حسين سالم مرجين
(Hussein Salem Mrgin)
الحوار المتمدن-العدد: 8511 - 2025 / 10 / 30 - 00:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
شهد علم الاجتماع خلال العقود الماضية تحولات كبرى في مجالاته واتجاهاته البحثية. يُعتبر علم الاجتماع علمًا متنوعًا يتضمن مجموعة واسعة من المواضيع والاتجاهات، مما يجعله غير متجانس ويضم العديد من الفروع والمجالات المختلفة.
ومع ذلك، فرض التحول الرقمي تحديًا جديدًا لا يتعلق فقط بتنوع موضوعات البحث، بل بمنهجية الكتابة السوسيولوجية نفسها. أصبحت بيئة إنتاج المعرفة اليوم تتطلب سرعة في الوصول إلى المعلومات، ووضوحًا في الأفكار، وترابطًا بين النظرية والواقع، بعيدًا عن التكرار والإسهاب في استعراض الأدبيات والنظريات، وهو ما لا يزال سائداً في النمط الأكاديمي الكلاسيكي.
تُفرض على الكتابة السوسيولوجية مجموعة من القيود الشكلية، مثل السرد الطويل للدراسات السابقة، وتفصيل النظريات المستخدمة، وبناء حجج متدرجة عبر فصول مطوّلة. كما يُركز على عدد الصفحات والكلمات، وحجم المراجع. في كثير من الأحيان، تتحول الكتابة إلى تمرين شكلي في الالتزام بالمنهج، بدلاً من كونها أداة للتفكير والإبداع.
ورغم أن الانضباط العلمي ضروري، إلا أن الإفراط في التشدد الشكلي قد يؤدي إلى خنق الحيوية الفكرية، مما يجعل الباحث أسير "القالب" بدلاً من أن يكون منتجًا للمضمون.
وفي هذا الصدد، يمكن طرح السؤال التالي: هل معيار الجودة في البحث في علم الاجتماع هو عدد الصفحات والمراجع، أم قدرته على إحداث أثر معرفي واجتماعي؟ أعتقد أن التحولات الرقمية أصبحت تفرض الانتقال إلى مفهوم الأثر بدلًا من مفهوم الكم.
إن توسيع مفهوم الوعي الجمعي الرقمي يشير إلى أن الوعي الجمعي في العصر الرقمي لم يعد يتشكل عبر المؤسسات الكلاسيكية مثل المدرسة والجامعة والإعلام الرسمي، بل عبر المحتوى السريع والمتداول يوميًا. وبالتالي، يصبح دور الباحث السوسيولوجي إعادة توجيه هذا الوعي من خلال كتابة فعّالة ومبسطة ومؤثرة.
في المقابل، أتاحت المنصات الرقمية — بما تمتاز به من حرية في الطرح والاختصار والتجريب — فضاءً واسعًا لتداول الأفكار والتحليلات دون التقيد بالانضباط العلمي. لكن هذه الحرية، رغم إيجابياتها، فتحت المجال أيضًا أمام سطحية معرفية وتوسع في "التفاهة الرقمية"، إذ أصبح أي فرد قادرًا على تقديم "تحليل" أو "رأي" دون بنية معرفية أو منطق علمي.
إن التحولات العالمية أبرزت في المجتمع العلمي أن القيمة البحثية المضافة اليوم تُقاس بالوضوح، والإضافة الفكرية، وقابلية التوظيف، أكثر من الطول أو عدد المراجع والكلمات. كما أن التحول الرقمي أعاد صياغة الاقتصاد المعرفي للكتابة السوسيولوجية، حيث أصبحت القيمة البحثية لا تُقاس بطول البحث أو عدد مصادره، بل بقدرته على التأثير الفوري في وعي القارئ. بالتالي يساهم هذا التحول في بناء "مناعة معرفية" ضد السطحية والتكرار، من خلال تقديم جرعات معرفية مركزة وفعّالة تربط بين النظرية والواقع دون ترهل أو إطناب.
لذلك، لم يعد التحول المنهجي في الكتابة السوسيولوجية ترفًا، بل أصبح ضرورة مجتمعية لإعادة ربط المعرفة بالواقع. وهذا الأمر يستدعي أهمية مراجعة الإبستيمولوجيا والميثودولوجيا في علم الاجتماع لتواكب المرحلة الرقمية، من خلال تشجيع المقالات القصيرة، والدراسات الموجزة، والتقارير التفاعلية التي تصل بسرعة إلى المجتمع الأكاديمي وصناع القرار.
أي الانتقال من البحوث والمقالات المطوّلة التي لا تُقرأ إلى مقالات وبحوث مركزة مؤثرة تشارك فعليًا في توجيه الوعي الجمعي ومواجهة "فيروسات التفاهة". إن هذا التحول لا يعني التخلي عن الانضباط العلمي، بل إعادة تكييفه ليصبح أكثر مرونة وإنتاجية؛ فبدل الاكتفاء بالبحث الذي لا يُقرأ أو المقال الذي يُنسى بعد نشره، هناك حاجة إلى تطوير نموذج جديد للكتابة السوسيولوجية يكون عميقًا في مضمونه، بسيطًا في لغته، واضحًا في هدفه، ومتاحًا في انتشاره.
وهنا تبرز مقارنة معرفية: إن السياق البحثي السوسيولوجي في العصر الرقمي لا يزال يعتمد على الإبستمولوجيا (الأسس المعرفية الأساسية التي تحدد كيفية إنتاج وتبرير المعرفة) والميثودولوجيا (الأدوات والإجراءات البحثية الملموسة لجمع وتحليل البيانات) التقليدية، في حين أن التحول الرقمي أبرز مجالات وموضوعات جديدة. وهنا نسارع إلى طرح سؤال مهم: هل يمكن إصلاح هاتف حديث بأدوات تصليح هاتف قديم؟
أعتقد أن علم الاجتماع لا يستطيع التعامل مع الظواهر الرقمية الجديدة بنفس الإبستمولوجيا والميثودولوجيا التقليدية. فالمجالات والموضوعات تغيرت وتنوعت: تمامًا مثلما تطور الهاتف من جهاز اتصال بسيط إلى جهاز ذكي متعدد الوظائف، فإن المجتمع تطور من مجتمع تقليدي إلى مجتمع رقمي، تتنوع فيه العلاقات والتفاعلات والمعارف. مثلما تحتاج الهواتف الجديدة إلى أدوات متخصصة لإصلاحها، كذلك الظواهر الرقمية تحتاج إلى أدوات منهجية جديدة لفهمها.
هذا لا يعني أن الإبستمولوجيا والميثودولوجيا التقليدية عفا عليها الزمن تمامًا، بل يعني ضرورة تطويرها وتكييفها. وهذا يستدعي من الباحثين في علم الاجتماع إعادة التفكير في طبيعة المعرفة في العصر الرقمي، فلا يمكن دراسة مجتمع رقمي معقد ومعتمد على التكنولوجيا بأسس وأدوات لم تصمم لدراسة هذا الواقع الجديد.
وهذا يعني كذلك أن هناك تحولات في جمهور الكتابة السوسيولوجية؛ فلم تعد الكتابة السوسيولوجية موجّهة حصرًا إلى الأكاديميين. إن الفضاء الرقمي فتح المجال أمام القرّاء العموميين المهتمين بالظواهر الاجتماعية، وكذلك صُنّاع السياسات والفاعلين المدنيين، فضلاً عن الجمهور الافتراضي الذي يتفاعل مع النتائج عبر المنصات.
هذه التعددية تفرض أن تكون الكتابة أكثر وضوحًا وتكثيفًا، بحيث تنقل جوهر الأفكار المعقّدة بلغة مبسّطة ودقيقة، دون إفراط في المصطلحات المتخصصة، ودون فقدان العمق التحليلي. كما يتطلب ذلك استخدام الوسائط المتعددة مثل الجداول والرسوم والروابط، بالإضافة إلى دمج التحليل النظري بالبيانات الرقمية، والتحليل الشبكي، والذكاء الاصطناعي الاجتماعي.
لهذا، أعتقد أن الوقت قد حان لظهور ما يمكن تسميته بـ"المنهج الرقمي في البحث العلمي"؛ منهج يحافظ على المنطق العلمي والدقة المعرفية، لكنّه يُقدّم المعرفة بطريقة سريعة الهضم، سهلة القراءة، واضحة البنية، ومنطقية في عرضها. إن التحول المنهجي المقترح لا يهدف إلى التبسيط المخلّ، بل إلى اقتصاد معرفي جديد يوازن بين العمق والسرعة، وبين المنهج والمرونة.
في هذا السياق، تصبح المقالة أو الدراسة القصيرة وحدة معرفية فعّالة لا تختصر الفكرة فحسب، بل تُكثّفها، وتجعلها قابلة للانتشار والتفاعل ضمن فضاء رقمي لا يعترف بالنصوص الطويلة إلا نادرًا. ومثلما أحدثت الموجات الرقمية ثورات في النشر والتواصل والتعليم، فإن المنهج الرقمي في الكتابة السوسيولوجية قد يكون بمثابة "سونامي معرفي" يعيد تشكيل طريقة التفكير والإنتاج والتقييم في البحث العلمي. فهو يتيح تقييمًا أسرع، ونشرًا أوسع، واستيعابًا أكثر سلاسة للمعرفة، ويجنّب الباحث والقارئ معًا ما يمكن تسميته "بـالتخمة الفكرية" الناتجة عن النصوص الطويلة المكرّرة التي تفقد بريقها في بيئة رقمية مفتوحة ومتغيرة باستمرار.
وهذا الأمر يدفعنا إلى طرح مقاربة إعادة بناء جديدة للكتابة السوسيولوجية تكون مختصرة وفعالة تتكون من خمسة عناصر أساسية:
1. مقدمة مركّزة: توضح الظاهرة والسؤال السوسيولوجي بدقة، دون إطالة.
2. إطار مفاهيمي محدود: يقدّم المفهوم الأساسي فقط، دون تفصيل غير ضروري.
3. توظيف انتقائي للدراسات السابقة: يُستخدم كدعم أو نفي للحجة، لا كعرض شامل للأدبيات.
4. استخدام النظرية كعدسة تفسيرية: لا كمرجع تاريخي مطوّل، بل كأداة لتحليل الواقع.
5. نتائج موجزة وتوصيات محددة: يمكن قياس أثرها أو تطبيقها عمليًا.
هذه المقاربة لا تُقلّل من القيمة العلمية، بل تُعيد ترتيبها بما يتلاءم مع الزمن الرقمي ومقتضيات النشر السريع. يصبح الباحث السوسيولوجي في هذا السياق ليس مجرد وثّاق للظواهر، بل محرّر معرفي رقمي ينتقي، ويولّف، ويعيد تقديم الفكرة في شكل مكثّف وسهل التداول.
لذلك، يرتبط مستقبل علم الاجتماع العربي بقدرته على تحويل منهجية الكتابة من السرد الأكاديمي الطويل إلى الخطاب التحليلي المركّز والمفتوح رقميًا. بهذه المنهجية الجديدة، يمكن إحداث تحول جوهري في مسار البحث والكتابة السوسيولوجية لتتواءم مع التحولات الرقمية الراهنة. إن المقاربة المقترحة تسعى إلى إنتاج معرفة مركّزة، واضحة، محددة، وقابلة للتطبيق، من خلال الانتقال من "التكديس المعرفي" إلى "الاختزال المعرفي الفعّال". هكذا، تكون التوصيات الناتجة عملية، سهلة القراءة والفهم، دون إرهاق القارئ بتفاصيل مطوّلة أو إثارة "تخمة فكرية" كما في البحوث والدراسات الأكاديمية التقليدية.
هذه المقاربة ليست مجرد تبسيط للمعرفة، بل إعادة تنظيم للعقل السوسيولوجي ليتفاعل مع البيئة الرقمية بفاعلية أكبر، عبر تقديم "وصفات فكرية" دقيقة وسهلة الاستخدام تسهم في معالجة ظواهر السطحية والتفاهة والتكرار التي تنتشر في فضاءات الاتصال الجديدة.
فالمقالات السوسيولوجية القصيرة والمركّزة ستكون كأداة تنوير رقمي؛ فمثلاً، يمكن أن تؤدي دورًا شبيهًا بالتطعيم المعرفي ضد "فيروسات التفاهة" التي تسللت إلى الوعي الجمعي عبر وسائل التواصل والتحول الرقمي. إذ تزرع هذه المقالات مضادات فكرية تحفّز التفكير النقدي، وتعيد للعقل الاجتماعي قدرته على التحليل والفهم العميق. وهذا يعني، ببساطة، مقاومة السطحية الرقمية بالمعرفة المكثفة، لتكون وسيلة لتدريب القارئ على المناعة الفكرية، كأنها "جرعات معرفية منتظمة" تحافظ على حيوية التفكير النقدي.
كما أود القول إن ما تم طرحه من مقاربة قد تكون صحيحة أو قابلة للنقاش، لكنني على قناعة بأن التحول نحو منهجية كتابة جديدة في علم الاجتماع — كما تفرضه التحولات الرقمية — سيكون له أثر حاسم في إعادة تعريف وظيفة البحث العلمي ذاته. فالكتابة السوسيولوجية ليست مجرد ممارسة أكاديمية مغلقة، بل هي أداة لبناء الوعي الجمعي والمشاركة في رسم السياسات المجتمعية. لقد فقد جزء كبير من الإنتاج المعرفي العربي معناه الحقيقي حين انحصر في أروقة الجامعات وأرفف المكتبات، أو حين تحوّل إلى شرط للترقيات الأكاديمية أكثر من كونه وسيلة لفهم المجتمع وتغييره.
إن هذه المقاربة الجديدة في الكتابة تسعى لإعادة المعنى إلى البحث العلمي، لتحوله من "مرجع سابق لمقال جديد" إلى قوة فكرية منتجة للمعنى والفعل؛ معرفة حية تتفاعل مع الواقع، وتؤثر في الوعي، وتُسهم في صناعة القرار، بدل أن تبقى حبيسة الأرشفة الأكاديمية.
#حسين_سالم_مرجين (هاشتاغ)
Hussein_Salem__Mrgin#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟