حسين سالم مرجين
(Hussein Salem Mrgin)
الحوار المتمدن-العدد: 8470 - 2025 / 9 / 19 - 21:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
خلال إحدى الفعاليات العلمية، وكما هو متعارف عليه، يتبادل المشاركون التحية والسلام فيما بينهم قبل بدء الفعالية. وفي هذا السياق، رفض أحد الأساتذة تقبيل أحد المشاركين، مبررًا ذلك بضرورة الالتزام بالمسافة الصحية وإجراءات ما بعد كورونا. وأشار إلى أن التقبيل ليس من عادات الليبيين، بل هو تقليد جاء من دول المشرق العربي. في المقابل، اعتبر المشارك أن التقبيل يعد رمزًا للاحترام والتقدير، وليس مجرد عادة شكلية. لتلطيف الأجواء، تدخلت في النقاش وذكرت أن التحية والسلام كانت موجودة في ليبيا منذ زمن طويل، حيث كانت أكثر حميمية، وكان يتم تقبيل الأيدي عدة مرات مع سؤال عن الحال ورد متبادل. كما أشرت إلى أن هذا النمط من التحية كان سائدًا في كل من شرق وغرب البلاد، وليس مقصورًا على منطقة معينة. وفي كتابها "عشرة سنوات في بلاط طرابلس"، تطرقت الأنسة "تولي" إلى هذا النمط من التحية بين الليبيين، مشيرة إلى أنه لم يكن مقتصرًا على الرجال فحسب، بل شمل النساء أيضًا. وقد استمرت هذه الممارسة حتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، كأن الليبيين لم يغيروا عاداتهم منذ عقود، ثم بدأت تختفي تدريجيًا مع التغيرات الاجتماعية.
في الحقيقة، يأتي الحديث عن أنماط التحية في ليبيا في سياق بعدها الوطني والوظيفي، وليس مجرد وصف انتروبولوجي. يأتي ذلك في ظل وجود بعض الأصوات التي تعلو أحيانًا وتنخفض حول الهوية الوطنية الليبية الجامعة. إذ لا يزال المجتمع الليبي يعيش منذ عام 2011 انقسامات سياسية وصراعات مسلحة خلفت شرخًا اجتماعيًا ونفسيًا. هذه الأوضاع أضعفت الشعور بالوحدة الوطنية وأبرزت الانتماءات الضيقة، سواء كانت قبلية أو مناطقية.
لذا، يتعين علينا التركيز على تفاصيل الحياة في المجتمع الليبي التي تؤكد على الهوية الجامعة. في هذا السياق، تبرز مسألة التحية والسلام كعناصر تعبر عن أنماط التحية التقليدية (تقبيل الأيدي، تقبيل الخدين، العناق...) التي كانت ولا تزال ممارسات جامعة بين الليبيين في الشرق والغرب والجنوب. تتضمن هذه الطقوس رمزية الاحترام والتقدير والود، وتؤسس لشعور بالانتماء المشترك يتجاوز حدود القبيلة أو المنطقة. تقبيل الأيدي، على سبيل المثال، هو تعبير عن المكانة والاحترام والبر، خاصةً تجاه الكبار في السن. كما أن تكرار القبلة مع الحوار يرمز إلى الاستمرارية في العلاقات الاجتماعية، حيث لا يكفي السؤال لمرة واحدة بل يتكرر لإظهار الاهتمام والحرص والتقدير. إن التحية والسلام في المجتمع الليبي لا تعبر فقط عن سلوك يومي، بل تعكس التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية العميقة التي شهدتها البلاد، والتي أثرت على المجتمع الليبي برمته. في هذه المقالة، سنحاول تتبع تطور التحية والسلام في المجتمع الليبي من مرحلة تقبيل الأيدي إلى مرحلة تقبيل الخدين، وصولاً إلى تحية أكثر تحفظًا وصحية، وهي السلام بالأيدي فقط أو الاكتفاء باللفظ. مع كل مرحلة من هذه المراحل، تحمل القيم والمعاني المختلفة في المجتمع الليبي. وفي هذا الخصوص يمكننا تقسيم هذه التحولات إلى المراحل التالية:
1. المرحلة الأولى
في هذه المرحلة، كانت التحية تتم عبر تقبيل اليد من كلا الطرفين، وهو تعبير عن الاحترام والود. غالبًا ما كانت هذه التحية تقتصر على الأقارب والمقربين والضيوف. استمرت هذه العادة حتى السبعينيات من القرن الماضي، حيث بدأت تتقلص. كانت هذه التحية تعكس قيم المجتمع التقليدي، حيث تُقدَّم المكانة والهيبة على البعد الفردي، خاصةً تجاه الكبار في السن والضيوف.
2. المرحلة الثانية
تطورت الأمور ليصبح السلام بالأيدي مصحوبًا بتقبيل الخدين، وهو شكل يجمع بين الحميمية الاجتماعية والتقدير. أصبح التقبيل على الخدين سلوكًا اجتماعيًا أكثر شيوعًا، خصوصًا بين المعارف والأصدقاء، مع بقاء تقبيل اليد والرأس محصورًا في نطاق الوالدين وكبار السن كدلالة على الطاعة والبر. بدأت هذه التغييرات بالظهور في الثمانينيات من القرن الماضي، حيث انتشرت التحية بمصافحة اليد مع تقبيل الخدين في المناسبات الاجتماعية والدينية خاصة بين الأقارب.
3. المرحلة الثالثة
في بعض الأوساط، تقلصت مظاهر التحية والسلام لتقتصر على المصافحة اليدوية فقط. هذا النمط منتشر في المؤسسات والدوائر الحكومية، وكذلك في الفضاء العام. كما يُعتمد في بعض المناسبات الاجتماعية والدينية، خاصةً عندما تكون العلاقات رسمية أو بعيدة من حيث القرابة.
4. المرحلة الرابعة
برزت بعد ذلك ظاهرة الاكتفاء بقول "السلام عليكم" دون أي ملامسة جسدية. يعكس هذا التغيير تحولات اجتماعية مرتبطة بتباين الأجيال والمسافات الاجتماعية، وكذلك العوامل الصحية، مثل جائحة كورونا، كما حصل مع الأستاذ الذي تم ذكره سابقًا.
5. المرحلة الخامسة
ارتبطت هذه المرحلة بالتأثير الديني، خاصة بين الشباب. مع صعود بعض التيارات الدينية في نهاية التسعينيات، تغيرت أنماط التحية بحيث أصبح السلام يقتصر على المصافحة بالأيدي مع العناق الخفيف، وأحيانًا إضافة لمس الرأس أو الضغط بالجبين على الجبين كبديل عن التقبيل. انتشرت هذه التحية بين الشباب أكثر من الكبار، مما يعكس تأثرًا ببعض التيارات الدينية التي اعتبرت تقبيل الخدين غير جائز. أدت هذه التحولات إلى إعادة تعريف "التحية" بما يتماشى مع تصورات دينية جديدة، وجاءت كنوع من المواءمة بين الموروث الاجتماعي (العناق) والمرجعيات الدينية (الابتعاد عن كثرة التقبيل والاحتكاك الجسدي).
إذن على القارئ. بعد أن أحاط بهذه المراحل أن يدرك بإن التحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي شهدتها ليبيا في السبعينيات، بفعل صعود الدولة المركزية، أدت إلى تغيير جذري في الحياة اليومية. حيث أصبحت الدولة هي المحور الرئيس للحياة، وتقلص دور القبيلة في الحياة العامة. كما أثرت مؤسسات الدولة، التي حملت ثقافة رسمية مغايرة للعادات القبلية، على أنماط التحية. في هذه المؤسسات، حيث يعمل الأجانب والعرب القادمين من دول أخرى، كان نمط التحية مختلفًا، إذ اقتصر الأمر على المصافحة أو الاكتفاء بالتفوه بـ"السلام عليكم" دون أي تواصل جسدي. هذا أوجد نوعًا من التطبيع الاجتماعي مع أنماط جديدة للتحية، بعيدة عن التقبيل المبالغ فيه. وبالتالي، تراجعت التحية القبلية التقليدية (مثل تقبيل الأيدي أو التقبيل المتكرر) لتستمر فقط داخل الأطر القبلية والاجتماعية الضيقة، مع تراجعها التدريجي بفعل مد وتوسع مؤسسات الدولة، وانتشار التعليم، ومؤسسات التنشئة الرسمية، والتحديث، وانفتاح المجتمع على أنماط خارجية.
ومع مرور الوقت، تحولت بعض أنماط التحية القبلية إلى ذاكرة اجتماعية فقط، ولم تعد تُمارس إلا في نطاق محدود جدًا. تعكس هذه التحولات دينامية المجتمع الليبي وتبدل معاييره الرمزية في التعبير عن الاحترام والود. وهنا نسارع إلى القول إن هناك عدة عوامل تداخلت في هذا السياق، منها:
• التأثيرات الاقتصادية والثقافية الحديثة
• التحولات في أنماط العلاقات الاجتماعية بين الأجيال
• العوامل الصحية (كورونا نموذجًا) مؤخرًا
اليوم، يمكن القول إن تقبيل الأيدي المتكرر صار جزءًا من التاريخ الاجتماعي أكثر من كونه ممارسة حاضرة. ومع ذلك، فإن من يُحسن التأمل ويدقق النظر يستطيع أن يدرك بسهولة بأن أنماط التحية في ليبيا لم تتغير فقط بسبب العوامل الدينية أو الصحية (كما حدث بعد جائحة كورونا)، بل أيضًا بفعل التحولات السياسية والاقتصادية التي جعلت الدولة مركز الحياة بدل القبيلة. ومع دخول أنماط جديدة عبر العمل الرسمي، والتعليم، والتحديث، تراجعت التحية التقليدية حتى اندثرت، لتبقى شاهدًا على مرحلة اجتماعية وثقافية سابقة. كذلك اليوم، هناك تعددية في أنماط التحية في المجتمع الليبي، حيث تتعايش أنماط تقليدية وحديثة ودينية. تشمل هذه الأنماط المصافحة، وتقبيل الخدين بين الأقارب والأصدقاء، والمصافحة فقط للزملاء أو المعارف العابرين، والعناق ولمس الرأس بين الشباب أو في أجواء خاصة. كما يُستخدم السلام اللفظي (السلام عليكم) عند المرور أو عندما لا يُراد الدخول في تفاعل اجتماعي طويل.
وعمومًا، فإن ما يعنينا الإشارة إليه في هذا الخصوص هو أن إعادة الحديث عن هذه الممارسات اليوم لا تعني العودة إليها حرفيًا، بل استدعاؤها يأتي كجزء من الذاكرة الاجتماعية المشتركة. يمكن النظر إليها كرموز لوحدة وطنية، تُذكّر الأجيال الجديدة بأن هناك قواسم اجتماعية مشتركة، وتفتح المجال لخطاب الهوية الجامعة بدلًا من الهويات المتنازعة. فكما أن السلام/التحية يعكس القرب والود، فإن استدعاء هذه الطقوس القديمة يمكن أن يلعب دورًا في إعادة بناء الثقة بين الليبيين، ويمكن أن يُستثمر في المصالحة الوطنية كجزء من إعادة إحياء الممارسات الرمزية التي توحد المجتمع. فالحديث عن أنماط التحية التقليدية في ليبيا ليس مجرد توثيق لماضٍ اجتماعي، بل هو مدخل لإبراز المشتركات الثقافية والرمزية بين الليبيين. وحتى نقرب المعنى أكثر، يمكن أن نشير إلى أنه في ظل الانقسامات الحالية، يمكن أن تساهم مثل هذه الرموز في إعادة ترميم الهوية الوطنية الجامعة، والتأكيد على أن ما يجمع الليبيين تاريخيًا وثقافيًا أكبر مما يفرقهم ويبعدهم سياسيًا.
#حسين_سالم_مرجين (هاشتاغ)
Hussein_Salem__Mrgin#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟