حسين سالم مرجين
(Hussein Salem Mrgin)
الحوار المتمدن-العدد: 8500 - 2025 / 10 / 19 - 02:47
المحور:
سيرة ذاتية
لطالما كانت الحياة مدرسة، وكنت أتابع مراحلها الصعبة. لكل جيل من العائلة قصته التي تستحق أن تُروى. في أحد الأيام خلال دراستي الجامعية، زارني زميل دراسة. وكما جرت العادة، كانت جدتي محور القصة، حيث أرادت التعرف على أصدقائي واكتشاف معادنهم.
تحدث صديقي عن رغبته في الكتابة عن والده، الذي كان كاتبًا وشاعرًا توفي عندما كان زميلي طفلاً صغيرًا، لذا لم يحتك به بشكل مباشر. هنا تدخلت جدتي، القريبة مني كحبل الوريد، وطلبت مني أن أكتب عنها، فهي أهم من ذلك الشاعر أو الكاتب.
توقفت قليلًا في حيرة من أمري، كيف أبدأ ومن أين أبدأ؟ فقد كانت جدتي هي من رعتني ودعمتني، وكنا أنا وإخوتي نعتبرها بمثابة أم لنا، رغم وجود والدتي التي أحبها وأعتز بها. علاقة الابن بجدته لها عمق خاص، فهي تمثل الهوية والتاريخ. قالت لي جدتي: "عندما تكتب عني، تحدث عن الجهاد والمعاناة والسهر ورحلة الحياة بين الجبال والصحراء." لا تزال كلماتها تلك عالقة في ذهني، فبعض الكلمات قد تؤلم إن ظلت محبوسة، والعديد من المشاعر تخنق إن ظلت دفينة.
لقد كانت حياتها مليئة بالتضحيات والمعاناة، وتجربتها تعكس قوة الروح الإنسانية في مواجهة الظروف القاسية. الكتابة عنها ليست مجرد وفاء لشخصها، بل محاولة لتوثيق قيم إنسانية ووطنية تلهم الأجيال القادمة، خاصة النساء.
قالت لي جدتي: "عندما تكتب عني، تحدث عن الجهاد والمعاناة والسهر ورحلة الحياة بين الجبال والصحراء." ومنذ ثلاثين عامًا، لا زالت كلماتها تتردد في ذهني: "أريدك أن تكتب عني." ربما جاء الوقت الآن، بعد هذه السنوات، لأكتب عن جدتي العزيزة. أعتقد أن تجربتي في الكتابة الآن أصبحت أفضل. لذا سأفرد صفحات عن جدتي، فهي امرأة من نوع خاص، أفتخر بها.
استطاعت جدتي أن تفرض شخصيتها في ظروف بيئية واجتماعية صعبة ومعقدة. رغم أنها لم تكن متعلمة، إلا أنها كانت مثقفة وواعية ومدركة للواقع وتحدياته، تضع الخطط والحلول. جدتي هي الابنة الصغرى للشيخ خليفة أحمد منصور، أحد شيوخ الرحيبات في الجبل الغربي بليبيا. عاشت تجربة فريدة، فقد تربت في بيئة جبلية قاسية، وتأثرت بالقيم النبيلة لشيوخ المنطقة، وشاركت منذ صغرها في مواقف وطنية بطولية. هذه الحكاية ليست مجرد سرد شخصي، بل شهادة على صمود امرأة في وجه التحديات الاجتماعية. حيث تُظهر تضحياتها في مواجهة الظروف القاسية والأعباء العائلية، وتجسد إرادتها القوية في الحفاظ على قيم العائلة والمجتمع.
ولدت جدتي في بيئة جبلية صعبة، حيث تربت على القيم الصارمة للالتزام والشجاعة. تأثرت بشخصة والدها القوية منذ نعومة أظافرها. بعد مرض والدها، أصبحت هي الأقرب إليه، وورثت منه القدرة على مواجهة المشاكل واتخاذ القرارات الصائبة، كما كانت تسدي له الرعاية في مرضه. شاركت جدتي، وهي لا تزال طفلة، في قافلة المجاهدين أثناء الرحلة القسرية، بسبب مواقف والدها البطولية ضد الاحتلال الإيطالي، فاضطرت العائلة إلى الترحال والهجرة القسرية. حيث واجهت مخاطر الصحراء والتضاريس الصعبة والتهديدات المحتملة من قوات الاحتلال. خلال هذه الرحلة، كان معهم أخوها منصور، أحد المجاهدين المشاركين في معركة الوخيمة، وقد أصيب بجروح خطيرة، مما أظهر حجم التضحيات التي صاحبت تلك المرحلة.
لقد كانت جدتي تتلقى النصائح والإرشادات بشكل مباشر من والدها. منذ الصغر وحتى زواجها من جدي تشربت جدتي قيم الشجاعة والصبر والعدل، وشاركت في إدارة شؤون العائلة، خصوصًا بعد وفاة وجدي في مرحلة مبكرة من عمرها الذي تركها مسؤولة متابعة شؤون الأسرة. كانت تذهب إلى والدها تأخذ منه النصحية إذ كانت تعتمد عليه في القرارات المصيرية، وتستفيد من حكمته في مواجهة تحديات الحياة.
هذه التجربة غرست في شخصيتها روح الصمود والاعتماد على النفس، إضافة إلى القدرة على التعامل مع المواقف الصعبة بشجاعة ووعي. بعد وفاة والدها، أصبحت جدتي حاملة لقيم المشيخة والشجاعة، متشربة بتوجيهاته ونصائحه التي كانت مرشداً لها في حياتها اليومية. كانت مسؤولة عن رعايته أثناء مرضه، مقدمة له الدعم المعنوي والجسدي، مستمعةً لحكمه وخبراته التي ساهمت في صقل شخصيتها.
تعلمت منه كيفية مواجهة المشكلات، وحل النزاعات، وموازنة المسؤوليات العائلية والاجتماعية، مما جعلها رمزًا للقدرة على الصمود أمام المصاعب. لم تكن جدتي مجرد شاهدة على تاريخ والدها ومجتمعه، بل كانت مشاركة فعالة في حل العديد من التحديات الكبيرة، خصوصًا في بيئة تتسم بالفقر المدقع.
وهنا أتوقف لأستعرض بعض المواقف التي عشتها مع جدتي وكيف كانت تعالج الأمور بحكمة. كانت دائمًا ملاذًا للأقارب الذين يلجؤون إليها لطلب الرأي والمشورة، حتى في تفاصيل حياتهم اليومية. كانت تستقبل طلباتهم بإنصات، سواء كان الأمر يتعلق بشخص يتقدم للزواج، أو بمشكلة مع عمٍ لا يكلمه ابن أخيها، أو خلاف حول الأراضي.
كانت لديها القدرة على معالجة تلك المشاكل بحنكة، لكنها لا تظهر قدرتها قبل أن تتكامل قوتها، سواء من الناحية العقلية أو العاطفية. فهي تمتلك عمقًا في التفكير وفهمًا عميقًا للناس، مما يمنحها القوة اللازمة لمواجهة التحديات بثقة وثبات.
على سبيل المثال، كانت تذهب لتسوية الأمور بين أخواتها، رغم أنها كانت الأصغر سنًا. كانت تعظهم وتنصحهم وتحذرهم، تذكرهم بالعواقب وتحثهم على قيم العائلة، وكان الجميع يستمعون لها باهتمام.
ذات مرة، حدثت مشكلة مع أحد إخوتها الذي كان يمتلك عددًا من الماشية. في غياب الراعي، دخلت تلك الماشية إلى أرض أخيها الآخر، مما أدى إلى فساد الزرع والأشجار. جاء أبناء الأخ إلى جدتي يشكون لها تلك الواقعة، فذهبت معهم لتفقد الأضرار.
بعد ذلك، توجهت إلى أخيها، وبدأت تنادي عليه من خارج البيت. عندما خرج، طلب منها الدخول، لكنها رفضت. شرحت له ما حدث وطالبت منه معالجة الموضوع، مؤكدة أنها لن تدخل بيتها ما لم يُبادر هو بحل المشكلة. ولم يكن منه إلا أن وعدها بأنه سيتولى الأمر، شريطة أن تدخل إلى البيت.
وفي حين كان من يُرفض التنازل والخضوع للقيم والعلاقات العائلية، كانت جدتي تقوم بمقاطعته حتى يرجع. وهنا تتذكر قول جرير: "إذا غضبت عليك بنو تميم... حسبت الناس كلهم غضابا." هكذا كانت جدتي في هذا البيت.
كانت لجدتي جدول للزيارات، حيث كانت تهتم بزيارة المرضى من الأقارب لتخفيف آلامهم. حتى عندما دخل أحد أبناء العائلة الكلية العسكرية، كانت تذهب للاطمئنان عليه. أتذكر زيارتها لابن أخيها في الكلية العسكرية، حيث أحضرت له الطعام، وقدمته له خفية بعيدًا عن أعين الحرس.
كان اهتمام جدتي بنا من نوع خاص، لأننا كنا أبناء ابنها الوحيد، والدنا حفظه الله ورعاه. كانت تطالبنا بالالتزام بقواعد صارمة، مثل عدم السهر، واختيار الأصدقاء بعناية، والتأكد من صفاتهم. كما كانت تشجعنا على الدراسة بشكل متواصل، حتى إنها كانت تذهب إلى المدرسة للسؤال عن أحوالنا أو لجلب الإفطار في حال نسي أحد من إخوتي ذلك. عندما كنت أتحدث معها لم تكن ترضى بالقليل كانت تريد كل التفاصيل، رغبة منها في تقديم الرأي والمشورة وتعديل المواقف والسلوكيات. كانت تمارس دورها كمرأة متمكنة في أداء مهامها، تستمع، وتشاور، وتتحاور، ثم تتخذ قرارها لوحدها بعيدًا عن العواطف أو الضغوطات. عندما حصلت على الماجستير، سألتني: "هل انتهت مرحلة الدراسة؟" وكانت تعتقد أن الماجستير هو نهاية الدراسات العليا. فأخبرتها أنه لا زال هناك مرحلة أخرى، وهي الدكتوراه. لكن الموت لم يمنحها فرصة الاحتفاء بي، لذا عندما حصلت على الدكتوراه، كتبت مقدمة إهداء إلى روحها الطيبة.
ما جعلني أكتب هذه الوقائع اليوم هو الدين الذي في عنقي تجاه جدتي، بالإضافة إلى أننا في ظل هذه التحديات والمجتمع الرقمي الذي أصبح بلا قيود، بحاجة إلى نساء مثل جدتي في المواقف والرأي، وتحمل المسؤوليات العائلية، وإدارة شؤون الأسرة، والحفاظ على القيم. كما أننا بحاجة إلى كيفية مواجهة تحديات الحياة اليومية في مجتمع متغير، والقدوة في الصبر والعدل، والمحافظة على التراث القيمي والاجتماعي. وكما يقال: "من وعى أخبار من قد مضى، أضاف أعمارًا إلى عمره."
جدتي ليست مجرد شخصية عائلية؛ هي رمز للتاريخ والبطولة والصمود. تمثل حياتها مزيجًا من المعاناة والتضحية والحكمة. كتابة هذه القصة ليست مجرد وفاء لشخصها، بل هي محاولة لتوثيق قيم إنسانية ووطنية تلهم الأجيال القادمة.
#حسين_سالم_مرجين (هاشتاغ)
Hussein_Salem__Mrgin#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟