|
الحياة اليومية في المجتمع الليبي 1987- 1989 : قراءة نقدية لمشاهدات عاطف ابوبكر
حسين سالم مرجين
(Hussein Salem Mrgin)
الحوار المتمدن-العدد: 8457 - 2025 / 9 / 6 - 02:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
شاهدت الحلقة (12) من برنامج "الشاهد" على قناة يوتيوب، والتي بُثت سابقًا على قناة ليبيا الأحرار بتاريخ 25 سبتمبر 2024 (https://www.youtube.com/watch?v=oFV-KJX09T0). تتناول الحلقة رؤية عاطف أبوبكر، القيادي السابق في تنظيم فتح المجلس الثوري، للمجتمع الليبي خلال الفترة من 1987 إلى 1989. يصف أبوبكر الحياة اليومية في ظل حكم القذافي، مركزًا على الأنشطة والتفاعلات اليومية للأفراد، خاصة في مدينة طرابلس. كما يوضح كيف يؤثر السياق الاجتماعي والثقافي الذي يفرضه النظام السياسي على سلوك الأفراد، وكيف تشكلت الهويات والعلاقات بينهم من خلال تجاربهم اليومية. قبل الحديث عن المواقف والممارسات التي رصدها عاطف أبوبكر، أود أن أستعرض السياقات السياسية التي قد تكون لعبت دورًا كبيرًا أو صغيرًا، من وجهة نظري، في السلوكيات والتفاعلات اليومية في ليبيا خلال الفترة التي تحدث عنها عاطف: • احتفالية العشرين سنة على وصول القذافي للحكم (1969–1989)، التي حاول أن يجعلها إعلانًا لمرحلة جديدة. • تصاعد الصدام مع الغرب، مثل حادثة لوكربي 1988 والطائرة الفرنسية فوق النيجر 1989. • بداية مرحلة الحصار الدولي الذي عزل ليبيا لعقد كامل تقريبًا. • تنامي العلاقة مع حركات مسلحة مثل أبو نضال، حيث استُغلّت كأداة تنفيذية خارجية. • قيام القذافي بالإفراج عن عدد من السجناء السياسيين يبدأ عاطف أبوبكر حديثه عن الحياة اليومية في مدينة طرابلس بمجرد وصوله إلى مطار المدينة، حيث يرصد مواقف تعكس شح الإمكانيات. على الرغم من أن المطار كان يمتاز بتصميمه، إلا أنه كان بحاجة إلى صيانة مستمرة. يوضح أبوبكر أن نظام التكييف لم يكن يعمل، مما زاد من معاناة الزوار في الحرارة الشديدة، فضلاً عن عدم الاهتمام بالنظافة العامة. تظهر هنا أن المسألة ليست مجرد بناء منشآت، بل تتطلب أيضًا بناء ثقافة الاستدامة في المحافظة عليها. كان مطار طرابلس العالمي، كما كان يُسمى آنذاك (باعتباره واجهة الدولة)، طرازًا متميزًا من حيث التصميم، لكنه تعرض للإهمال، حيث يراه أبوبكر بلا صيانة ولا استدامة. يعكس هذا المشهد ظاهرة عامة في المجتمع الليبي، حيث تفتقر جميع المؤسسات والمباني الحكومية إلى ثقافة الصيانة والاستدامة. يتضح أن النظام السياسي لم يكن يبني مؤسسات حية وقابلة للتطوير، بل مجرد هياكل تُستهلك ثم تُترك للتآكل. ولعل الأسواق المجمعة مشهد آخر على ذلك التأكل . يوضح عاطف أبوبكر أنه بمجرد خروجه من المطار، يلاحظ وجود شعارات النظام السياسي مثل "عصر الجماهير"، مما يعكس أن تلك الحقبة تعبر عن حكم الجماهير. لكنه يشرح المعاني الرمزية لهذا الشعار، حيث يشبهه بـ "القماشة المبلولة التي تحتاج إلى عصر"، مما يعني أنه عصر لتلك الجماهير. كما يستطرد بالقول إن الشعارات تحمل في طياتها بعض المفارقات، حيث إن بعضها لا يعبر عن الواقع المعاش في ليبيا، مثل شعار "لا حرية لشعب يأكل من وراء البحار"، بينما يعتمد الشعب على الاستيراد من الخارج بشكل كبير. يمكن القول إن هناك سيطرة أيديولوجية لشعارات القذافي في كل مكان، وحضورها في الحياة اليومية بشكل مبالغ فيه. ورغم كون المجتمع غنيًا بالنفط، إلا أن مواطنيه يقفون في طوابير للحصول على السلع، حيث يوضح أبوبكر أن السلع لم تكن متوفرة بالشكل الكافي، مع شبه انعدام لبعض السلع مثل الشوكولاتة والعطور ومعجون الأسنان. كما يستمر في رصد الحياة اليومية في الأسواق الحكومية، مشيرًا إلى أنه عند الذهاب إلى السوق لشراء حذاء، يجب الانتظار في طابور للحصول على المطلوب. وبعد أن يحين دورك، هناك احتمال أن يكون الشيء الذي اشتريته غير مقاسك أو بلون مخالف، مما يجعلك تنتظر لتقوم بعملية استبدال مع أفراد آخرين. من عاش تلك الفترة يلمس الحقائق في الحياة اليومية في المجتمع الليبي، حيث يوجد ازدحام الطوابير في جل الأسواق الحكومية بحثًا عن الاحتياجات الأساسية من مأكل ومشرب وملبس. تأتي هذه المرحلة بعد أن طرح رأس السلطة أفكارًا اقتصادية تجرم البيع من خلال القنوات الفردية، حيث قامت الدولة باحتكار عمليات البيع لجميع المستلزمات، مما أدى إلى إغلاق المحلات ووصمها بأنها تسعى لسرقة مال الشعب. لقد اتسم اقتصاد ومعيشة المجتمع الليبي في تلك الفترة بندرة السلع الغذائية، وأسواق حكومية تعاني من نقص في السلع، وطوابير طويلة، واعتماد شبه كامل على الاستيراد رغم شعارات "الاعتماد على الذات". جاءت هذه المرحلة بعد أن قام القذافي بتفريغ الاقتصاد من استقلاليته من خلال إلغاء الملكية الخاصة الكبيرة، وسيطرة الدولة، وشح السلع. ينتقل عاطف أبو بكر بعد ذلك إلى رصده للصحف والمجلات في ليبيا خلال الفترة 1987-1989، حيث يوضح أنها تعاني من ضعف المحتوى. يقول إنه إذا أخذنا أي صحيفة في يوم محدد وأزلنا التاريخ من النسخة اليومية، يمكن أن تصلح لشهور أو سنوات لاحقة، لأن مضمونها يدور حول تمجيد رأس السلطة، دون وجود أخبار أو تحليلات أو نقاشات عامة. وهذا يعني غياب التنوع السياسي والإعلامي، مما جعل الصحافة مجرد أداة للتقديس والتكرار. ثم ينتقل إلى المواد الإذاعية والتلفزيون الليبي آنذاك، حيث يرى من خلال معايشته لتلك الفترة أنها كانت متشابهة، لا تجد فيها أي تمايز، فكلها تدور حول القذافي وتمجيده. بالتالي، كان المواطن الليبي، حسب ما ذكر أبوبكر، يلجأ إلى البحث عن التلفزيون التونسي أو القنوات الإيطالية. وغالبًا ما تجد المواطن الليبي فوق الأسطح يبحث عن تعديل الإشارات للبحث عن تلك القنوات، في ظل افتقار التلفزيون الليبي لأي برامج أو مواد إذاعية متنوعة. هذه الملاحظة تعكس حقيقة أن جل الليبيين كانوا يبحثون عن قنوات بديلة، حتى في الأخبار، حيث كان المواطنون يفضلون إذاعة لندن نظرًا لكونها أكثر مصداقية من الحكومية آنذاك. وهذا يعني وجود فجوات بين تلك القنوات وأفراد المجتمع، بالإضافة إلى كونها كانت أدوات للهيمنة، حيث كانت القناة الحكومية أداة من أدوات الهيمنة. بالتالي، كانت الإذاعة والتلفزيون صوتًا واحدًا، إعلامًا شموليًا يدور حول القذافي وشعاراته، مما جعل الناس يلجؤون إلى الإعلام التونسي والإيطالي كنافذة للترفيه ورؤية العالم الآخر. وفي تحليل دقيق للحياة اليومية في ليبيا خلال تلك الفترة، يقول عاطف أبوبكر إن كل شيء في ليبيا كان مرتبطًا بالعقيد معمر القذافي من الألف إلى الياء. فالمواطن يأكل ويشرب وينام ويستيقظ على أقوال وصور العقيد. ويشير عاطف بشكل غير مباشر إلى أن الشعب الليبي قد تحول إلى حقل للتجارب، حيث كل ما يخطر على بال القذافي من أفكار وأهواء كان يقوم بتطبيقه على الشعب بطريقته الخاصة. وبهذا، كان الشعب الليبي مغلوبًا على أمره. يبرز عاطف المناخ الأمني الذي كان يعيش فيه المجتمع الليبي، حيث كان الخوف من التعبير عن الرأي سائدًا، مع وجود الأمن واللجان الثورية في كل مكان، مما أدى إلى عزوف الأفراد عن الشأن العام خشية العقاب. بالتالي، يمكن اعتبار ليبيا في هذه المرحلة مثالًا لما يسميه علم الاجتماع السياسي بـ الحياة اليومية المؤدلجة، حيث يفرض النظام هيمنته الرمزية عبر الشعارات والصور والطقوس السياسية. ساعد هذا المناخ على انتشار ما يُسمى بالعنف الرمزي، كما أشار إليه بورديو، من خلال فرض معاني وقيم وشعارات على الناس بحيث يقبلونها وكأنها طبيعية. فمثلًا، نجد في ليبيا شعار "الخيمة انتصرت على القصر"، الذي يعني تكريس البداوة كرمز للهوية الوطنية، وتحجيم الحداثة والمدنية. بالإضافة إلى تعظيم الإبل وتربية الحيوانات في المدن، وهو محاولة لإرجاع المجتمع إلى الوراء وربطه بثقافة البداوة بدلًا من الصناعة والتقدم. لقد فرض هذا العنف رؤية محددة للعالم، وشوّه إدراك الليبيين للحداثة والتعليم والعمل، وكان الهدف منه إعادة الهندسة الثقافية من خلال تكريس البداوة كهوية (الخيمة، والإبل) مقابل رفض الحداثة. كما تطرق عاطف إلى الجهة المسؤولة عن تطبيق أفكار رأس السلطة، وهي اللجان الثورية، موضحًا أنه يتم استقطاب الشباب في سنوات العشرينيات لمتابعة تطبيق أفكار العقيد ضمن الحياة اليومية للمجتمع الليبي. ويشير إلى أن هؤلاء الشباب كانوا متشبعين بشعارات النظام، حيث كانوا يحفظونها عن ظهر قلب ويرددونها وكأنها لوح محفوظ. ثم يُطلب منهم محاكمة كل من يخالف هذه الشعارات، على الرغم من أن عامل السن والتجربة والعلم قد لا يسمح لهم بمثل هذه الممارسات، التي تحتاج إلى مهارات ومعارف متراكمة. لكن النظام استعان بالشباب كأداة من أدوات الهيمنة. من خلال هذه الفئات، استطاع القذافي تنفيذ أجندات كبيرة، مثل عمليات القتل والشنق خارج إطار المحاكم، وكذلك عمليات التطهير التي شملت ضباطًا صغارًا في السن. وفي الحقيقة، كانت اللجان الثورية، حسب وجهة نظري، أشبه بـ "الحشاشين" عند حسن الصباح، حيث تقوم بتنفيذ الأوامر باندفاع وولاء مطلق، مع تورطها في التصفيات الجسدية داخل وخارج ليبيا. بالتالي، كانت الحياة اليومية في ليبيا آنذاك تتسم بالخوف والرقابة، مما شكّل أساس التفاعلات اليومية. أصبح الناس يتعاملون بحذر، يتفادون الحديث عن السياسة، ويعيشون "داخل أوعية من حديد". في هذا السياق، يتبين لنا أن المجتمع الليبي كان يعيش في حالة من الاغتراب، كما بينه ماركس، نتيجة لفقدان السيطرة على العمل والإنتاج والقرار. هذا الفقدان يجعل المواطن غريبًا عن ذاته وعن محيطه. فالمواطن في ظل حكم القذافي غُيّب عن السياسة (حيث القرار بيد القذافي وحده)، وغُيّب عن الاقتصاد (لا مؤسسات، لا قطاع خاص فعال، لا حرية استهلاك، والطوابير والندرة)، كما غُيّب عن المستقبل (لا مشروع نهضوي حقيقي، بل شعارات فقط). كل ذلك خلق شعورًا عامًا بأن المواطن الليبي مجرد أداة ضمن آلة النظام، وليس كيانًا مستقلًا. انعكس هذا الوضع على الهوية الفردية، حيث أصبح المواطن الليبي يعيش في حالة من "الاغتراب" بين ما يُقال (الشعارات) وما يُعاش (الواقع المعيشي الصعب). وبالتالي، نشأ اغتراب سياسي وثقافي جعل المواطن الليبي يشعر بأنه خارج الزمن، غير قادر على التأثير، مجرد متلقٍ للأوامر. ينتقل عاطف أبوبكر بعد ذلك إلى فنادق طرابلس مثل فندق الكبير وباب البحر، وهما من الفنادق التابعة للحكومة، حيث يعاني كلاهما من مساوئ القطاع العام مثل الإهمال والفساد وعدم الانضباط. يلاحظ أن معظم العمالة في هذه الفنادق هم من غير الليبيين، ويشير إلى أنه عندما يطلب طعامًا لشخصين، قد يأتي الطعام لعشرة أشخاص، مما يدل على عدم وجود رقابة وانضباط. وإذا تم إعطاء أي عامل بقشيش، فقد يأتي بالطعام من المطعم كله. وعن مكان سكنه، يذكر أنه عاش في طرابلس في شارع بن عاشور، حيث يرصد بعض المفارقات في هذا الحي، مثل وجود مخزن كبير في بعض البيوت يحتوي على كل ما يحتاجه المنزل، كالثلاجات والأفران وغيرها من المعدات. يعود السبب في ذلك، حسب ما طرحه عاطف أبوبكر، إلى عدم توفر قطع الغيار، مما يستدعي وجود أجهزة مماثلة في حالة تعطل أي جهاز. بينما يتمتع هؤلاء الأفراد بوضع اقتصادي ميسّر، فإن الأفراد البسطاء أو الأقل دخلًا ليس لديهم هذه الإمكانات . على الرغم من محاولات النظام السياسي المناداة بالمساواة بين أفراد المجتمع، خاصة في النواحي الاقتصادية، إلا أنه لم يُفلح في ذلك. فرغم محاولاته القضاء على الطبقة البرجوازية، أدت ممارساته إلى ظهور طبقة أخرى مناصرة له أو قريبة منه، أصبحت تمتلك الإمكانات الاقتصادية، مما يعني أنه تم استبدال طبقة بأخرى. يرى عاطف أبوبكر أن نظام القذافي خلال هذه الفترة كان نظامًا فرديًا، حيث لا توجد أحزاب أو نقابات مستقلة. كان المواطنون يتنفسون ويستيقظون على صوت العقيد الذي يعتبر نفسه ليس حاكمًا أو رئيسًا، بل مرجعًا أو نصف إله في ليبيا. هذا الغياب لم يكن فراغًا طبيعيًا بل كان مقصودًا، بهدف إبعاد المجتمع عن الشأن العام تمامًا. من أهم نتائج هذه السياسات كان تدمير فكرة المشاركة وإغلاق أي قناة يمكن أن تفرز قيادات أو معارضة، مما خلق اغترابًا سياسيًا وثقافيًا جعل المواطن يشعر بأنه خارج الزمن، غير قادر على التأثير، مجرد متلقٍ للأوامر. كان الهدف من هذا الإغلاق في عملية المشاركة القضاء على أي نخب قد تنشأ من تلك التنظيمات، مما يعزز السيطرة المطلقة للنظام ويحد من أي إمكانية للتغيير. بعد سقوط النظام، ظهرت نتائج هذا الانغلاق بشكل واضح، حيث كان هناك افتقار في النخب والقيادات التي يمكن أن تتولى المهام. هذه المسألة أضرت بالنظام نفسه، إذ لم يسعَ إلى خلق قيادات الصف الثاني والثالث، مما أدى إلى انهيار كل شيء مع سقوط رأس النظام. ثم ينتقل للحديث عن القذافي، مشيرًا إلى أنه كان يعيش وهم العبقرية. حيث اعتبر القذافي الأنبياء مجرد متلقين للوحي، بينما هو يزعم أن عبقريته "نابعة من ذاته". بمعنى آخر، رأى نفسه فوق كل المستويات الفكرية والسياسية. وصل به الأمر إلى التفكير في دفن صفائح معدنية مكتوب عليها مقولات الكتاب الأخضر، حتى إذا اندلعت حرب عالمية واختفت البشرية، تأتي أجيال لاحقة لتكتشف "عبقريته". هذه الفكرة تجسد ذهنية الزعيم أو النصف إله. يتحدث عاطف عن التعليم في الجامعات الليبية، مشيرًا إلى أن جامعة طرابلس "جامعة الفاتح سابقًا" لم تكن تقدم تعليمًا جيدًا، وذلك بالاستناد إلى عدم وجود تعليم باللغة الإنجليزية، بالإضافة إلى غياب الرقابة على المعلمين في المدارس الحكومية. يروي قصة ضرب ابنته، التي تدرس في الصف الرابع الابتدائي، بالفلقة لأنها تحدثت مع زميلتها. تعبر هذه الحادثة عن العنف المادي المتفشي في المجتمع حتى بين التلاميذ في المرحلة الابتدائية. وهنا أود القول بأنه على الرغم من قلة الإمكانات ومحاولات النظام فرض الهيمنة على التعليم الجامعي، إلا أن التعليم الجامعي كان لديه الحد الأدنى من المتطلبات، حيث كانت مخرجات الجامعات الليبية تُقبل في جل الجامعات الدولية. لذلك، القول بأن التعليم الجامعي غير جيد استنادًا إلى عدم تدريس اللغة الإنجليزية يبدو غير صحيح. كذلك، عدم وجود رقابة على المعلمين قد لا يعكس الصورة الكاملة. بالرغم من انتشار العنف الرمزي والمادي في الجامعات الليبية، فقد شهدت تلك الجامعات، خاصة جامعتي طرابلس وبنغازي، حالات من الإعدامات لطلبة كانت لديهم توجهات فكرية مخالفة لتوجهات النظام. في هذا السياق، يجب الإشارة إلى حادثة السبعينيات التي تُعتبر مفارقة كبرى في التعليم الجامعي في ليبيا، ففي هذه المرحلة حدث اختلال جوهري هز التعليم الجامعي، حيث مُنحت شهادات جامعية لمن قاموا بتفريغ البضائع في ميناء بنغازي. هذه الحادثة ليست مجرد عبث، بل هي رسالة رمزية تفيد بأن المعرفة ليست بالعلم بل بالولاء والمشاركة في العمل الثوري. وهذا يعني أن التعليم فقد معناه المؤسسي وتحول إلى أداة للتلقين والتطويع. أصبحت الجامعات والمدارس مجرّد أجهزة أيديولوجية لإنتاج جيل مشبع بمقولات الفكر الأخضر. ولعل تأسيس أكاديمية المدرج الأخضر هو تتويج لهذه السياسة، التي تعني صناعة "نخب" مؤدلجة بدل النخب العلمية. بالتالي، لم يرغب القذافي في مجتمع منتج ومستقل، بل في مجتمع هش ومؤدلج يردد شعاراته، غير قادر على المقاومة، بل مستعد لتقبل أي خطاب يقدمه رأس السلطة. كما رصد عاطف أبوبكر ظاهرة تعاطي المسكرات بين الشباب في المدارس الثانوية، حيث كان البعض يشرب البنزين الخاص بالطائرات، بينما يلبس آخرون الجوارب لمدة شهر ثم ينقعونها ليشربوا النقيع. يعتبر عاطف أن هذا السلوك يمثل إذلالًا للبشر، وهو نوع من الاغتراب الذي عاشه الشباب الليبي آنذاك. يختتم حديثه عن حكم القذافي خلال الفترة التي قضاها في ليبيا بالقول إنه حبس التطور، حيث كانت الحياة اليومية تشبه السجن الكبير. كان المجتمع الليبي يعيش في قفص مغلق: أربعة جدران بلا نوافذ، والناس مقموعو الأفواه، ممنوع عليهم الكلام والتعبير. يصف أبوبكر التجربة التي عاشها في ليبيا بقوله: "لو عشت في ليبيا، يتم استهلاك نسبة من عقلك، ومع مرور السنوات تصل هذه النسبة إلى صفر". وهذا يعني ببساطة أن النظام صُمم لإلغاء التفكير الحر. وعموماً، فإن ما يعنينا الإشارة إليه في هذه القراءة النقدية هو أن عاطف أبوبكر حاول رسم صورة للمجتمع الليبي كمجتمع يعيش تجربة مغلقة بالكامل. تتسم خطوط هذه الصورة بالأتي: • مؤسسات متهالكة بلا صيانة. • إعلام فارغ يكرر نفس الخطاب. • غياب كامل للتنظيمات والتيارات والنقابات المستقلة. • زعيم يقدّس ذاته ويؤسس لعبقريته المزعومة. • حركة حشاشين لديها ولاء مطلق لزعيمها وترى في حديثه وشعاراته رموزًا مقدسة. • مجتمع يعيش في "قفص كبير"، تحت رقابة وعزلة فكرية مقصودة. بالتالي، يمكن القول إن الهيمنة في الحياة اليومية في عهد القذافي لم تكن محدودة، بل شملت كل مناحي الحياة اليومية. حيث يمكن رصد هذه الهيمنة في النقاط التالية: • في البيت، حيث كان هناك خوف حتى داخل الأسرة من الحديث عن السياسة، مما غرس ثقافة الطاعة والامتثال عبر الإعلام والمدرسة. • في الشارع، حيث كان هناك حضور أمني دائم ولجان ثورية، وتشكّل الطوابير في الأسواق الحكومية صورة يومية للإذلال الاقتصادي المقصود. • في مؤسسات الدولة،حيث كان هناك غياب للصيانة والاستدامة (مثل مطار طرابلس) أيضًا تفريغ التعليم من قيمته وتحويله إلى وسيلة للتلقين. النقابات والاتحادات كانت تحت سيطرة السلطة، بلا استقلالية. • في الإعلام، حيث كانت الصحف، الإذاعة، والتلفزيون تقدم مضمونًا واحدًا: شعارات القذافي وتمجيده. • من خلال اللجان الثورية التي كانت أداة قمع مباشرة، قريبة من شرطة فكرية تمارس العنف المادي والرمزي، وتزرع الخوف في المجتمع، بالإضافة إلى تصفيات جسدية للمعارضين. في الحقيقة هذه ليست تفاصيل صغيرة، بل هي أدوات وظفها النظام السابق كجزء من الهيمنة على المجتمع الليبي، مما جعل المجتمع معزولًا عن السياسة، مستهلكًا للعنف الرمزي، ومفرغًا من التفكير النقدي، كل ذلك ساهم في تسهيل حكمه لعقود. إن ما ذكره عاطف أبو بكر يوضح بجلاء أن ليبيا قبل 2011 كانت تعيش حياة يومية مؤدلجة بالعنف والخوف والحرمان، وأن ما حصل في 2011 لم يكن سوى لحظة انفجار لهذه التراكمات. كما أن حالات العنف التي مارسها النظام السابق، سواء الرمزي أو المادي، تفسر لنا لماذا ظل العنف حاضرًا في الحياة اليومية بعد 2011. وهذا، حسب اعتقادي، يرجع إلى كونه أصبح جزءًا من النسيج اليومي لعقود طويلة، حيث تراكمت في اللاوعي الجمعي، مما جعل الثقافة اليومية مشبعة بالعنف، بحيث صار رد الفعل بعد 2011 يتسم أيضًا بالعنف والانفلات. بشكل عام، يمكن القول إن ليبيا بين 1987 و1989 كانت مجتمعًا أسيرًا بين شعارات السلطة وواقع الحرمان، هذا الوضع مهّد لاحقًا لانفجار التناقضات مع بداية 2011. وحسب اعتقدي فإن المحددات التي سردها عاطف أبوبكر ساهمت في ذلك الانفجار المجتمعي: • إقصاء الشعب من المشاركة من خلال احتكار السلطة. • تحويل اللجان الثورية إلى أدوات قمع. مدفوعة بولاء قائم على "التشبع بالفكر القذافي" بدل الولاء للوطن أو الدولة. • رغم الثروة النفطية، عاش الناس على الطوابير والندرة، مما ولّد شعورًا بالحرمان مقارنة بالإمكانات المتاحة. حيث كانت الحياة اليومية محكومة بالخوف والرقابة، مما أدى إلى عزوف عن الشأن العام وضعف الثقة المتبادلة بين الأفراد. • غياب أي أفق للتجديد أو الانفتاح. وحاصل القول إذن، الهيمنة في ليبيا لم تكن مجرد سلطة سياسية، بل نظام شامل اخترق تفاصيل الحياة اليومية، وحوّل المجتمع إلى "قفص كبير"، مما جعل الانفجار لاحقًا حتميًا عند أول فرصة. وشكلت هذه الظروف ما يسميه علماء الاجتماع "المقدمات البنيوية للانفجار 2011". فما بين الاغتراب (كما وصفه ماركس) والعنف الرمزي (كما أشار إليه بورديو)، يمكن فهم تجربة ليبيا تحت حكم القذافي كحالة هندسة اجتماعية ثقافية معكوسة تهدف إلى إعادة تشكيل المجتمع وفق نموذج بدوي–شعاراتي، بدلًا من دفع المجتمع نحو التحديث. حيث تم جرّه عمدًا نحو البداوة والتقليدية، وتفريغ التعليم والمعرفة من مضمونهما، لصناعة قاعدة اجتماعية مطواعة قائمة على التفريغ من الفضاء العام، وشخصنة السلطة، وتنفيذ الشعارات دون تفكير، مما يقطع الطريق أمام تشكل نخبة حديثة قد تنافس رأس النظام.
#حسين_سالم_مرجين (هاشتاغ)
Hussein_Salem__Mrgin#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مستقبل الأجيال في خطر: الفجوات التعليمية كنموذج
-
جودة وضمانها في التعليم : إعادة بناء الثقافة كخطوة أساسية قب
...
-
ما الذي ينقص ليبيا لتطوير تجربة تعليمية وطنية مشابهة للتجربة
...
-
إعادة تشكيل العقل العربي بين المحاولات الفردية والهيمنة المع
...
-
المشروع الوطني المفقود بين نظام القذافي والمجلس الوطني الانت
...
-
القذافي والقضية الفلسطينية: شهادة عاطف أبوبكر
-
العدوانية في الشخصية الليبية: سمة دائمة أم سلوك مكتسب؟
-
التفاهة: بين السطحية والجهل لدى المسؤولين في المجتمعات المتأ
...
-
استلهام قيم التنمية المستدامة من تجارب الأجداد والآباء
-
كليات التربية في الجامعات الليبية: التحديات المستمرة والحاجة
...
-
خطاب إلى مجموعة التفكير العلمي في ليبيا: دعوة جادة لتحمل الم
...
-
الخلافات المفاهيمية وتأثيرها على بناء الدولة الليبية بعد عام
...
-
هيمنة المسؤولون والفخر الزائف
-
المبعوثون الأمميون في ليبيا: بين الأمل والإخفاق في صراع الجم
...
-
إلى أين تتجه ليبيا بين متناقضات الفوضى والأمل؟
-
التعليم العالي في ليبيا إلى أين ؟
-
استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وإكراهات الغفلة والعفن وهبال
...
-
قراءة نقدية حول خطة استشرافية لتطوير وتجويد التعليم في الوطن
...
-
قراءة نقدية حول خطة استشرافية لتطوير وتجويد التعليم في الوطن
...
-
قراءة نقدية حول خطة استشرافية لتطوير وتجويد التعليم في الوطن
...
المزيد.....
-
ترامب: نجري حاليا مفاوضات عميقة مع حماس
-
الشرطة البرازيلية تحرر رهينتين وتقتل ثمانية مشتبه بهم خلال م
...
-
مخاوف من أزمة جديدة بين موريتانيا ومالي بسبب التجار والرعاة
...
-
لن يسلم حزب الله سلاحه.. لأن المطلوب رأسه
-
أصوات من غزة.. شهادات فلسطينيين بعد 700 يوم من الحرب
-
ترامب يوقع أمرا بتغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب
-
ترامب يكشف عن آخر تطورات مفاوضات إدارته مع -حماس-: -تطلب بعض
...
-
خوذة الأشعة فوق الصوتية.. أمل جديد لعلاج الباركنسون دون جراح
...
-
أثناء -ملاحقة متشددين-.. قتلى وجرحى عسكريين في جنوب اليمن
-
أي تداعيات للمواجهات الأخيرة بين مهاجرين أفارقة في عدة أحياء
...
المزيد.....
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|