|
ثيو فرانكن يعيد اختراع بلجيكا: من الضمان الاجتماعي إلى قصر السلاح اللامع
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8492 - 2025 / 10 / 11 - 23:39
المحور:
كتابات ساخرة
في خطوةٍ تُعدّ بحقّ عبقريةً سياسيةً لا تُضاهى، خرج علينا وزير الدفاع البلجيكي ثيو فرانكن في حوارٍ مع صحيفة "لوسوار" ليعلن عن مشروعه الطموح الذي سيُعيد تشكيل وجه بلجيكا الحديثة. هذا المشروع، الذي يبدو وكأنه مستوحى من أفلام الخيال العلمي أو ربما من حلقات كرتونية قديمة، يقوم على فكرةٍ بسيطة: تحويل كل يورو متبقٍ في خزائن الدولة إلى أسلحةٍ لامعة، وطائراتٍ مسيّرة مضادة، ومخزوناتٍ استراتيجية تكفي لخوض حربٍ عالمية ثالثة، رابعة، وربما خامسة إذا سمحت الميزانية. ولكن، من أين تأتي هذه الأموال؟ من جيوب البنوك؟ من استثماراتٍ ذكية؟ لا، بالطبع لا! إنها تأتي مباشرةً من جيوب المتقاعدين، والباحثين عن عمل، وأصحاب الأمراض المزمنة، وحتى من العمال الذين يجرؤون على طلب أجرٍ مقابل العمل في أيام الأحد أو الليالي الباردة في بروكسل.
اقتطاعاتٌ مالية بطعم الشوكولاتة البلجيكية
لنبدأ من حيث بدأت القصة: الضمان الاجتماعي. في بلجيكا، كان هذا النظام يُعتبر ركيزةً أساسيةً للمجتمع، حيث يضمن للمتقاعدين حياةً كريمة، وللباحثين عن عمل فرصةً للنهوض، وللمرضى المزمنين علاجًا لا يُجبرهم على بيع منازلهم. لكن، يبدو أن ثيو فرانكن لديه رؤيةً أخرى. في تصريحاته، لم يُخفِ نواياه: "لماذا ننفق على المتقاعدين الذين يقضون أيامهم في شرب القهوة وقراءة الصحف، بينما يمكننا شراء صواريخ متطورة تجعلنا نتباهى أمام جيراننا الأوروبيين؟" بالطبع، لم يقل هذا الكلام حرفيًا، لكن أفعاله تتحدث بصوتٍ أعلى من الكلمات. اقتطاعاتٌ هائلة من ميزانية الضمان الاجتماعي تم تحويلها بسرعة البرق إلى عقود دفاعية مع شركاتٍ أمريكية وبلجيكية، في صفقاتٍ تجعلك تتساءل إن كان هناك خصمٌ موسمي على الدبابات أو ربما عرض "اشترِ صاروخًا واحصل على قنبلة مجانًا".
لكن المتقاعدين ليسوا الوحيدين الذين دفعوا الثمن. الباحثون عن عمل، أولئك الذين يحلمون بفرصةٍ للعمل في مصنعٍ للشوكولاتة أو متجرٍ لبيع الوافل، وجدوا أنفسهم أمام خيارين: إما أن يصبحوا جنودًا في الجيش البلجيكي الجديد اللامع، أو أن يواصلوا البحث عن عملٍ بينما تُنفق أموالهم على معداتٍ عسكرية لا يفهمون حتى طريقة عملها. أما المرضى المزمنين، فقد تلقوا رسالةً غير مكتوبة من الحكومة: "اشتروا أدويتكم من السوق السوداء، فنحن مشغولون بتمويل طائراتٍ مسيّرة مضادة!"
ولا ننسَ العمال، أولئك الأبطال الذين يعملون في أيام العطل أو في الليالي الباردة. هؤلاء، بحسب رؤية فرانكن الاقتصادية، لا يستحقون أجورًا إضافية لأن عملهم في عطلات نهاية الأسبوع هو "تضحية وطنية" يجب أن يقدموها مجانًا. وبدلًا من تعويضهم، تم تحويل هذه الأموال إلى مشاريعٍ مثل "تجديد المخزونات الاستراتيجية"، وهي عبارةٌ تبدو مثيرةً للإعجاب حتى تكتشف أنها تعني شراء المزيد من القنابل والذخائر التي قد لا تُستخدم أبدًا.
ائتلاف أريزونا: بيع بلجيكا بأناقة
إذا كنت تظن أن هذه المليارات ( 34 مليار كدفعة اولى )هي لتعزيز الأمن القومي البلجيكي، فكر مرةً أخرى. بحسب مصادرنا (والتي تشمل على الأقل ثلاثة مواطنين غاضبين في مقهى في بروكسل)، فإن هذه الأموال هي جزءٌ من خطةٍ أكبر تُديرها الأحزاب في ما يُسمى "ائتلاف أريزونا". هذا الاسم، الذي يبدو وكأنه مستوحى من فيلم ويسترن قديم، يُخفي وراءه تحالفًا دوليًا يهدف إلى بيع بلجيكا – بكل أناقتها وشوكولاتها ووافلها – إلى قوى عسكرية أكبر. وما هي أفضل طريقة لإظهار الولاء من تحويل ميزانية الدولة إلى "عربون محبة وعبودية" لشركاء بلجيكا في الولايات المتحدة وحلف الناتو؟
في الأسبوع الماضي فقط، شهدنا توقيع صفقاتٍ ضخمة بين شركات الدفاع البلجيكية والأمريكية. هذه الصفقات، التي تُكلف أكثر من ميزانية بعض الدول الصغيرة، تتضمن كل شيءٍ من الصواريخ إلى الطائرات المسيّرة المضادة، وصولًا إلى أنظمةٍ دفاعية تجعلك تتساءل إن كانت بلجيكا تخطط لخوض حربٍ ضد كائناتٍ فضائية. لكن، بينما يتباهى فرانكن بهذه الصفقات، يبدو أن هناك سؤالًا لم يُجب عنه: هل هذه الأسلحة فعّالة حقًا؟
درسٌ من الكيان الصهيوني: مليارات الأسلحة لا تُصنع نصرًا
للإجابة عن هذا السؤال، دعونا نلقي نظرةً على الكيان الصهيوني، الذي يُعتبر نموذجًا لما يمكن أن تُحققه المليارات العسكرية... أو بالأحرى، ما لا يمكن أن تُحققه. هذا الكيان، المدعوم من حلف الناتو وممول بأموالٍ تجعل ميزانية بلجيكا تبدو كمصروف جيب، أنفق مئات المليارات على أسلحةٍ متطورة، من الطائرات المقاتلة إلى القنابل الذكية. ومع ذلك، عندما واجه مقاومةً صغيرة – نعم، صغيرة – في غزة وجنوب لبنان، وجد نفسه عاجزًا عن تحقيق أي نصرٍ يُذكر. هذه المقاومة، المحاصرة من العالم أجمع، ومُستهدفة بكل إمكانيات الناتو، استطاعت أن تقاوم ببسالة، بل وأن تجبر الكيان على التفاوض للإفراج عن أسراه.
والمفارقة؟ الإنجاز الوحيد الذي يتباهى به الكيان هو الإفراج عن أسيرٍ هنا أو هناك، ولكن فقط بعد إطلاق سراح مئات الأسرى الفلسطينيين من زنازينه. إذا كان هذا هو تعريف النصر، فإن بلجيكا ربما لا تحتاج إلى كل هذه المليارات لتحقيق نتائج مماثلة! ربما يمكن لفرانكن أن يرسل وفدًا إلى غزة ليتعلم كيف تُدار المقاومة بموارد محدودة، بدلًا من إنفاق ثروة الدولة على أسلحةٍ لامعة لم تثبت فعاليتها.
الطائرات المسيّرة: الخطر الوجودي الجديد
لكن دعونا نعود إلى بلجيكا، حيث يبدو أن فرانكن قد اكتشف العدو الأكبر الذي يهدد الأمة: الطائرات المسيّرة. نعم، تلك الأجهزة الصغيرة التي يستخدمها المراهقون لتصوير مقاطع فيديو على تيك توك أصبحت الآن الخطر الوجودي الأول على بلجيكا. في تصريحاته، أكد فرانكن أن مكافحة هذه الطائرات هي أولوية قصوى، ولهذا السبب يجب تخصيص مليارات اليوروهات لشراء أنظمةٍ مضادة للطائرات المسيّرة. لكن، بينما ينشغل الوزير بحماية سماء بروكسل من طائرةٍ مسيّرة قد تحمل كاميرا أو، في أسوأ الحالات، قنبلة يدوية الصنع، يتساءل المواطن البلجيكي: "ماذا عن المستشفيات؟ ماذا عن المدارس؟ ماذا عن الطرق التي تبدو وكأنها مستوحاة من سطح القمر؟"
إن فكرة أن الطائرات المسيّرة هي التهديد الأكبر على بلجيكا هي بحد ذاتها دعابة تستحق جائزة الكوميديا السياسية لهذا العام. بينما يعاني المواطنون من نقص الممرضات، وارتفاع تكاليف المعيشة، وانهيار البنية التحتية، يبدو أن الحل الوحيد الذي يراه فرانكن هو شراء المزيد من الأسلحة. ربما يعتقد أن الطائرات المسيّرة تخطط لمهاجمة متاجر الوافل، أو أنها ستهدد إمدادات الشوكولاتة البلجيكية. في كلتا الحالتين، يبدو أن الوزير مصمم على تحويل بلجيكا إلى حصنٍ عسكري، حتى لو كان ذلك على حساب كل شيءٍ آخر.
تجديد المخزونات الاستراتيجية: أو كيف تُنفق مليارات على شيء لا أحد يفهمه
أحد أكثر المصطلحات إثارةً للإعجاب في خطاب فرانكن هو "تجديد المخزونات الاستراتيجية". هذه العبارة، التي تبدو وكأنها مأخوذة من كتيّب تسويقي لشركة أسلحة، تعني في الواقع شيئًا بسيطًا جدًا: شراء المزيد من الذخائر، والقنابل، والصواريخ التي قد لا تُستخدم أبدًا. لكن، لماذا نكتفي بمستشفياتٍ مجهزة أو مدارس حديثة عندما يمكننا أن نمتلك مستودعاتٍ مليئة بالقنابل التي ستظل مغطاة بالغبار حتى نهاية العالم؟
في خطوةٍ تُظهر مدى تفكير فرانكن الاستراتيجي، قرر أن هذه المخزونات يجب أن تكون جاهزةً لأي سيناريو، سواء كان ذلك حربًا عالمية، أو هجومًا فضائيًا، أو حتى ثورةً من قبل مواطني بلجيكا الغاضبين من ارتفاع أسعار البيرة. ولكن، بينما يتم إنفاق المليارات على هذه المخزونات، يبدو أن هناك نقصًا في الإجابات عن أسئلةٍ بسيطة: من سيدفع ثمن هذا؟ ولماذا نحتاج إلى كل هذه الأسلحة؟ وهل حقًا ستحمينا من الطائرات المسيّرة التي يستخدمها الأطفال في الحدائق العامة؟
التواجد العسكري في الشوارع: منظرٌ يبعث على الطمأنينة
جزءٌ آخر من خطة فرانكن العبقرية هو زيادة التواجد العسكري في شوارع بلجيكا. لأن، كما يبدو، لا شيء يجعل المواطن يشعر بالأمان أكثر من رؤية جنديٍ يحمل بندقية بقيمة راتبه السنوي وهو يقف أمام متجر وافل مغلق. هذا التواجد، بحسب الوزير، سيردع أي تهديداتٍ محتملة، سواء كانت من الطائرات المسيّرة أو من مواطنين يحتجون على اقتطاعات الضمان الاجتماعي. لكن، دعونا نكون صريحين: إذا كنت تعيش في بروكسل وترى جنديًا يحمل سلاحًا ثقيلًا بينما تحاول شراء قهوة، هل ستشعر بالأمان أم بالرعب؟
هذا التواجد العسكري، الذي يكلف الملايين سنويًا، يبدو وكأنه محاولة لإقناع المواطنين بأن الحكومة تفعل شيئًا، حتى لو كان هذا الشيء هو مجرد إضافة المزيد من التوتر إلى حياتهم اليومية. وبينما يتجول الجنود في شوارع أنتويرب وغنت، يتساءل المواطنون: "لماذا لا يتم إنفاق هذه الأموال على تحسين النقل العام؟ أو على بناء مستشفيات جديدة؟ أو حتى على إصلاح الطرق التي تجعل القيادة في بلجيكا تشبه رحلةً إلى القمر؟"
السخرية من الواقع: بلجيكا في مواجهة المستقبل
في النهاية، يبدو أن ثيو فرانكن قد قرر أن الطريق إلى عزّة بلجيكا يمر عبر التخلي عن كل ما يجعل الحياة في هذا البلد قابلةً للعيش. الضمان الاجتماعي؟ لماذا نحتاجه عندما يمكننا شراء صواريخ؟ الرعاية الصحية؟ من يحتاج إلى مستشفيات عندما لدينا دبابات؟ التعليم؟ من يحتاج إلى مدارس عندما يمكننا تدريب الأطفال على استخدام الأسلحة؟ هذه هي رؤية فرانكن للمستقبل، وهي رؤية تجمع بين السخرية والمأساة بطريقةٍ تجعلك تتساءل إن كان هذا الرجل يعيش في نفس البلد الذي يعيش فيه بقية البلجيكيين.
لكن، دعونا لا ننسى السياق الدولي. بينما تُنفق بلجيكا ملياراتها على أسلحةٍ لم تثبت فعاليتها في ساحات القتال، يستمر الكيان الصهيوني في إظهار أن المال وحده لا يكفي لتحقيق النصر. المقاومة في غزة وجنوب لبنان، رغم الحصار والاستهداف، أثبتت أن الإرادة والصمود يمكن أن تهزم أقوى الجيوش. ربما يحتاج فرانكن إلى درسٍ من هذه المقاومة، درسٍ يعلمه أن الأمن الحقيقي لا يأتي من الأسلحة اللامعة، بل من العدالة والرفاهية للمواطنين.
خاتمة: بلجيكا بين الوافل والصواريخ
في الختام، يبدو أن ثيو فرانكن قد وضع بلجيكا على مسارٍ جديد: مسارٌ يحولها من بلدٍ معروف بالشوكولاتة والوافل إلى حصنٍ عسكري ينافس أكبر القوى العالمية. لكن، بينما يحلم الوزير بطائراتٍ مسيّرة مضادة ومخزوناتٍ استراتيجية، يحلم المواطن البلجيكي بحياةٍ كريمة، بمستشفياتٍ تعمل، وبمدارس لا تسقط أسقفها. ربما حان الوقت لأن يتوقف فرانكن عن بيع بلجيكا بأناقتها، وأن يبدأ بالاستماع إلى شعبها. وإذا لم يفعل، فقد يكون الحل الوحيد هو إرساله في رحلةٍ إلى غزة ليتعلم من المقاومة كيف يمكن للقليل أن يهزم الكثير.
……………
بلجيكا في مفترق طرق: سياسات الدفاع على حساب الضمان الاجتماعي
في تصريحاتٍ أدلى بها لصحيفة "لوسوار"، أعلن وزير الدفاع البلجيكي ثيو فرانكن عن خططٍ طموحة لتعزيز القدرات العسكرية لبلجيكا، مشيرًا إلى أولوياته التي تشمل مكافحة الطائرات المسيّرة، تجديد المخزونات الاستراتيجية، وتعزيز التواجد العسكري في الشوارع. تأتي هذه التصريحات بعد أسبوع من توقيع صفقاتٍ دفاعية كبرى بين شركات بلجيكية وأمريكية، في خطوةٍ أثارت جدلاً واسعًا حول مصادر تمويل هذه المشاريع وتداعياتها على القطاعات الاجتماعية. يُثير هذا التوجه تساؤلاتٍ حول أولويات الحكومة البلجيكية في ظل تحديات اقتصادية واجتماعية متزايدة، ويفتح نقاشًا حول مدى فعالية الإنفاق العسكري في تحقيق الأمن الحقيقي.
مصادر التمويل: ضغوط على الضمان الاجتماعي
تشير تقارير إلى أن التمويل اللازم لتحقيق رؤية فرانكن يعتمد جزئيًا على إعادة تخصيص موارد من ميزانيات القطاعات الاجتماعية، بما في ذلك الضمان الاجتماعي، الرعاية الصحية، وبرامج دعم الباحثين عن عمل. هذه الخطوة أثارت استياءً واسعًا بين النقابات والمنظمات الاجتماعية، التي ترى أن تقليص الإنفاق على الخدمات الأساسية سيؤثر سلبًا على الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع، مثل المتقاعدين، المرضى المزمنين، وأولئك الذين يعتمدون على دعم الدولة لتلبية احتياجاتهم اليومية.
في بلجيكا، يُعتبر نظام الضمان الاجتماعي أحد الأعمدة الأساسية للدولة الرفاهية، حيث يوفر الحماية لملايين المواطنين. لكن الاقتطاعات الأخيرة، التي شملت خفض المخصصات للمتقاعدين وتقليص برامج دعم البطالة، أثارت مخاوف من تدهور مستوى المعيشة. على سبيل المثال، تم تقليص مخصصات العلاج للمرضى المزمنين في بعض المناطق، مما دفع العديد منهم إلى البحث عن بدائل خاصة باهظة التكلفة. كما تأثر العمال الذين يعملون في أيام العطل أو الورديات الليلية، حيث تم اقتراح تقليص الحوافز المالية لهذه الوظائف، مما زاد من الضغوط الاقتصادية على هذه الفئة.
صفقات الدفاع: استثمار أم عبء؟
تتضمن الخطة الدفاعية التي يروّج لها فرانكن استثماراتٍ ضخمة في تطوير أنظمة مكافحة الطائرات المسيّرة، تحديث الأسلحة، وتوسيع المخزونات الاستراتيجية. هذه المشاريع تأتي في إطار تعاون وثيق مع شركاء دوليين، لا سيما الولايات المتحدة، التي وقّعت معها بلجيكا مؤخرًا اتفاقياتٍ لتزويد الجيش بمعدات متطورة. لكن هذه الصفقات، التي تُكلف مليارات اليوروهات، أثارت تساؤلات حول جدواها الاقتصادية والاستراتيجية.
من الناحية الاقتصادية، يجادل مؤيدو هذه الصفقات بأنها ستعزز الصناعات الدفاعية البلجيكية، وستخلق فرص عمل جديدة. لكن النقاد يرون أن الفوائد الاقتصادية المحتملة لا تتناسب مع التكاليف الهائلة، خاصةً في ظل الأزمات الاقتصادية التي تواجهها البلاد. على سبيل المثال، تشير تقديرات إلى أن تكلفة تطوير نظام مكافحة الطائرات المسيّرة وحده قد تتجاوز ميزانية العديد من المستشفيات العامة في بلجيكا. كما أن الإنفاق على المخزونات الاستراتيجية، التي تشمل الذخائر والمعدات العسكرية، يُثير تساؤلات حول مدى حاجة بلجيكا لهذا الحجم من التسليح في وقتٍ لا تواجه فيه تهديدات عسكرية مباشرة.
السياق الدولي: دروس من الشرق الأوسط
تأتي هذه السياسات الدفاعية في وقتٍ يشهد فيه العالم نقاشاتٍ حادة حول فعالية الإنفاق العسكري. على سبيل المثال، يُشار إلى تجربة الكيان الصهيوني، الذي أنفق مئات المليارات على ترسانته العسكرية، بدعمٍ من حلف الناتو والولايات المتحدة. ورغم هذا الإنفاق الهائل، فشل الكيان في تحقيق أهدافه العسكرية في مواجهة مقاومةٍ محدودة الموارد في غزة وجنوب لبنان. هذه المقاومة، التي تواجه حصارًا دوليًا وتفتقر إلى الموارد الأساسية، استطاعت أن تقاوم الآلة العسكرية الصهيونية، مما يُثير تساؤلات حول جدوى الاستثمار في الأسلحة على حساب التنمية الاجتماعية.
في هذا السياق، يُشير المحللون إلى أن الأمن الحقيقي لا يتحقق فقط من خلال القوة العسكرية، بل من خلال بناء مجتمعٍ متماسك يتمتع بالرفاهية والعدالة. في حالة بلجيكا، يرى النقاد أن التركيز على الإنفاق العسكري قد يؤدي إلى إهمال هذه الجوانب الأساسية، مما يعرّض الاستقرار الداخلي للخطر. على سبيل المثال، تشير التقارير إلى أن نسبة الفقر في بلجيكا ارتفعت في السنوات الأخيرة، وأن النظام الصحي يعاني من نقصٍ في الموارد، مما يجعل قرارات الإنفاق العسكري مثيرةً للجدل.
التواجد العسكري في الشوارع: هل هو الحل؟
من بين المقترحات التي طرحها فرانكن زيادة التواجد العسكري في الشوارع البلجيكية، بهدف تعزيز الأمن العام. هذه الخطوة، التي تهدف إلى ردع التهديدات المحتملة، أثارت ردود فعل متباينة. فبينما يرى البعض أنها ضرورية في ظل التحديات الأمنية العالمية، يرى آخرون أنها تضيف إلى التوتر العام ولا تُعالج جذور المشكلات الأمنية. على سبيل المثال، تشير دراسات إلى أن التواجد العسكري المكثف في المدن قد يُشعر المواطنين بالقلق بدلاً من الطمأنينة، خاصةً في غياب تهديداتٍ واضحة.
كما أن تكلفة هذا التواجد العسكري تُثير تساؤلات حول جدواه. فالجنود الذين يتم نشرهم في الشوارع يحتاجون إلى تدريب، معدات، ورواتب، مما يضيف أعباءً إضافية على الميزانية. في الوقت ذاته، يعاني القطاع العام من نقصٍ في الموارد، حيث تفتقر العديد من المدن البلجيكية إلى عددٍ كافٍ من أفراد الشرطة أو العاملين في القطاع الصحي. هذا التناقض يُبرز الحاجة إلى مراجعة الأولويات الحكومية، مع التركيز على تحقيق توازن بين الأمن العسكري والأمن الاجتماعي.
التحديات الاقتصادية والاجتماعية
تواجه بلجيكا تحدياتٍ اقتصادية واجتماعية معقدة، تجعل قرارات الإنفاق العسكري محط جدل. على سبيل المثال، يعاني النظام الصحي من ضغوطٍ متزايدة بسبب نقص التمويل والموارد البشرية. في الوقت ذاته، تواجه المدارس تحدياتٍ في تحديث البنية التحتية، مما يؤثر على جودة التعليم. كما أن ارتفاع تكاليف المعيشة دفع العديد من الأسر إلى الاعتماد على المساعدات الحكومية، التي تتعرض الآن للتقليص.
في هذا السياق، يرى المحللون أن الإنفاق العسكري المفرط قد يؤدي إلى تفاقم هذه التحديات. على سبيل المثال، تشير تقديرات إلى أن تكلفة شراء نظام دفاعي واحد قد تكفي لتمويل بناء عشرات المدارس أو تجهيز مستشفيات جديدة. هذه المقارنة تُبرز الحاجة إلى نقاشٍ وطني حول كيفية تخصيص الموارد بطريقةٍ تحقق التوازن بين الأمن والرفاهية.
نحو سياسة متوازنة
في ظل هذه التطورات، يبدو أن بلجيكا تقف على مفترق طرق. من جهة، هناك حاجةٌ لتعزيز القدرات الدفاعية في عالمٍ يشهد توتراتٍ جيوسياسية متزايدة. من جهة أخرى، فإن إهمال القطاعات الاجتماعية قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار الداخلي. إن تجربة دول أخرى، مثل الكيان الصهيوني، تُظهر أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي لتحقيق الأمن، وأن بناء مجتمعٍ قوي يتطلب استثمارًا في الرفاهية، التعليم، والرعاية الصحية.
لذلك، يدعو المراقبون إلى إعادة تقييم السياسات الحكومية، مع التركيز على تحقيق توازن بين الإنفاق العسكري والاجتماعي. يمكن أن تشمل هذه الإعادة تخصيص جزء من الميزانية الدفاعية لدعم القطاعات الحيوية، مثل الصحة والتعليم، مع الاستمرار في تطوير قدرات دفاعية تتناسب مع التهديدات الفعلية التي تواجهها البلاد.
خاتمة: إعادة تعريف الأمن
إن التحدي الذي يواجه بلجيكا اليوم ليس فقط في اختيار نوع الأسلحة التي يجب شراؤها، بل في تحديد نوع المجتمع الذي تريد أن تكونه. هل تريد بلجيكا أن تكون دولةً تعتمد على القوة العسكرية، أم دولةً تركز على رفاهية مواطنيها؟ إن قرارات مثل تلك التي يروّج لها ثيو فرانكن تُظهر أولوياتٍ قد لا تتماشى مع تطلعات الشعب البلجيكي. في نهاية المطاف، الأمن الحقيقي لا يُقاس بعدد الصواريخ أو الجنود في الشوارع، بل بقدرة المجتمع على توفير حياةٍ كريمة لجميع مواطنيه.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية ديناصور الخراب
-
غزة تدعس على الكيان: كوميديا المقاومة التي أطاحت باللوبي الص
...
-
رواية -القمر الذي أضاء الخرافات-.. رواية قصيرة جدا
-
ديناصور الخراب: لوييه ميشيل وإرث النازية الجديدة في قلب أورو
...
-
قصص سبع عن مدن الظلال المقيتة أو مدن الوهابية الظلامية
-
أردوغان: خليفة الوهم أم منظف مراحيض الناتو؟
-
عصابات الجولاني ومهرجان البصمات على أوامر الناتو الاستعماري
-
مسرحية -حافة الهاوية-
-
أمريكا: إمبراطورية الفقاعات وأوهام الدولار السحري..كتابات سا
...
-
رواية: رقصة النيل الساخرة
-
السلام المزيف: قصة كيف غرقت مصر وفلسطين في بحر من النكات الس
...
-
السيرك العالمي يفتتح موسمه الجديد في تل أبيب وواشنطن..كتابات
...
-
أزمة الإمبراطورية الأمريكية : الهبوط نحو الهاوية
-
مسرحية : ايقاعات الورك المتمرد
-
مجموعة قصصية : أكوام الخيال - الجزء الأول-
-
الثقب الأسود الأوكراني: كوميديا جيوسياسية في مسرح العبث
-
خيوط الاستعمار الإنكليزي ومحميات الخليج في صلب الفوضى العالم
...
-
مسرحية -مدرسة الوحدة العجيبة-
-
من إيقاعات النيل إلى أسواق إدلب : رقصة الشرق ضد الإسلام الصه
...
-
رواية: خيوط الزيف
المزيد.....
-
بيت المدى يستذكر الأديب الباحث الدكتور علي عباس علوان
-
-كتاب الرياض- يناقش صناعة المحتوى الثقافي
-
-الممثل غير المحترف-.. جديد محمد عبد الرحمن في معرض الرياض ل
...
-
دان براون يعود ليسأل: ماذا بعد الموت؟ قراءة في -سر الأسرار-
...
-
-الحافلة الضائعة-.. فيلم يعيد الفتى الذهبي ماثيو ماكونهي إلى
...
-
-منتدى أصيلة- يسلم الإيفوارية تانيلا بوني جائزة -تشيكايا اوت
...
-
هل يمكن فصل -التاريخ- كما جرى عن -التأريخ- كما يُكتب؟ الطيب
...
-
لازلو كراسناهوركاي.. الكاتب الذي عبر من الأدب إلى السينما وص
...
-
صورة المعلم في الرواية العربية: دراسة نقدية منهجية تطبيقية ت
...
-
أسماء أطفال غزة الشهداء تقرأ في سراييفو
المزيد.....
-
رسائل سياسية على قياس قبقاب ستي خدوج
/ د. خالد زغريت
-
صديقي الذي صار عنزة
/ د. خالد زغريت
-
حرف العين الذي فقأ عيني
/ د. خالد زغريت
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
المزيد.....
|