أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسين سالم مرجين - لماذا نستمر في الكتابة في علم الاجتماع؟















المزيد.....

لماذا نستمر في الكتابة في علم الاجتماع؟


حسين سالم مرجين
(Hussein Salem Mrgin)


الحوار المتمدن-العدد: 8507 - 2025 / 10 / 26 - 00:20
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


قبل أيام، تم رفض مقالة لي في إحدى المجلات المتخصصة بالدراسات الفلسطينية، والسبب هو أن المقالة لا تتضمن إلا مرجعًا واحدًا. لم يتم النظر إلى محتوى المقالة، بل إلى النواحي الشكلية فقط. ولندع هذه المشكلة جانبا ولنطرح سؤالًا: هل المقالات والبحوث التي تتضمن قائمة طويلة من المراجع هي بالضرورة جيدة؟ أليس من الممكن أن تعتمد تلك الدراسات بشكل كبير على تلك المراجع، مما يعني أنه قد لا توجد أفكار مبتكرة أو رؤية جديدة؟
علاوة على ذلك، يجب أن نتحدث عن الاستمرار في الكتابة بالأساليب والمناهج التقليدية دون النظر إلى المحتوى، خاصة في ظل التحولات الرقمية التي يشهدها العالم اليوم. وهذا يثير سؤالًا من فوق السطح : ما جدوى كل هذه الكتابات؟ ولماذا نواصل الكتابة في علم الاجتماع رغم أن تأثيرها في الواقع يكاد يكون غائبًا؟
إن هذه التساؤلات تدعونا لإعادة التفكير في طبيعة الكتابة الأكاديمية وأهمية المحتوى، مما يتطلب منا البحث عن أساليب وأدوات جديدة تتماشى مع التحولات الرقمية الحالية. هل تم تأمين الحياة لتلك الكتابات ؟
لقد كتبتُ سابقًا أن الكتابة مسؤولية تاريخية وليست مجرد مصلحة شخصية، لكنّي اليوم أرى أن السؤال الأهم هو: لماذا الاستمرار في الكتابة، رغم ما يبدو من فتورٍ عام تجاه هذا الحقل المعرفي؟ خلال العقود الخمس الماضية، كتب أساتذة علم الاجتماع العرب آلاف المقالات والدراسات، ونُشرت عشرات المؤلفات والمجلدات. ولكن، هل غيّرت هذه الكتابات من واقع مجتمعاتنا شيئًا؟
عند النظر في المشهد العربي العام، نجد أن تأثير علم الاجتماع يكاد يكون غائبًا، سواء على مستوى السياسات العامة أو في تيه العقول ووعي الناس في سلوكهم اليومي. فحين مرّت بلداننا بأزمات حادّة – مثل ليبيا، وسوريا، واليمن، ومصر – لم يكن لعلم الاجتماع حضورٌ حقيقي أو تأثير ملموس. لم تستدعِ الحكومات خبرات الباحثين، ولم تجد كتاباتهم طريقها إلى مراكز القرار أو حتى إلى النقاش العام الجاد.
هنا يبرز السؤال الجوهري: لماذا نستمر في الكتابة إذن؟ ما الذي يدفع الباحث في علم الاجتماع إلى الاستمرار في الكتابة، وهو يعلم أن ما يكتبه قد لا يُقرأ، أو يُقرأ ولا يُؤخذ به؟
قد يختلف الجواب من شخص لآخر، لكن بالنسبة لي، لا أكتب من أجل الترقية الأكاديمية، ولا من أجل وجاهة فكرية أو حضورٍ إعلامي. أكتب لأنني أؤمن أن الكتابة فعل مقاومة ضد النسيان، وضد الفوضى، وضد التبسيط المخلّ والتفاهة التي تملأ فضاءاتنا الرقمية.
الكتابة، في معناها الأعمق، ليست مجرد نشاط معرفي، بل هي مسؤولية تاريخية وواجب وطني. أن تكتب يعني أن تضع بصمة فكرية في سجل الزمن، أن تشهد على عصر، وأن تترك أثرًا في مجرى الوعي الجمعي، حتى لو بدا هذا الأثر خافتًا أو مؤجّلًا.
وهناك علاقة جدلية بين الأفكار والوقائع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذا التزاوج كما يراه بن نبي أمر ضروري في كل لحظة. فهو مقياس مستوى التقدم الحضاري، كونه مرتبطًا بفعالية البناء الاجتماعي المطلوب.
علم الاجتماع، بطبيعته، علم بطيء التأثير. لا يُحدث التغيير في يوم أو سنة، لكنه يبني تراكمًا من الفهم والوعي والتحليل، يُمكّن الأجيال القادمة من إدراك ذواتها ومجتمعاتها على نحو أعمق. ولهذا نكتب. نكتب كي لا تُختَزل صورة المجتمع في الشعارات، وكي لا يُختطف الخطاب العام من قِبل الخطابات السطحية. نكتب لأننا نؤمن أن الحقيقة، مهما كانت ضعيفة الصوت، تظل ضرورة أخلاقية.
ربما لن نرى ثمار ما نكتب اليوم، وربما لن يُنصف التاريخ هذا الجهد، لكننا نكتب لأن الكتابة في علم الاجتماع ليست ترفًا، بل واجبًا وجوديًا تجاه المجتمع والإنسان والتاريخ. أعتقد أن الدافع للاستمرار هو الوعي والمسؤولية التاريخية أمام الأجيال القادمة. والأهم هو اليقظة، وهي إدراك السلبيات، وتعزيز الإيجابيات، والاستفادة من الدروس، والاعتراف بالحقائق المكبوتة.
أعتقد أن الأمر لم يعد يقتصر على سؤال: لماذا نكتب في علم الاجتماع؟ بل صار يتطلب إعادة تعريف علم الاجتماع ذاته، وإعادة النظر في أدواته وأساليبه وطرائق تفكيره. لقد ابتعدنا كثيرًا عن جوهر هذا العلم كما أراده روّاده الأوائل، حين كان وسيلة لفهم الإنسان والمجتمع، لا مجرد تخصص أكاديمي أو حقل للتنظير المغلق.
حين كتب ابن خلدون مقدمته الشهيرة، لم يُطلب منه أحد ذلك، ولم يكن يسعى إلى منصب أو جاه أو قرب من سلطة. كتب بدافع من المسؤولية التاريخية التي رآها بعين الوعي، وبإدراكه العميق لما كانت عليه الأمة وما يمكن أن تؤول إليه.
لم يكن ابن خلدون يملك مختبرًا، ولا فريقًا بحثيًا، ولا دعمًا مؤسسيًا، لكنه امتلك عين السوسيولوجي الصافي: الرصد، والملاحظة، والتحليل، والقدرة على كشف ما يُسكَت عنه. كتب بصدق فكري وشجاعة نادرة، فكانت كلماته أعمق أثرًا من كثير من الوقائع التي عاصرها، وبقيت حيّة حتى يومنا هذا. لقد كان متواضعًا حين قال إنه ربما سبقه آخرون إلى ما كتب، لكنه لم يطّلع على أعمالهم. ومع ذلك، لم يمنعه ذلك من أن يبدأ من جديد، من أن يكتب ما يراه واجبًا معرفيًا وأخلاقيًا.
هذا هو الدرس الأهم الذي نحتاج لاستعادته اليوم: أن الكتابة ليست انتظارًا للاعتراف، بل وفاءٌ للفكرة، وإخلاصٌ للحقيقة.
ربما ما يدفعنا اليوم إلى مواصلة الكتابة، رغم كل الإحباطات، هو ذلك الإحساس نفسه الذي حمل ابن خلدون على أن يمسك قلمه في زمن الاضطراب والخيبة. نكتب لأننا نؤمن بأن الفكر لا يموت، وأن المعنى الحقيقي لعلم الاجتماع هو أن يظل عينًا يقظة على حركة التاريخ، مهما اشتد الظلام.
فالكتابة ليست ترفًا أكاديميًا أو وسيلة للحصول على ترقية علمية، بل هي فعل مقاومة ضد التفاهة وضد ضياع المعنى. في الوقت الذي يلعن فيه كثير من الأساتذة والباحثين في علم الاجتماع الفضاء الرقمي، لأنه أتاح المجال لغير المتخصصين للحديث في كل شيء، ينسون أن هذا الفضاء نفسه يمكن أن يكون منبرًا جديدًا لعلم الاجتماع إذا أُحسن استخدامه. كما يُقال: بدل أن تلعن الظلمة، أوقد شمعة. ونحن اليوم بحاجة إلى شمعة فكرية تُضيء لنا الطريق وسط هذا الكمّ من الضجيج.
إن مسؤولية الباحث في علم الاجتماع اليوم، في عصر التحولات الرقمية، لا تقتصر على تحليل الظواهر داخل أسوار الجامعة، بل يجب عليه أن يخرج إلى الفضاء العام، وأن يشارك في إعادة تشكيل الوعي الجمعي. فحين يغيب الصوت العميق، يملأ الفراغ من يملكون الأدوات دون المعرفة.
في المقابل، لا يزال المؤثرون في الفضاء الرقمي يتناولون قضايا اجتماعية معقّدة في سطرين أو مقطع قصير، فيجدون ملايين المعجبين، ليس لأن الطرح عميق، بل لأنه بسيط وسريع ومطابق لإيقاع العصر. هذه السطحية لا تملأ فراغًا معرفيًا فحسب، بل تُكرّس أيضًا حالة من التيه والوعي الزائف الذي يُغلق الباب أمام التفكير النقدي.
علم الاجتماع اليوم يشبه الطب في مجتمعات تكثر فيها اللجوء إلى الدجالين. حين يعجز الطب عن الوصول إلى الناس، أو يعجز الناس عن الوصول إليه، يملأ الدجالون الفراغ ليبيعوا التفاهة لأناس يأتون للبحث عنها. وكذلك الحال في علم الاجتماع: حين يبتعد الأساتذة عن الفضاء العام، يملؤه من يبيعون الكلام السهل والتحليل الفارغ. فالتفاهة لا تنتشر وحدها، بل تجد دائمًا من يسعى للبحث عنها.
إذن، الاستمرار في الكتابة ليس خيارًا ثانويًا، بل هو ضرورة معرفية وأخلاقية. إنها مسؤولية تجاه المجتمع، وتجاه الأجيال القادمة، وتجاه الحقيقة نفسها. بالتالي، نكتب لأننا نرفض أن يكون هناك تيه في العقول، أو يُختطف الوعي الجمعي من قبل من لا يدركون عمق الظواهر التي يتحدثون عنها. نكتب لأننا نؤمن بأن لكل كلمة صادقة أثرًا، حتى لو تأخّر ظهورها.



#حسين_سالم_مرجين (هاشتاغ)       Hussein_Salem__Mrgin#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المقال السوسيولوجي كجرعة وعي: نحو علم اجتماع شعبي رقمي
- تعطيل النظام الاخلاقي الغربي في حرب غزة
- بين الجبال والمواقف: رحلة حياة جدتي البطولية
- الدكتورة ناديا حياصات……كما عرفتها
- جيل زد في المغرب: من إسقاط الأنظمة إلى تحسين حوكمة الأداء ال ...
- الكتابة العلمية : ممارسة فكرية حيوية تنبض بالحياة
- ثمن العلم... إلى أين؟
- الأخلاقيات في البحث العلمي والحياة الاجتماعية : ممارسة فعلية ...
- مقاربة الشجرة في بناء المشروع النهضوي للتعليم في ليبيا
- عامين من طوفان الأقصى : تحولات من الدائرة العربية المغلقة إل ...
- دعوة لتأسيس تصنيف عربي للباحثين المؤثرين
- القضية الفلسطينبة بعد الخطاب الإسرائيلي في الأمم المتحدة : ق ...
- استدعاء أنماط التحية في المجتمع الليبي : تجسيد الهوية الوطني ...
- مدينة ودان كنموذج للتماسك الاجتماعي في ظل الأزمات في ليبيا
- عملية طوفان الأقصى : ليست مجرد خاطرة أو تسمية عابرة
- الحياة اليومية في المجتمع الليبي 1987- 1989 : قراءة نقدية لم ...
- مستقبل الأجيال في خطر: الفجوات التعليمية كنموذج
- جودة وضمانها في التعليم : إعادة بناء الثقافة كخطوة أساسية قب ...
- ما الذي ينقص ليبيا لتطوير تجربة تعليمية وطنية مشابهة للتجربة ...
- إعادة تشكيل العقل العربي بين المحاولات الفردية والهيمنة المع ...


المزيد.....




- -لن أضيع وقتي-.. كيف علّق ترامب على إعادة جدولة اجتماعه مع ب ...
- إسرائيل تنفذ غارات على غزة بعد ساعات من مغادرة وزير الخارجية ...
- شاهد ما قاله ترامب بحال لم يصمد اتفاق وقف إطلاق النار في غزة ...
- نائبة الرئيس الأمريكي السابق كامالا هاريس لبي بي سي: -قد أتر ...
- ماذا نعرف عن المجموعات المسلحة المناهضة لحركة حماس في غزة؟
- مسيرات أمريكية فوق قطاع غزة، وقائدان أمريكيان مدني وعسكري لم ...
- ما مقومات المواقف -الجريئة- لإسبانيا في الساحة الدولية؟
- بعد إنشاء مركز تنسيق عسكري مدني، واشنطن تسعى إلى تثبيت وقف إ ...
- دول الاتحاد الأوروبي تبدأ غدا العمل بالتوقيت الشتوي وسط مطال ...
- سيريكيت كيتياكارا -الملكة الأم- في تايلند


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسين سالم مرجين - لماذا نستمر في الكتابة في علم الاجتماع؟