بل ذاكرة سياسية وجغرافيا للقوة. فيها تتجاورُ القصور مع النوايا، وتنعكس على مياهها أسرارُ الحكم والمال، وكأنها المرآة التي تعكس وجه العراق المتعدد الوجوه: وجهُ الدولة، ووجهُ الوجاهة، ووجهُ الفساد الذي يختبئ خلف الأبواب الموصدة بالأمن والولاء.وحين أعلن فريق مارك سافيا استلام الجادرية رسميًا من السيد عمار الحكيم، لم يكن المشهدُ انتقالًا إداريًا بقدر ما كان تحوّلًا في رمزية المكان. فالجادرية التي كانت لفترة طويلة تُدار من وراء الستار بقبضةٍ ناعمةٍ مغلفة بالوراثة والنفوذ، باتت فجأة ساحة مراجعةٍ ومساءلةٍ لأرصدةٍ وممتلكاتٍ تراكمت باسم “الشرعية” و“المصلحة العامة”. وكأن التاريخ الذي طالما كُتب في غرفٍ مغلقة قرّر أن يُعلن نفسه أمام الضوء.في الفلسفة السياسية، هناك لحظاتٌ لا تعيد توزيع السلطة فحسب، بل تعيد تعريفها. والجادرية اليوم، في ظل مراجعة الأرصدة والممتلكات، تقفُ بين زمنين: زمنٍ راكم الثروة بعباءة الدين والرمز، وزمنٍ يسعى إلى فتح الدفاتر القديمة ليفرز بين ما هو شخصيّ وما هو وطنيّ، بين ما أُخذ باسم العراق وما نُهب من روحه.لقد كانت الجادرية لعقودٍ رمزًا للترف في بلدٍ يتنفس العوز. حدائقها الغنّاء لم تكن إلا انعكاسًا لتناقضاتنا الجمعية؛ وطنٌ نصفه من الغبار، ونصفه الآخر من الرخام. الشوارع الهادئة التي تخترقها كانت تعرف وقع خطوات السياسيين أكثر مما تعرف صخب الأطفال. كانت مختبرًا للقوة، ومسرحًا للقرارات التي تصنع مصائر الآخرين.واليوم، حين يباشر الفريق الجديد مراجعة “الأرصدة والممتلكات”، فإن ما يُراجع حقًا ليس المال بل الذاكرة. فالثروة هنا ليست أرقامًا في المصارف، بل سرديات كاملة عن كيف تحوّل الدين إلى وسيلةٍ للحكم، وكيف صارت الجغرافيا أداةً للامتياز الطبقي والسياسي. فكل بيتٍ في الجادرية يحكي حكاية صعودٍ أو سقوط، وكل نخلةٍ فيها تهمس باسمٍ غاب عن الضوء لكنه لم يغب عن الحكايات.عمار الحكيم، الذي ورث السياسة كما تُورث الأرض والعقيدة، يجد نفسه اليوم أمام مرآةٍ جديدة لا تعكس صورته فقط، بل تعكس منظومةً كاملة من الامتيازات التي بُنيت على تداخل الدين بالثروة، والرمز بالسلطة. وما يجري في الجادرية ليس إجراءً إداريًا بقدر ما هو تفكيكٌ لمنظومةٍ كانت ترى في “الرمز العائلي” حصانةً من المساءلة.الجادرية اليوم تُسلَّم كما تُسلَّم العروش القديمة في الطقوس الإمبراطورية، لكن الفرق أن الحفل هذه المرة لا يُقام في القصور، بل في العلن، أمام جمهورٍ تعب من التمويه. فالفلسفة هنا ليست في الحدث ذاته، بل في التحوّل الذي يصنعه في وعي الناس: أن السلطة مهما تأنقت، تبقى عاريةً حين تُعرض أمام السؤال.إنها لحظة تأملٍ في معنى “الملكية العامة” في بلدٍ عاش طويلاً في ظل الخلط بين الشخصي والجماعي. فحين تُراجع الأرصدة، تُراجع معها القيم، وحين تُستعاد الأراضي، تُستعاد الرمزية التي سُلبت من الوطن.الجادرية ليست مجرد مساحةٍ من الإسمنت والحدائق، بل نصٌّ مفتوح عن العراق المعاصر، بكل ما فيه من تناقضٍ بين الطهر والتلوث، بين الوراثة والتجديد، بين الرمز والإنسان. ومن يدرك فلسفة الجادرية، يدرك أن الصراع على المكان في هذا البلد ليس إلا صراعًا على المعنى ذاته: من يملك العراق؟ ومن يخدمه؟فكل استلامٍ في الجادرية هو، في الجوهر، تسليمٌ للوعي من يدٍ إلى يد، ومن عقلٍ إلى عقل. وقد تكون مراجعة الأرصدة بدايةً لمراجعةٍ أعمق، مراجعة الذات العراقية التي آن لها أن تنظر في مرآتها دون أقنعة.وهكذا، تبقى الجادرية ــ تلك السيدة المتأنقة على ضفاف دجلة ــ شاهدةً على أن كل ما يُشيّد من سلطةٍ على الرمل، لا بد أن يعود يومًا إلى الماء، حيث تبدأ الأشياء من جديد.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بلاد العبور الممنوع: انكسرت البوصلة بين دجلة والممرات.
- أنثى الضوء
- الخيانة الكبرى: خيانة الإنسان لذاته
- الكتابة من فم الموت
- جسدٌ يحاكي حُطامَهُ
- مواسم الانتظار
- وردٌ على فم الموت
- الخراب في مرآة الإنسان: الحرب السودانية وصراع النفوذ في جسد ...
- حينما هُدم التمثال، تكلم الحجر بلغة الجواد
- نامت المرآة في جيب الهاتف
- عليٌّ بريءٌ من عليِّكم
- العشيرة... بين لحمِ الأرض وروحِ الوطن
- الزجاج الذي لا يُشعَب… ووطنٌ كُسِرَت ملامحه
- عندما تجمّدت الشمس في صدورنا
- حين كُسِرت أصابعي ولم تَعُد تُمسك القلم
- الأحواز… نبيّ العطش المنسي
- اجعلوني مرجعاً لأيام
- إعلان وفاة حي
- اليمن.. من مملكة سبأ إلى ظلال الطائفية: رحلة وطنٍ في مواجهة ...
- مواعيدُ عَرقوبٍ على مَائدةِ المتقاعدين.. فلسفةُ الوعود المؤج ...


المزيد.....




- بالنص والفيديو.. شريهان تستعيد مشاركتها التاريخية في احتفالي ...
- مصدر يوضح لـCNN تفاصيل مساعي إدارة ترامب للدفع بقرار أُممي ب ...
- ميرتس: لا أساس قانوني لبقاء السوريين وأدعوهم للعودة لإعادة إ ...
- رونالدو يعلن اقتراب اعتزاله ويستعد للفصل الأخير من مسيرته
- ماكرون يعلن إطلاق سراح فرنسيين كانا محتجزين في إيران منذ عام ...
- غوتيريش: مجلس الأمن مرجعية أي كيان ينشأ لغزة وحان وقت السلام ...
- وفاة ديك تشيني أحد أبرز مهندسي غزو العراق عن 84 عاما
- بدء محاكمة لافارج الفرنسية بتهمة -تمويل الإرهاب- في سوريا
- صحف عالمية: تقارير تكشف جرائم الدعم السريع بالفاشر ودعوات لت ...
- للحد من الاحتباس الحراري.. ماسك يخطط لـ-حجب الشمس-


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الجادرية... المرآة التي كشفت وجه السلطة