حسين سالم مرجين
(Hussein Salem Mrgin)
الحوار المتمدن-العدد: 8460 - 2025 / 9 / 9 - 21:12
المحور:
القضية الفلسطينية
من أراد أن يكتب عن فلسطين عليه أن يعيش فيها. ومع ذلك، يمكنني أن أجد العذر هذه المرة، لأن فلسطين لا تزال جزءًا من تكويني الفكري. كان مشروعي التخرج من الجامعة عن القضية الفلسطينية، ورسالة الماجستير كانت أيضًا عن القضية الفلسطينية، وكذلك أطروحة الدكتوراه. لا أزال أتذكر كيف فتحت لي منظمة التحرير الفلسطينية وثائقها في تونس ومنحتني عشرات الكتب عن القضية الفلسطينية. بعد الانتهاء من رسالتي للماجستير، قمت بإهدائها إلى الرئيس ياسر عرفات.
شملت تجربتي عددًا من اللقاءات والمقابلات مع القيادات الفلسطينية، التي اجتمعت بها بمعية الراحل خليل الزبن، مسؤول ملف حقوق الإنسان في مكتب الرئيس ياسر عرفات. لذا، شكل كل ذلك علامة فارقة في حياتي، مما يجعل القضية الفلسطينية جوهرية بداخلي، رغم ما تتعرض له ليبيا من حروب وصراعات وانقسامات.
هذا التراكم يدفعني بالضرورة إلى الكتابة عن "طوفان الأقصى"، خاصة بعد تعالي بعض أصوات الخيبة والخذلان والهزيمة التي تُبرز خسائر ومرارة الشعب الفلسطيني، خصوصًا في غزة بعد عملية الطوفان. بالتالي، رأيت من المهم توجيه مقالة إلى تلك العقول التي وصمت حركة المقاومة بحركة العصابات أو التمرد.
في الحقيقة، لا تمر مرحلة من مراحل تاريخ المقاومة الفلسطينية بعظمتها وانتكاساتها إلا وتظهر مفاهيم جديدة تدرجها المقاومة في المعاجم الدولية. يتم اختيار هذه المفاهيم بدقة ووعي، ومن الوهم أن نعتقد بأنها تُختار بشكل عشوائي؛ إنما يتم اختيارها بعناية.
من بين هذه المفاهيم، يبرز مصطلح "الطوفان"، الذي يمثل استراتيجية عسكرية اعتمدتها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي. أطلقت المقاومة على هذه الاستراتيجية اسم "طوفان الأقصى"، وهو اسم يحمل دلالات رمزية وسياسية واجتماعية ودينية وإعلامية عميقة.
في هذه المقالة، سنعمل على تحليل وشرح الأبعاد المعرفية والسوسيولوجية لهذا المفهوم، وتحليل المشهد الفلسطيني في ظل عملية "طوفان الأقصى لفهم بعض الديناميات المعقدة التي كشفتها هذه العملية.
في عام 1987، انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، تلتها الانتفاضة الثانية في عام 2000، وذلك في الأراضي المحتلة. عكست هذه الانتفاضات روح الغضب المجتمعي في الداخل الفلسطيني تجاه الاحتلال الإسرائيلي وتجاهل العالم العربي للقضية الفلسطينية. وقد برز مفهوم الانتفاضة للدفاع عن الحقوق الوطنية الفلسطينية.
أما "الطوفان" في عام 2023، فقد بدأ كل شيء هامدًا وكأنما ينتظر قدرًا غامضًا، حيث عكس تحولًا أوسع وأعمق من الانتفاضة. بدأ يرمز إلى تغيير شامل وكاسح لا يمكن احتواؤه بسهولة، ويعبر عن حالة مجتمعية فلسطينية تراكمت فيها المعاناة والاضطهاد، وكأن لوحات الموت ترتسم على الوجوه بطرق مختلفة، حتى انفجرت بقوة غير متوقعة من الطرف المحتل.
الأهم من ذلك، أن كلمة "الطوفان" مستمدة من التراث الديني الإسلامي، حيث تشير الآيات القرآنية إلى أن الطوفان يغير الأرض بشكل جذري، مما يعكس عقابًا عادلًا بعد ظلم طويل وبداية لمرحلة جديدة. يمنح هذا المنظور الطوفان بُعدًا أخلاقيًا للمقاومة الفلسطينية.
من ناحية أخرى، لا تعكس تسمية الطوفان مجرد عملية عسكرية، بل تصورها كتحول تاريخي يهزّ المنطقة والعالم. إن الطوفان ليس حدثًا عابرًا، بل هو مفصل تاريخي يعيد تشكيل فهم الصراع. فهو يمثل انفجارًا مجتمعيًا نتيجة تراكمات طويلة من القتل والحصار والتهجير والاحتلال والاضطهاد. تُعطي التسمية طابعًا شموليًا، وكأنها رسالة مفادها: "هذه ليست مواجهة محدودة، بل بداية تغيير شامل". لذلك، يُعتبر إدخال كلمة "الطوفان" في معجم المقاومة تطويرًا للخطاب، ونقلة من مصطلحات الدفاع والاحتجاج (الانتفاضة) إلى مصطلحات الهجوم والتغيير الجذري (الطوفان). إنها رسالة بأن المقاومة لم تعد مجرد رد فعل، ففي هذه المرحلة حدث اختلال جوهري قادر على صناعة حدث تاريخي يهز الاحتلال والعالم.
يفتح كل ذلك أمامنا مساحة لفهم "طوفان الأقصى" ليس فقط كعملية عسكرية، بل كمرحلة جديدة في تطور المقاومة الفلسطينية، حيث لم تعد بعدها كما كانت قبلها. فهذه العملية تجسد تحولًا نوعيًا يعكس إرادة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، ويشير إلى إمكانية إعادة تشكيل المعادلات في الصراع، مما يجعلها نقطة انطلاق نحو مستقبل جديد. وبشكل عام، يمكن توضيح وتحليل عملية الطوفان بشكل أكثر دقة وعمق على النحو التالي:
• كانت الانتفاضة الأولى والثانية رد فعل شعبي واسع على سياسات الاحتلال، تعبر في مضمونها عن حالة دفاع، تقترب من الفعل الدفاعي الذي يعبّر عن رفض الواقع ومحاولة كسره. في المقابل، يمثل "طوفان الأقصى" عملية هجومية استباقية، تُظهر أن المقاومة ليست في موقع رد الفعل فقط، بل في موقع المبادرة وصناعة الحدث.
• لم تقتصر العملية على إيلام العدو عسكريًا، بل هدفت إلى إحداث تغيير جوهري في السردية الدولية، من سردية "إسرائيل الضحية" إلى سردية "فلسطين الأسيرة المحاصرة تحت نظام قمعي عنصري". لذلك، تغيرت صورة الفلسطيني من الضعيف المحاصر إلى صورة الفلسطيني القادر على المبادرة وصناعة المفاجأة.
• على الرغم من أن غزة وُصفت مرارًا بأنها "أكبر سجن مفتوح في العالم"، حيث قد تبدو الحياة فيها وكأنها سجن كبير مضغوط، حاول الاحتلال إقناع الفلسطينيين بأن هذا السجن سيصبح جزءًا منهم. لكن العملية جاءت لتبرهن أن ظروف الحصار والذل ليست عائقًا أمام تطوير قدرات عسكرية وتنظيمية قادرة على إحداث زلزال إقليمي ودولي.
• أظهرت عملية الطوفان أن مرحلة التنازلات السياسية قد فشلت، بينما تبين أن المقاومة، رغم كلفتها، هي القادرة على فرض معادلات جديدة وإعادة الاعتبار للقضية في الوعي الجمعي العالمي.
ومن ناحية أخرى، يمكن تحليل المشهد الفلسطيني في ظل عملية "طوفان الأقصى" حيث يمكن رصد بعض الديناميات المعقدة وهي :
• بدلاً من أن تُواكب بعض القيادات الفلسطينية التحول النوعي الذي أحدثته المقاومة، بقيت أسيرة عقلية المفاوضات والتنازلات، معتبرة أن الشعب غير قادر على تحمل المزيد من القتل والحصار والتهجير. لكن الوقائع أثبتت أن الاحتلال لا يراعي هذه الحسابات، بل يستثمر الانقسام الفلسطيني ويستغل المواقف الضعيفة لتعزيز مشروعه الاستعماري العنصري.
• بينت العملية أن الاحتلال لم يظل ويستمر بالاحتلال إلا لأن بعض القيادات الفلسطينية أصبحت شريكة في التنسيق الأمني مع المحتل. وهنا أقول: كل علاقات خفية هي علاقات آثمة.
• رغم الاعتدال الكبير والتنسيق الأمني الذي قدمته السلطة الفلسطينية، إلا أن الاحتلال لا ينظر إليها إلا كأداة وظيفية لإدارة السكان وإبقاء السيطرة الأمنية بيد إسرائيل. فالرفض الأمريكي لمنح تأشيرة دخول للرئيس الفلسطيني يُظهر أن الغرب لا يعتبر السلطة شريكًا استراتيجيًا حقيقيًا، بل مجرد إدارة محلية بديلة عن الاحتلال المباشر.
• يسعى الاحتلال الإسرائيلي بشكل حثيث إلى تفتيت الهوية الوطنية الفلسطينية عبر خلق كيانات محلية (غزة وحدها، والضفة وحدها، وربما تقسيم الضفة إلى كانتونات). يهدف هذا المشروع إلى استبدال فكرة الدولة الفلسطينية الواحدة بـ"إمارات" أو إدارات ذاتية محدودة الصلاحيات تُدار عبر شخصيات فلسطينية مرتبطة بالاحتلال.
• الوقوف مع الاحتلال أو الرهان على "حسن النوايا الغربية والأمريكية" لا يمنح أي شرعية أو مكانة، لأن إسرائيل لا تعترف بالشريك الفلسطيني إلا كأداة لضبط المجتمع الفلسطيني. وحدها المقاومة، رغم التضحيات، أثبتت أنها قادرة على فرض وجودها وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية.
• كشف "طوفان الأقصى" أن الاحتلال لا يريد دولة فلسطينية، بل يسعى لتفتيت الشعب إلى إمارات ضعيفة تابعة. بعض القيادات الفلسطينية التي تراهن على المفاوضات ليست سوى أدوات مؤقتة للهيمنة، بينما المقاومة، رغم التضحيات، هي التي أجبرت العالم على إعادة النظر في القضية الفلسطينية.
• بالرغم من حالات القتل والتدمير والتهجير، بينت عملية الطوفان أن المذابح لا تثبت سلطتها، والإكراه لا يجلب الاعتقاد والتسليم بالاحتلال.
• تحرير الإرادة الفلسطينية من كافة أشكال الهيمنة الإقليمية والدولية هو الطريق لتحقيق الانتصار، حيث بينت عملية الطوفان أن الذين تآمروا على القضية، سواء من الداخل الفلسطيني أو من الدول العربية، كانوا أكثر ضررًا وأوجع من الاحتلال الإسرائيلي.
• هنا، أعود إلى الحروب التي خاضتها الجيوش العربية، خاصة حرب 1948 التي أدت إلى النكبة ونزوح مئات الآلاف من الفلسطينيين. كذلك، عمّقت حرب 1967 (النكسة) الانقسام الفلسطيني وخلقت موجة نزوح جديدة، مما جعل الشعب الفلسطيني ممزقًا بين الشتات والمخيمات والضفة وغزة. كانت تلك الحروب ذات طابع جيوش نظامية، وغالبًا ما كان الشعب الفلسطيني هو الخاسر الأكبر، حيث لم تُترجم تضحياته إلى إنجاز سياسي.
• على العكس من الاستسلام أو النزوح، برزت المقاومة المسلحة كخيار فعّال. جسّدت العملية روح المقاومة الشعبية والوطنية بدل الهروب أو القبول بالأمر الواقع. صحيح أن الاحتلال الإسرائيلي قد يكون "كسب معركة عسكرية محدودة"، لكنه خسر أخلاقيًا وإنسانيًا أمام الرأي العام العالمي، الذي شهد حجم المأساة الفلسطينية وكشف زيف الدعاية الإسرائيلية.
• عملية الطوفان أعادت المعادلة من جديد، حيث أصبح الفلسطيني فاعلًا مقاومًا قادرًا على فرض التغيير وإعادة القضية إلى قلب الاهتمام الدولي. حيث جرى قتل واعتقال الآلاف من الفلسطينيين فضلاً عن المجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال ضد المدنيين، والتهجير القسري، وسياسة العقاب الجماعي لم تعد تُبرَّر أمام العالم كما كان في الماضي. حتى في الدول الغربية الداعمة لهذا الكيان، تبلورت قناعة جديدة بأن الاحتلال الإسرائيلي يعيش أزمة أخلاقية عميقة.
إذن يمكن القول للعقول المتخاذلة المتآمرة التي تعودت على الهزيمة وتحاول أن تنكر أو تستنكر ما ترى، إن المشاهدات والوقائع في العالم أكبر من أن يتخطاها البصر. كما أن الأمم الحية لا تعيش بغير مواعيد مع التاريخ. بالتالي، عملية الطوفان ليست مجرد خاطرة أو تسمية عابرة، وهذا يعني أنها ليست معزولة عن سياقات المقاومة الفلسطينية. كما أن النظرة العميقة ستكشف أن هناك حياة خلف كل موت، وأن التخلي عن سلاح المقاومة هو موت، لكنه موت من نوع آخر. ومن سوء الحظ أن هؤلاء لا يدركون ما يراد بالقضية الفلسطينية، فتُصرف تفكيرهم إلى ما لا يخدم مصلحة القضية. بالتالي، تبرز المفارقة السوسيولوجية اللافتة للانتباه، حيث لم يسع الاحتلال الإسرائيلي إلى منح السلطة الفلسطينية منزلة الشريك السياسي، على الرغم من كل ما قدمته. ومن ثم، تتجلى أمامنا فروق نوعية واضحة في "طوفان الأقصى"، حيث تمثل هذه العملية نقلة نوعية في تاريخ القضية الفلسطينية، من الهزيمة والاستسلام إلى روح المقاومة، ومن الشتات إلى التماسك المجتمعي، ومن خطاب المظلومية إلى خطاب الفعل والمبادرة. أخيرًا لقد قدّمت المقاومة الشعب الفلسطيني للعالم ليس كضحية صامتة، بل كقوة مقاومة قادرة على صناعة التاريخ.
#حسين_سالم_مرجين (هاشتاغ)
Hussein_Salem__Mrgin#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟