أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رانية مرجية - الذين باركوا القتل رواية رانية مرجية 2025















المزيد.....



الذين باركوا القتل رواية رانية مرجية 2025


رانية مرجية
كاتبة شاعرة ناقدة مجسرة صحفية وموجهة مجموعات

(Rania Marjieh)


الحوار المتمدن-العدد: 8512 - 2025 / 10 / 31 - 15:32
المحور: الادب والفن
    


💌 الإهداء

إلى الذين صمتوا خوفًا،
ثم استيقظوا على صدى أصواتهم المذبوحة.
إلى النساء اللواتي مشين على حواف الضوء،
وحملنَ النور في صدورٍ أُطفئت قسرًا.
إلى الرجال الذين اكتشفوا متأخرين
أن القوة الحقيقية لا تُمسك بسكين،
بل بقلبٍ يغفر.
إلى "ليلى"…
لأنها لم تمت، بل صارت وجهًا آخر للحقيقة.


🖋️ المقدمة

لم تُكتب هذه الرواية لتروي جريمة،
بل لتفضح فكرةً قُتِل باسمها الكثيرون.

كتبتها لأنّ الصمت أخطر من الدم،
ولأنّ أكثر الجرائم وجعًا هي تلك التي تُباركها الجماعة باسم الشرف.

في هذه الحكاية، لا يوجد قاتل واحد،
بل وجوهٌ كثيرة شاركت في الطعنة:
الخوف، والجهل، والفتوى، والسكوت.

كتبتها لأجل كلّ "ليلى" ماتت كي يعيش النظام،
ولكلّ "نوار" ظنّ أنه يحمي النور وهو يطفئه.

"الذين باركوا القتل" ليست رواية عن الموت،
بل عن الحياة التي ترفض أن تُدفن،
وعن الغفران الذي يولد من رماد النار.




















































الفصل الأول: بيتٌ يخاف النور

لم يكن الصباح في قرية العبيل يشبه الصباح في أي مكانٍ آخر. هناك، ينهض الضوء متثاقلًا، كأنه يتسلل خائفًا من أن يوقظ شيئًا لا يريد الاستيقاظ. كانت الأزقة الضيقة تتثاءب تحت غبارٍ رمادي، وأصوات الديكة تختلط بصرير الأبواب الخشبية التي تتنفس الصدأ. في تلك القرية، حتى النور يتصرف بحذر.

في أعلى التل، بيتٌ حجريٌّ كبير يُسمّى «بيت نوار». لم يكن أهل القرية يسمونه باسم الأب أو الأم، بل باسم الابن؛ لأنه هو من حفظ اسم العائلة بعد أن صار الرجال يُقاسون بقدرتهم على الصمت لا بالحب. في ذلك الصباح، خرجت ليلى من غرفتها، تحمل دفتراً صغيراً وعلبة ألوانٍ قديمة. جلست على الدرج الحجري، ترسم شجرة الرمان التي تتوسط الفناء. كانت ترسمها للمرة المئة، وكل مرةٍ كانت الثمرة الحمراء تخرج من أصابعها أكبر قليلاً، كأنها وعدٌ خفيٌّ بالحياة.

من النافذة، كانت أمها تراقبها بصمتٍ فيه حنينٌ وخوف. أما نوار، فكان في الإسطبل يحاول إشعال النار تحت إبريق الشاي. كانت يده ترتجف كلما سمع اسمها يُذكر في حديث الناس، لا لشيءٍ فعلته، بل لأنها لم تكن مثل غيرها.

قال له العم في الليلة الماضية:

– بنتكُم صارت كثيرة الكلام يا نوار. النور الزائد يُعمي أحيانًا.
ضحك الرجال من حوله، لكن ضحكتهم كانت كحجرٍ سقط في بئرٍ عميق.

في القرية، كانت ليلى تُعلّم البنات القراءة سرًّا في غرفةٍ منسية خلف المسجد. لم تكن تكتب شعرًا ولا تُلقي خطبًا؛ كانت فقط تقول لهن: «الله لا يريدكنّ صامتات». تلك الجملة وحدها كانت كافية لتجعل الرجال يشعرون بالخطر.

ذات مساءٍ، حين عادت من دروسها الصغيرة، وجدت أمها تنتظرها عند الباب، بعينين تخافان أكثر مما تغضبان.

– ليلى، يا بنتي، الناس يتكلمون. – ومتى سكتوا يا أمّي؟ – هذه المرة مختلفة… قالوا إنك تُعلّمين البنات كلماتٍ ليست من القرآن. – بل من الله، يا أمي، فقط لا يقرؤونها في الكتب.

لم ترد الأم. ضمّتها إلى صدرها، ثم نظرت نحو السماء. في تلك اللحظة، مرّ نوار، سمع آخر جملةٍ، ولم يسمع ما قبلها، فحملت الريح إلى قلبه شبهةً لا تُغسل بسهولة.

في الليل، جلس نوار وحده عند الشجرة التي رسمتها ليلى صباحًا. كانت الريح تحرّك الأوراق كأنها همسات تضحك منه. نظر إلى البيت، فبدت له النوافذ كعيونٍ تراقبه. تساءل: «هل حقًا يمكن أن يُظلم البيت من نوره؟»

في اليوم التالي، دخلت ليلى السوق لتشتري بعض الورق. النساء ألقين عليها نظراتٍ تتأرجح بين الغيرة والإدانة. ورجال المقهى تبادلوا كلماتٍ قصيرة، كأنهم يوزعون حكمًا قبل أن يسمعوا القضية. أحدهم قال:

– البنات حين يتعلّمن الكلام، ينسين الحياء.
فردّ آخر:
– والسكين أبلغ من الموعظة.

كانت هذه الجمل الصغيرة كالحصى الذي يُرمى في الماء، تصنع دوائر متّسعة لا تراها العين، لكنها تصل في النهاية إلى قلب نوار.

في تلك الليلة، جلست ليلى في غرفتها أمام المرآة. الضوء المنسكب من المصباح الزيتي يغسل وجهها بنعومة. كتبت في دفترها:

«في بيتٍ يخاف النور، تصبح الحقيقة تهمة.»
ثم أغلقت الدفتر وابتسمت.

في الخارج، كان نوار يسند رأسه إلى الحائط، يسمع صدى ضحكتها. تذكّر طفولتهما حين كانا يتسابقان في جمع الرمان من الشجرة ذاتها. كيف صار بينهما هذا الجدار من الكلام والعيون؟

اقترب من غرفتها، رفع يده ليطرق الباب، ثم تراجع. لم يكن يعرف ماذا يريد أن يقول. كل ما في داخله كان مزيجًا من حبٍّ وخوفٍ وشعورٍ غامضٍ بالعار لم يفهم مصدره.

في الخارج، سكنت القرية، لكن تحت سكونها كانت النار تتهيأ للاشتعال.

من بعيد، نباح كلبٍ قطع الصمت، تبعه صوت الريح يهمس من خلف الجدران:

«حين يخاف الناس من النور، يعبدون الظل.»

تسللت ليلى إلى نافذتها، نظرت إلى السماء، وقالت بصوتٍ خافتٍ:

«يا الله، علّمهم أن النور لا يُطفأ بالدم.»

لم تكن تعرف أن تلك الكلمات ستكون آخر صلاةٍ تُقال في بيتٍ يخاف النور




الفصل الثاني: ليلى قبل الهمس

كانت ليلى تعرف منذ طفولتها أن في بيتها شيئًا لا يُقال.
شيئًا يعيش بين الجدران كظلٍّ لا يتبدد، يُشبه الخوف لكنه ليس منه.
كانت تسمع أمها تهمس دائمًا:

«احكي بصوتٍ واطٍ، فالكلمات أحيانًا تُوقظ العيون.»

لكن ليلى كانت تحب الكلام،
تحب أن تسأل، وأن تفهم لماذا تبتسم الشمس أكثر عندما تغسل وجهها بماء البئر.
وحين تكبر قليلًا، لم يتغير فيها سوى أن أسئلتها صارت أكثر وجعًا.

في المدرسة، كانت المعلمة تُعجب بخطها الجميل،
لكنها كانت توبخها كل مرة تقول فيها رأيًا خارج الدرس.
وفي يومٍ قالت ليلى بصوتٍ واضح:

«لو كان الله يريدنا خائفين، لخلقنا صامتين.»
فساد الصمت في الصف، كأن الجميع سمعوا تجديفًا لا حكمة.
في تلك اللحظة، أدركت ليلى أن الخوف هو اللغة الرسمية للقرية.

كانت تحبّ أن تجلس تحت شجرة الرمان بعد الظهر.
تفتح دفترها الصغير وتكتب جملًا لا تقرأها لأحد.
لم تكن تعرف أنها تكتب أدبًا، كانت فقط تُفرغ نفسها من ضجيجٍ لا يسمعه غيرها.
كتبت ذات مرة:

«العصافير تطير لأن أحدًا لم يقل لها إن الطيران عيب.»

كانت أمها تمرّ بجانبها، تلمس شعرها وتتنهد.
– ليتكِ كنتِ أكثر صمتًا يا ليلى.
فتبتسم ليلى وتجيبها برقةٍ مؤلمة:
– الصمت لا يشبهني، يا أمّي، أنا بنت الضوء، لا الظلّ.

في المساء، حين يجتمع الرجال في الساحة للحديث عن «شرف البيوت»،
كانت ليلى تختبئ خلف النافذة تستمع.
كلما قال أحدهم كلمة شرف، شعرت كأنها تُرمى بحجرٍ جديد،
لأنها لم تفهم يومًا كيف يمكن للشرف أن يعيش في جسدٍ، لا في ضمير.

وفي يومٍ، بينما كانت تمشي نحو المدرسة،
سمعت همساتٍ خلفها.
ضحكاتٍ خافتة تتكاثر كحشراتٍ في الظل.
كانت تعرف مصدرها، لكنها لم تلتفت.
رفعت رأسها، تابعت سيرها،
لكن شيئًا في صدرها انكسر:
فهمت أن الشجاعة وحدها لا تحميك من الطعن بالهمس.

في تلك الليلة، كتبت في دفترها:

«كلّ جدارٍ في هذه القرية له أذن،
وكل أذنٍ تنتظر سقوط امرأةٍ لتستريح.»

وضعت الدفتر تحت وسادتها،
وأطفأت المصباح الزيتي،
لكنها لم تنم.
كانت تفكر في نوار، أخيها الذي تغيّر صوته وصار يحمل في نبرته شيئًا غريبًا؛
خليطًا من الحنان والتهديد،
كأنّه يقول لها من غير كلام:
«احذري من أن تكوني أنتِ الخبر التالي.»

في الصباح التالي، حين خرجت الشمس من خلف التل،
رسمت ليلى على باب غرفتها كلمةً صغيرة بالطبشور الأبيض:

نور.

لم تكن تعرف أن تلك الكلمة ستصير لاحقًا عنوانًا لحكايتها.
في ذلك اليوم، مشيت إلى المدرسة بخطواتٍ تشبه من يعرف أنه يسير نحو قدرٍ بعيد،
لكنّه لا يندم عليه.

كانت تضحك،
لكن الريح وحدها سمعت في ضحكتها شيئًا من الوداع.













الفصل الثالث: مجلس الظلال

في مساءٍ ثقيلٍ من أمسيات القرية،
اجتمع الرجال في الدار الكبيرة.
المصباح الزيتي المعلّق في السقف كان يتأرجح ببطء،
يلقي ظلالًا طويلة على الجدران،
كأنّ لكل رجلٍ ظلًا أكبر من جسده.
وفي وسط الغرفة، كان العم عمران يجلس كقاضٍ ينتظر اعترافًا.

قال بصوته الأجشّ:

– البنت تخرج كثيرًا هذه الأيام، وتتكلم أكثر من اللازم.
هل رأيتم ماذا يقول الناس في السوق؟

رفع الأب رأسه بتردد،
ثم أنزله سريعًا كمن يخاف من الضوء.
كانت كلماته قليلة، لكنها تُثقل الجو حين ينطقها:

– الناس لا يرحمون يا عمران، لكن ليلى بنتٌ طيبة.

قهقه أحد الحضور، رجلٌ نحيف له عينان كإبرتين:

– الطيبة لا تكفي.
النار تبدأ بشرارة، والعيب يبدأ بكلمة.

من زاوية الغرفة، كانت الأم جالسةً بصمتٍ يشبه الدعاء،
يدها تعبث بطرف ثوبها لتخفي رعشة أصابعها.
كانت تعرف أن الكلام في المجلس لا يقال عبثًا؛
هو ليس تشاورًا، بل تهيئةٌ لذبحٍ معنويٍّ يسبق الدم.

اقترب نوار من الباب،
لم يدخل، لكن صوته كان بينهم دون أن يتكلم.
كان يسمع كل شيء،
والكلمات تسقط عليه كحجارةٍ على صدرٍ مفتوح.
حين قال أحدهم:

– من لا يردّ على كلام الناس يُحسب عليه.
شعر أن تلك الجملة خُطّت على جلده لا في الهواء.

قال الشيخ بوقارٍ مصطنع:

– لا أتهمها، لكن الوقاية خير من الندم.
علموا بناتكم الصمت، فالصوت فتنةٌ إن خرج من فم امرأة.

كانت الجمل تتكاثر في الغرفة كالدخان،
والأب يُطفئ سيجارته تلو الأخرى.
أما العم عمران فابتسم وقال بخبثٍ مموّه بالنصح:

– الشرف مثل الزجاج، يا أخي.
إن تصدّع، لا يُرمَّم.
والسكين أنظف من الكلام.

تبادل الرجال النظرات،
ولم يقل أحد كلمة «اقتلها»،
لكنها كانت تتردّد في الصمت بين أنفاسهم.

في الخارج،
كان نوار يقف على عتبة الباب،
يده على صدره كمن يحاول إيقاف دقٍّ لا يهدأ.
لم يفهم هل هو غاضب أم خائف أم مذنبٌ قبل أن يذنب.
تذكّر ضحكة ليلى الصباحية وهي تمرّ بجانبه،
ورأى في ذهنه لحظة الطفولة حين سقطت من الشجرة،
كيف حملها وبكى.
الآن، الكلمات نفسها التي قيلت هناك جعلته يشعر أن عليه أن يحمل سكينًا بدل الدموع.

في الداخل، قالت الأم بصوتٍ خافتٍ كأنها تجرؤ على خطيئة:

– الشرف ليس في الدم، بل في القلب.
لكن أحدًا لم يسمعها،
أو لعلهم سمعوا وتجاهلوا،
فالخوف كان سيد المجلس،
والسكوت طاعته الكبرى.

نهض الشيخ، لفّ عباءته حول كتفيه وقال:

– من أراد بيتًا طاهرًا، فليطهّره قبل أن يتلوث.

ثم خرج.
تبعه الرجال واحدًا تلو الآخر،
وتركت أصوات نعالهم على البلاط أثرًا يشبه الندم.

بقي الأب وحده،
ينظر إلى الجدار الطويل،
يضع كفّه على قلبه كمن يسمع حكماً صدر عليه.
قال لنفسه:

– لا يقين في الدم…
لكنّ الناس لا يغفرون الصمت.

عند الباب،
التقت عينا نوار بعيني أمه.
لم تقل شيئًا، لكنها رأت في وجهه سؤالًا أكبر من الكلام:

«هل الشرف أن أقتلها… أم أن أحميها منكم؟»

في تلك اللحظة،
دخلت الريح من النافذة،
أطفأت المصباح،
وانطفأ معه آخر بصيص عقلٍ في البيت.

ومن بين الظلال التي غطّت الجدران،
خرجت الهمهمة الأولى التي ستقود إلى الجريمة.









الفصل الرابع: ليلى – التي ماتت واقفة

كانت السماء في تلك الليلة غريبة،
نصفها ضوءٌ ونصفها ظلام،
كأنّها تتردّد بين الشهادة والصمت.
القرية نائمة،
لكن الجدران لم تنم؛
تسمع أنين الريح وهي تمرّ على السطوح كأنها تُحصي الأرواح التي ستهجرها قريبًا.

في داخل البيت،
كانت ليلى تجلس أمام المرآة.
ضوء المصباح الزيتي يلمع على وجهها كابتسامةٍ حزينةٍ لم تكتمل.
تمشّط شعرها الطويل الذي يشبه الفجر حين يتأخر قليلًا.
في عينيها سكينةٌ غريبة؛
كأنها تعرف أن كلّ ما سيأتي كُتب قبل أن تُولد.

كتبت في دفترها الصغير:

«لا أملك إلا النور،
وإن أرادوه نارًا، فليكن.
من يخاف من الضوء، لا يعرف أن الظلمة تحتاجه لتوجد.»

ثم أغلقت الدفتر ووضعته تحت وسادتها.
من بعيد، سمعت وقع خطواتٍ مألوفة.
خطوات نوار.
لم يكن في صوته غضب، بل حيرة،
صوت رجلٍ يمشي على جسرٍ من زجاج،
يعرف أنه سيتكسر إن عاد أو تقدّم.

فتح الباب ببطء،
تردد كمن يخاف أن يرى ما يؤلمه أكثر من الموت نفسه.
رفعت ليلى رأسها،
ابتسمت،
وقالت بهدوءٍ يشبه صلاةً:

– جئتَ لتقتلني، يا نوار؟

لم يجب.
كانت يده ترتجف،
وفي عينيه ظلّ صبيٍّ يبكي تحت المطر.
اقتربت منه، وضعت يدها على وجهه.
قالت:

– لا تخف، يا أخي…
فالموت ليس عدوًّا،
العدوّ هو الجهل الذي يلبس وجهَ الشرف.

حاول أن يتكلم،
لكن الكلمات كانت تخونه كما خانته القرية كلها.
قال أخيرًا بصوتٍ مبحوحٍ:

– الناس قالوا…
فأجابته:
– والناس يعبدون الكلام أكثر مما يعبدون الله.

نزلت دمعةٌ من عينه.
مدّت يدها، مسحتها بإبهامها.
قالت مبتسمة:

– لا تبكِ… إنك لم تقتلني بعد.
لكن إن فعلت، فاعلم أني سامحتك قبل أن ترفع السكين.

في تلك اللحظة،
مرّت ريحٌ باردة من النافذة،
أطفأت المصباح،
ولم يبقَ في الغرفة سوى خيطٍ من ضوء القمر على وجهها.

لم يُسمع صراخ،
ولا ارتجّ البيت.
فقط سقط شيءٌ خفيفٌ على الأرض،
ثم صمتٌ ثقيلٌ كقبرٍ مفتوح.

حين أشعل نوار المصباح من جديد،
رآها ممدّدةً على الأرض،
وجهها مرفوعٌ نحو الضوء،
كأنها ما زالت تنظر إلى الله مباشرةً.
لم تكن ملامحها ميتة،
بل كأنها استراحت من الخوف الذي كان يطوف حولها منذ وُلدت.

جلس بجانبها.
لم يعرف ما يفعل بيديه،
فهو لم يعتد أن يمسك بشيءٍ بهذا النقاء.
قال بصوتٍ مرتجف:

– سامحيني يا ليلى…
أردت أن أُسكِت الكلام،
فأنطقتِ الصمت فيّ إلى الأبد.

في الخارج،
بدأت الكلاب تنبح كأنها تنوح.
الريح صارت أقوى،
تهزّ الأشجار كأنها تحتجّ على السماء.

في الصباح،
حين دخلت الأم الغرفة،
رأت الدم، ورأت النور الذي يغمر الجدار.
لم تصرخ،
فالصراخ في بعض المواقف لا يليق.
ركعت بجانب ابنتها،
قبّلت جبينها البارد وقالت:

– ماتت واقفة، يا ربّ،
لأنك خلقتها لا تنحني إلا لك.

في ذلك اليوم،
لم تُدفن ليلى وحدها.
دُفن معها حلمٌ صغير،
وأغنيةٌ كانت تُعلّمها للبنات سرًّا،
وحقيقةٌ لم تجرؤ القرية على سماعها.

ومنذ تلك الليلة،
كلما أشرقت الشمس على القرية،
قال أحدهم إنه رأى خيطًا من الضوء
يمرّ فوق بيت نوار،
كأنّ ليلى ما زالت واقفة هناك.















الفصل الخامس: المحكمة التي لا قاضٍ فيها

كانت القاعة باردةً كالمعبد،
جدرانها بيضاء كالكفن،
وصوت المروحة في السقف يدور ببطءٍ كأنه يُحصي أنفاس الحاضرين.
جلس نوار في المنتصف،
يداه مكبّلتان،
لكن عينيه حرتان —
فيهما شيء من الغرق، وشيء من اليقظة التي تأتي متأخرة.

على الجهة الأخرى، جلس القاضي،
وجهه جامد كصخرٍ جُرِّد من الظلال.
كان يعرف أن هذه القضية ليست كغيرها،
ففي ملفاتها اسم امرأة،
وفي تفاصيلها وطنٌ كامل من الصمت.

بدأت الجلسة.
قرأ الكاتب الوقائع بصوتٍ ميكانيكي،
كأنه يقرأ وصف طقسٍ لا جريمة.
ثم رفع القاضي رأسه وسأل:

– لماذا قتلتَها يا نوار؟

تردّد صوته في القاعة كصفعةٍ جافة.
أجاب نوار بهدوءٍ مريب:

– لأنهم قالوا إن الشرف في جسدها،
فظننتُ أني أُنقذهم بدمها.

رفع القاضي حاجبيه،
ثم قال بنبرةٍ خافتةٍ لكنها تحمل ألمًا إنسانيًا عميقًا:

– وهل الشرف مِلْكُ الناس أم ملكُ الله؟

سكت نوار،
كأن السؤال اخترق قلبه قبل أن يسمعه عقله.
ثم قال بعد لحظةٍ طويلة:

– كنتُ أبحث عن الله في أصواتهم،
فلم أجد إلا الخوف.

في المقاعد الخلفية،
جلست الأمّ،
ثوبها الأسود يبتلع الضوء،
وعيناها كنافذتين إلى صمتٍ أبدي.
كانت لا تبكي؛
فالبكاء ترفٌ لا يملكه من مات مرتين.

طلب القاضي شهادتها.
نهضت ببطء،
خطواتها ثقيلة،
لكن صوتها حين نطقت كان صافيًا كالماء:

– ابني لم يقتلها وحده.
القرية كلّها أعطته السكين،
وأنا أعطيته اسمي،
ليغسل به عارًا لم يكن موجودًا إلا في عيونهم.

ساد الصمت.
حتى الجدران بدت أقرب إلى السجود من الوقوف.
القاضي أطرق رأسه،
كأنها قرأت في قلبه ما لم يجرؤ على قوله.

كتب في دفتره جملةً قصيرةً بيده المرتعشة،
ثم قال بصوتٍ لا يسمعه إلا هو:

– الحكم… مؤجَّل.

رفع الكاتب رأسه بتعجبٍ:

– مؤجَّل إلى متى، سيدي؟
ردّ القاضي:
– إلى أن نعرف من القاتل حقًا:
اليد التي طعنت، أم الصمت الذي بارك؟

انتهت الجلسة،
لكن أحدًا لم يخرج.
الكلّ جلس في أماكنه،
كأنهم ينتظرون حكمًا سيصدر عليهم جميعًا.

في الخارج،
كانت الشمس تميل نحو الغروب،
ولونها الأحمر على جدران المحكمة بدا كدمٍ لم يُغسل بعد.
خرج نوار محاطًا برجال الشرطة،
لكن خطواته كانت أبطأ من الظلّ.
نظر إلى السماء وقال لنفسه:

– لو أن الله أراد هذا،
لخلقنا بلا قلوب.
لكننا نحن الذين نقتل حين نخاف من النور.

وفي تلك اللحظة،
سقطت ورقة من دفتر القاضي،
حملتها الريح إلى الشارع.
كان مكتوبًا فيها بخطٍ صغير:

«العدل ليس أن ننتقم،
بل أن نفهم لماذا أصبح الدمّ لغةً تُصدّقها القلوب.»















الفصل السادس: الأصوات التي باركت

لم يكن الصباح مختلفًا عن أي صباحٍ آخر في القرية،
لكن الهواء كان أثقل،
كأن الأرض نفسها تأنُّ تحت ذنبٍ لا تعرف كيف تغفره.

في المقهى القديم عند الساحة،
جلس الرجال في صفوفٍ متقابلة.
الدخان يملأ المكان،
ورائحة البن المحروق تختلط بمرارة الكلام.

قال الأول وهو ينفث سيجارته بثقةٍ باردة:

– الولد رجال… غسل العار بيده.
ضحك الثاني وأضاف:
– الناس كانت ستأكل وجه أبيه في السوق لو سكت.
أما الثالث، فهزّ رأسه وقال بنغمةٍ تشبه الفتوى:
– هكذا تُصان البيوت… بالنار، لا بالكلام.

ضحكوا جميعًا.
ضحكةٌ قصيرةٌ لكنها جارحة كصفعةٍ على وجه الشمس.
كانت الريح تمرّ بين نوافذ المقهى وتهمس،
لكن أحدًا لم يُصغِ.

في الزاوية،
كان شيخ القرية يجلس بصمتٍ يراقبهم،
يمسح لحيته الطويلة ويفكر:
«كم من الدمّ احتاج الله كي نُقنع أنفسنا أننا أطهار؟»
لكنه لم يتكلم.
حتى هو،
كان صمته مشاركةً أخرى في الجريمة.

في البيت المجاور للمقهى،
كانت امرأةٌ عجوز تهمس لجارتها وهما تعجنان الخبز:

– مسكينة ليلى… كانت بنتًا طيبة.
قالت الأخرى وهي تنظر إلى العجين بين يديها:
– الطيبة لا تكفي يا أم خليل،
الشرف أهم من الطيبة.
ثم صمتتا،
لكن النار التي في التنور ارتجفت كأنها تعترض.

في المدرسة،
وقف طفلٌ صغيرٌ وسأل معلمته:

– آنسة، هل ماتت ليلى؟
نظرت إليه مطولًا وقالت بحزنٍ لم تعرف كيف تخفيه:
– نامت، يا صغيري.
فقال الطفل بعفويةٍ تُشبه النبوءة:
– وهل الذين ينامون بالسكين يحلمون؟

لم تعرف المعلمة كيف تجيب.
في تلك الليلة، حين صلّت،
قالت في سرّها:

«اغفر لنا يا رب،
لأننا صمتنا كثيرًا.»

في السوق،
كانت النسوة يشترين الخبز ويتحدثن عن الأسعار،
كأن شيئًا لم يحدث.
لكن في عيون بعضهنّ،
كان سؤالٌ خافتٌ يختبئ:

– هل نوار وحده القاتل؟
أم نحن الذين قلنا: العيب لا يُغتفر؟

في المساء،
حين مالت الشمس إلى الغروب،
كانت السماء بلونٍ أحمرَ غريب،
لا يُشبه غروب الأمس.
وقف بعض الرجال عند طرف القرية،
نظروا إلى الأفق وسكتوا.
أحدهم قال بعد لحظة:

– يبدو أن الغروب يبكي اليوم.

ولم يعرف أن اللون الذي يراه ليس لون المساء،
بل لون دمٍ لم يتب بعد.

مرّت الريح بين البيوت،
تطرق النوافذ المغلقة،
تدخل من شقوق الأبواب،
كأنها تبحث عن ضميرٍ لم يمت تمامًا.
قالت في همسها الذي لا يسمعه إلا من أراد أن يستيقظ:

«أنتم الذين باركتم،
فأنّى لكم أن تناموا؟»






الفصل السابع: النار والنور

في الزنزانة الصغيرة،
لم يكن هناك سوى سريرٍ حديديٍّ،
وجدارٍ تسرّب إليه صدأ الوقت،
ونافذةٍ ضيقةٍ تشبه عينًا نصف مغمضةٍ لا تريد أن ترى كل شيء.

جلس نوار على الأرض،
ظهره إلى الجدار،
ووجهه إلى الفراغ.
منذ ثلاثة أيام لم ينطق بكلمة.
كل الأصوات التي يسمعها كانت تأتي من داخله،
تُشبه حوارًا بين رجلين يسكنان الجسد نفسه:
أحدهما يسأله: «هل ندمت؟»
والآخر يهمس: «الندم لا يُعيد من مات، لكنه قد يُحيي من بقي.»

في الليل،
حين يهدأ كل شيء،
يُطلّ القمر من ثقب النافذة كوجهٍ رحيم.
كان يشعر أن ليلى تأتي مع ذلك الضوء،
تجلس قربه كما كانت تفعل في طفولته،
تضع يدها على كتفه وتقول:

– أخي… لا تبكِ، فالنور لا يكره النار، بل يعلّمها أن تتوهّج بلا أن تحرق.

في تلك اللحظة،
يُغمض عينيه،
يرى وجهها كما لم يره من قبل،
لا في لحظة القتل،
بل كما كانت في يومٍ بعيدٍ،
تركض خلف الفراشات في حقل الرمان،
تضحك بصوتٍ نقيٍّ كندى الفجر.

قال في نفسه:

– قتلتُها بيدي،
لكنهم قتلوا قلبي من قبلي.

في الصباح،
دخل عليه السجّان يحمل له الطعام.
رجلٌ عجوزٌ، في وجهه ملامح تعبٍ قديم.
نظر إلى نوار طويلاً ثم قال:

– سمّيت ابنتي ليلى… قبل عشرين سنة.
كانوا يقولون لي إن الاسم نحس،
لأن أول من حمله ماتت صغيرة.
لكني أحببت الاسم، لأن النور الذي فيه لا يموت.

ابتسم نوار بخجلٍ خافت.
قال:

– ليلى أيضًا لم تمت… هي فقط خرجت من جسدها إلى صدري.

جلس العجوز بجانبه،
قال بنبرةٍ تشبه اعترافًا:

– النار، يا ولدي، لا تُطفأ بالماء.
تُطفأ حين تجد النور في داخلها.
لا أحد يقدر على الغفران إن لم يتعلم أن يغفر لنفسه أولًا.

تلك الليلة كانت مختلفة.
جلس نوار يكتب على الحائط بكعب الملعقة:

«الجهل علّمني أن أقتل،
والحبّ علّمني أن أرى.
الآن فقط، بدأت أفهم معنى الله.»

كان يسمع من بعيد أذان الفجر،
لكن صوته بدا له هذه المرة مختلفًا.
لم يكن نداءً للصلاة،
بل نداءً للحياة.

رفع رأسه نحو السماء من ثقب النافذة،
وقال:

– يا رب،
إن كانت النار هي طريقي إليك،
فاجعلني شعلةً لا تحرق، بل تضيء.

في الصباح،
حين دخل السجّان،
رآه يبتسم للمرة الأولى منذ أيام.
قال له بدهشة:

– تبتسم يا نوار؟
فأجاب بهدوءٍ يشبه الغفران:
– لأن النور زارني الليلة،
وكان يشبه ليلى.



الفصل الثامن: رسائل ليلى

في صباحٍ رماديٍّ داخل الزنزانة،
دخل السجّان يحمل بين يديه صندوقًا خشبيًا صغيرًا،
قال لنوار وهو يضعه على الأرض:

– وجدوه في بيتكم، خلف جدارٍ مكسور في غرفتها.
قالوا إنك قد ترغب في رؤيته.

نظر نوار إلى الصندوق طويلاً،
كأنه يخشى أن يفتحه فينفتح قلبه معه.
كانت يداه ترتجفان،
لم لأنّها يدُ قاتل،
بل لأنّه خاف أن يجد فيها حياةً لم يعد يستحقّها.

فتح الغطاء ببطء،
فانبعثت رائحة الورق القديم والورد المجفف.
كان في الداخل دفترٌ أزرق وبعض الأوراق المطوية بعناية،
وعلى أول صفحةٍ كتب بخطها الدقيق:

«هذه رسائل لا إلى أحد،
كتبتها كي لا يضيع صوتي حين يصير الصمت قانونًا.»

قرأ الرسالة الأولى.
كانت تقول:

«إلى من سيقرأ بعدي،
لا أعرفك، لكني أؤمن أنك تشبهني قليلًا.
ستعرف أن الحكاية لم تبدأ بالدم،
بل بنظرةٍ ظنّوا أنها عيب،
وبكلمةٍ خافوا أن تكون حرية.
أنا لا أكرههم،
فقط أشفق عليهم لأنهم عاشوا في ظلمةٍ تشبه الليل الذي بلا قمر.
وإن كنتَ أنت من أنهى قصتي،
فاعلم أني سامحتك قبل أن ترفع يدك،
لأنك أيضًا ضحيةُ نفس الظلمة.»

توقف نوار.
عجز عن المتابعة للحظة،
ثم ضمّ الورقة إلى صدره.
دموعه نزلت بهدوء،
كأنها كانت تنتظر هذه اللحظة منذ زمنٍ بعيد.

فتح الرسالة الثانية.

«يا نوار،
كنتَ تقول إن الرجال لا يبكون.
كنتُ أضحك لأنك لم تعرف بعد أن الدموع أيضًا نور.
إن بكيتَ يومًا، فلا تخف،
فالله يحبّ القلوب التي ما زالت تشعر.»

ابتسم نوار لأول مرة وهو يبكي.
كأن كلماتها أعادته إلى طفولته حين كانت تمسح التراب عن وجهه بعد كل سقوطٍ في الحقل.

ثم فتح الرسالة الأخيرة.
كانت قصيرة، مكتوبة بخطٍ مرتجفٍ كأنه نبوءة:

«إن متُّ قبلك،
فازرع شجرة رمانٍ في الحقل،
لتتذكّر أن الدم يمكن أن يصير ثمرة.
وحين تُزهر،
سامح نفسك،
لأن الغفران هو ما يجعل الموت خفيفًا.»

أسند رأسه إلى الجدار،
والصندوق في حجره.
قال بصوتٍ خافتٍ يشبه الدعاء:

– يا ليلى… أنتِ لم تتركيني،
بل تركتِ لي طريقًا أعود به إلى نفسي.

من النافذة الضيقة،
دخل شعاعُ شمسٍ صغيرٌ لامس الورق،
فبدت الحروف كأنها تتوهّج من الداخل.
في تلك اللحظة،
فهم نوار أن النور لا يأتي من الخارج،
بل من صوتٍ يظلّ حيًّا حتى بعد الموت.

كتب على الحائط بجانب السرير:

«هي لم تمت،
بل صارت ضوءًا يُعلّم الظلمة كيف تُبصر.»

وفي الخارج،
كانت الريح تمرّ فوق الحقول التي زرع فيها الرمان ذات يوم،
وكأنها تهمس من بعيد:

– لقد بدأت المغفرة تنبت، يا نوار.





الفصل التاسع: بيت ليلى من جديد

خرج نوار من السجن في صباحٍ باردٍ وهادئ.
كانت السماء رماديةً تميل إلى البياض،
كأنها صفحةٌ تنتظر أن تُكتب عليها بدايةٌ جديدة.
على البوابة، لم يكن في استقباله أحد،
فقد مات الأب بعد أشهرٍ من الحادثة،
والأمّ رحلت في صمتٍ يشبه الرضا،
وكأنها أرادت أن تفسح له الطريق نحو التوبة بلا شهودٍ يعاتبونه.

وقف نوار لحظةً أمام البوابة الحديدية.
مدّ يده إلى صدره،
كأنه يفتش عن القلب الذي دفنه منذ عامين.
ثم سار ببطءٍ نحو القرية.

كانت العبيل كما تركها:
الأزقة الضيقة نفسها،
البيوت نفسها،
لكن الوجوه تغيّرت.
كلّ من يراه يشيح بنظره.
البعض يهمس، والبعض يكتفي بالصمت الذي يشبه خوف المرآة من صورتها.

حين وصل إلى بيت ليلى،
وقف طويلًا أمام الباب الخشبيّ.
كان نصفه مكسورًا،
والطلاء الأبيض الذي كانت تمسحه بيديها تقشّر حتى بدا الجدار كأنه جرحٌ قديم.
مدّ يده ولمس الباب،
فشعر بدفءٍ غريبٍ يتسلل من الداخل،
كأن البيت تذكّره ولم يغضب منه.

دخل.
كانت الغرفة ساكنةً إلا من الغبار.
الشجرة في الفناء ما زالت هناك،
شجرة الرمان التي كانت ترسمها ليلى،
لكنها صارت أكثر امتلاءً بالحياة.
اقترب منها، لمس أغصانها برفق،
وسمع في داخله صوتها القديم يقول:

– وعدتني أن تزرع رمانةً جديدة إن متُّ قبلك… فها أنا أنتظر.

ابتسم.
ثم أخرج من جيبه بضع بذورٍ كان يحتفظ بها منذ أن قرأ رسالتها الأخيرة.
ركع على الأرض،
حفر بيديه التراب وزرعها واحدةً تلو الأخرى،
وفي كل حفرةٍ همس بكلمة:
«غفران».

حين انتهى،
جلس بجانب الشجرة،
نظر إلى البيت،
وقال لنفسه:

– لن يكون بيت موتٍ بعد اليوم.
سيكون بيت ليلى… بيت النور.

وبدأ العمل.
رمّم الجدران،
أزال الأبواب القديمة،
فتح النوافذ التي أُغلقت خوفًا من العيون،
وكتب على الحائط الأبيض الجديد بخطٍّ كبيرٍ وواثق:

«بيت ليلى – للعلم والنور»

شيئًا فشيئًا،
بدأ الناس يمرّون أمام البيت،
ينظرون إلى الاسم المعلّق فوق الباب.
في البداية كانوا يهمسون،
ثم توقّفوا عن الكلام،
ثم بدأ بعضهم يدخل.

في اليوم الثالث،
جاءت فتاةٌ صغيرة تحمل كتابًا في يدها،
وقالت بخجلٍ:

– عمّو نوار، ممكن أتعلم أقرأ؟
تردّد قليلًا، ثم ابتسم وقال:
– ادخلي يا ابنتي،
هنا لا يُمنع النور.

منذ ذلك اليوم،
صار البيت يمتلئ كل صباحٍ بأصوات البنات الصغيرات،
يقرأن، يكتبن، ويضحكن.
وفي المساء،
يجلس نوار في الفناء،
يستمع إلى أصواتهنّ كأنها موسيقى تُنظّف روحه.

مرّت شهور،
وكبرت شجرة الرمان الجديدة،
وأزهرت أول ثمرةٍ حمراء.
أخذها نوار بين يديه،
رفعها نحو السماء وقال:

– ها هي ثمرة الدم، يا ليلى…
صارت حياةً.

في تلك اللحظة،
هبت ريحٌ دافئةٌ عبر الحقل،
حرّكت أوراق الشجرة برفق،
وكان في الهواء صوتٌ يشبه الهمس:

– سامحتك، يا نوار…
والآن اغفر لنفسك.

ابتسم نوار،
وأغمض عينيه.
كانت الشمس تغرب ببطء،
لكن الضوء كان يملأ المكان،
كأن النهار يرفض أن ينتهي في بيتٍ تعلّم أخيرًا أن لا يخاف النور.
الفصل العاشر: هوامش الغفران

1️⃣
الزمن لا يشفى بالوقت،
بل بالاعتراف.
كل ما نحاول نسيانه ينام فينا،
وحين نغفر، نستيقظ نحن لا الماضي.

2️⃣
قالت ليلى:

"الدم لا يُطهّر الأرض،
بل يُثقلها."
لكن أحدًا لم يسمعها حين كانت تتكلم،
فصارت الأرض هي التي تروي حكايتها نيابةً عنها.

3️⃣
الغفران ليس ضعفًا،
إنه الشجاعة التي تجرؤ على النظر في المرآة
دون أن تكسرها.

4️⃣
حين غفر نوار لنفسه،
لم ينسَ ما فعل،
لكنه توقّف عن قتله كل ليلةٍ من جديد.
وهنا فقط، عاد الله إلى قلبه.

5️⃣
في بيت ليلى اليوم تُقرأ الحروف الأولى
التي مُنعَت من النطق يومًا.
الأطفال يضحكون،
والنور يدخل من النوافذ دون إذن.
لم تعد البيوت تخاف الضوء،
صار الضوء هو البيت.

6️⃣
يقول الشيخ العجوز الذي كان يبارك الصمت:

"كنتُ أظنّ أن الحلال ما لا يُخيف الناس،
فاكتشفتُ أن الحرام هو ما يُخيف الله من قلوبنا."

7️⃣
الأم، في قبرها،
سمعت بنات القرية يتهجّأن اسم ليلى.
ابتسمت،
وقالت لملائكتها:

"ها قد عادت ابنتي إلى الحياة،
لكن في ألف صوتٍ مختلف."

8️⃣
القرية تغيّرت ببطءٍ كما تتغيّر الفصول.
لم تعد النساء يتهامسن عن العيب،
بل عن الحلم.
ولم يعد الرجال يفاخرون بالصمت،
بل بقدرتهم على الإصغاء.

9️⃣
على جدار بيت ليلى لوحة صغيرة،
كُتب عليها:

«القتل فخرًا — بيت ليلى»
وتحتها بخطٍّ دقيق:
«رواية عن النار التي أنجبت النور.»

10️⃣
آخر ما كُتب في دفتر ليلى:

«سيأتي يومٌ لا يقال فيه: ماتت.
بل قيلت الحقيقة بصوتٍ أنثويٍّ لا يُسكَت.»

وفي ذلك اليوم،
حين تميل الشمس إلى الغروب،
تمرّ الريح بين شجر الرمان،
تحمل رائحةَ الغفران إلى كل بيتٍ يخاف النور.

🕊️ النهاية
ليست موتًا،
بل عودةُ النور إلى مكانه الأول:
القلب.



#رانية_مرجية (هاشتاغ)       Rania_Marjieh#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رولا.. الرواية التي تنسج الحلم الفلسطيني بخيوط الوجع والكرام ...
- قراءة في قصة -الصدق أحلى يا أصحابي- للدكتورة سيما صيرفي
- بعد موت أمي
- ‏قراءة الأدبية لرواية -الذين باركوا القتل- ‏ للكاتبة رانية م ...
- قراءة أدبية (( ملحمة الرماد والنبض) ) لرانية فؤاد مرجية بقلم ...
- الذين باركوا القتل – غلاف فارغ
- تنهيدة حرية: حين تكتب المرأة وجعها بالحبر والمقاومة
- «نبضات محرّمة»: حين يكتب القلب ما يحرّمه المجتمع
- تنهيدة حرية… رواية تُعيد كتابة الوجع الفلسطيني بأنفاس النساء
- وصيّة الأرض قبل القيامة
- سِفْرُ الكَلِمَةِ الأُولَى (أنشودة النور الكوني)
- أمهات الأرض
- ليما: التي تتحدث مع الصمت
- 🕯️ ظلّ الممر الأبيض
- رئتان تتنفّسان الندم
- حين توقّف الطريق، بدأوا بالوصول
- قصيدة: أقرأ الأرض كي أنجو
- قراءة أدبية في قصيدة -أقرأ الأرض كي أنجو- - للشاعرة رانية مر ...
- .حين نغادر كي نعود أنقى
- النقد كوعيٍ حيّ: قراءة الإنسان في مرايا الكلمة


المزيد.....




- فيلم -Scream 7- ومسلسل -Stranger Things 5- يعدان بجرعة مضاعف ...
- طبيبة نرويجية: ما شاهدته في غزة أفظع من أفلام الرعب
- -ذي إيكونومست- تفسر -وصفة- فنلندا لبناء أمة مستعدة لقتال بوت ...
- لن تتوقع الإجابة.. تفسير صادم من شركة أمازون عن سبب تسريح نح ...
- حزب الوحدة ينعى الكاتب والشاعر اسكندر جبران حبش
- مسلسلات وأفلام -سطت-على مجوهرات متحف اللوفر..قبل اللصوص
- كيف أصبح الهالوين جزءًا من الثقافة السويسرية؟
- كيف يُستخدم علم النفس -الاحتيالي- كسلاح لقمع الإنسان وتبرير ...
- لندن تحتضن معرضاً لكنوز السعودية البصرية لعام 1938.. وأحفاد ...
- -يوميات بوت اتربى في مصر- لمحمد جلال مصطفى... كيف يرانا الذك ...


المزيد.....

- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رانية مرجية - الذين باركوا القتل رواية رانية مرجية 2025