أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - قصص سبع عن مدن الظلال المقيتة أو مدن الوهابية الظلامية















المزيد.....



قصص سبع عن مدن الظلال المقيتة أو مدن الوهابية الظلامية


احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية

(Ahmad Saloum)


الحوار المتمدن-العدد: 8489 - 2025 / 10 / 8 - 16:13
المحور: الادب والفن
    


مقدمة نقدية أدبية للقصص القصيرة

تتجلى القصص القصيرة الموسعة المقدمة في هذا العمل كمرآة عاكسة لروح العصر، حيث تمتزج الواقعية السحرية بالتراجيديا الإنسانية والسخرية المرة، لتخلق نسيجاً سردياً يعبر عن حالة الإنسان في ظل الخراب الاجتماعي والسياسي. هذه القصص، المنبثقة من سياق رمزي يحاكي واقعاً متشظياً، لا تكتفي بتقديم حكايات فردية، بل تشكل لوحة فنية متكاملة تستكشف التناقضات البشرية، وتفكك الأوهام التي تحيط بالمجتمعات الممزقة. إنها، بمعنى ما، محاولة لفهم الإنسان في مواجهة قوى أكبر منه، سواء كانت هذه القوى سياسية، اقتصادية، أو حتى ميتافيزيقية. من خلال سبع قصص، تتكشف رؤية أدبية تعتمد على الرمزية والعمق النفسي، مستلهمة من تقاليد أدبية غنية تجمع بين الواقعية القاسية والخيال الشاعري، لتقدم تأملاً عميقاً في الوجود الإنساني.

السياق الرمزي والواقع المشوه
تدور القصص في فضاءات رمزية مثل "إمارة الظل" و"مدينة الريح" و"مدينة الغبار"، وهي أماكن لا تحمل أسماء حقيقية، لكنها تحمل في طياتها إحساساً بالواقع المعاش. هذه الأماكن ليست مجرد خلفيات جغرافية، بل هي كيانات حية تتنفس وتعاني مع الشخصيات. إن اختيار أسماء رمزية للمدن يعكس رغبة في تعميم التجربة الإنسانية، بحيث تصبح القصص ليست قصراً على مكان أو زمان محدد، بل تعبر عن حالة كونية. الإمارة هنا ليست مجرد مدينة، بل رمز للسلطة المشوهة، للنظام الذي يتظاهر بالعدالة بينما يخفي الفوضى. الريح والغبار والدخان ليست عناصر طبيعية فحسب، بل هي تعبيرات عن الزمن المتلاشي، عن الأمل المفقود، وعن الأكاذيب التي تحيط بالإنسان.

القصص، في جوهرها، تتناول انهيار المعنى في مجتمعات فقدت بوصلتها. إنها تصور عالماً حيث الحقيقة تُستبدل بالوهم، والعدالة بالظلم، والإنسانية بالوحشية. لكنها لا تقع في فخ الوعظ أو التبسيط، بل تترك للقارئ مساحة للتأمل والتفسير. هذا النهج يذكرنا بالأدب الذي يعتمد على الغموض المتعمد، حيث تكون الحقيقة متعددة الوجوه، ولا يمكن التقاطها بسهولة. الشخصيات، من أبو نور إلى أبو الفرش، ليست مجرد أفراد، بل رموز لأنماط بشرية: الشيخ الذي يبحث عن الحقيقة في السماء، الثائر الذي يكتشف خيانة حلمه، الأب الذي يحارب من أجل بقاء عائلته، والانتهازي الذي يبيع ضميره من أجل السلطة أو المال.

الواقعية السحرية: مزج الواقع بالخيال
إحدى السمات الأبرز في هذه القصص هي استخدام الواقعية السحرية كأداة سردية. في "الشمس التي طلعت من الغرب"، يتحول انعكاس القمر إلى علامة كونية تثير الفوضى، لكن هذا الحدث ليس مجرد خداع بصري، بل استعارة للخداع الجماعي الذي يصيب المجتمعات عندما تفقد قدرتها على التفكير النقدي. هذا العنصر السحري، الذي يبدو غريباً في البداية، يصبح منطقياً في سياق عالم فقد المنطق. الواقعية السحرية هنا لا تهدف إلى الهروب من الواقع، بل إلى تعميق فهمه. إنها تعكس حالة المجتمعات التي تعيش في ظل الأوهام، حيث يمكن للقمر أن يُخطأ بالشمس، وللحقيقة أن تُستبدل بالخرافة.

هذا النهج يتكرر في قصص أخرى، مثل "أكذوبة الكبتاغون"، حيث تتحول الأكاذيب إلى حقائق في أذهان الناس، حتى تظهر الحقيقة فجأة في لحظة دراماتيكية كمعركة على الحدود. الواقعية السحرية هنا ليست مجرد زخرفة أدبية، بل وسيلة لكشف التناقضات العميقة في المجتمع. إنها تسمح للقصص أن تتحرك بين الواقع والخيال، بين الملموس والرمزي، لتقدم صورة أكثر شمولية للواقع المشوه.

السخرية والنقد الاجتماعي
السخرية هي سلاح آخر تستخدمه القصص لتفكيك الأوهام. في "منظف المراحيض الوهابي"، نرى شخصية أبو الفرش، الذي يتحول من طالب طموح إلى أداة في يد قوى خارجية، يردد شعارات لا يفهمها. السخرية هنا ليست مجرد تسلية، بل نقد لاذع للانتهازية والخيانة. الشخصية، التي كانت تحلم بأن تكون عالماً، تجد نفسها "منظفاً لمراحيض العقل الوهابي"، وهي استعارة قوية لتدهور الأحلام في ظل الفساد. هذه السخرية، المرة في جوهرها، تعكس رؤية أدبية ترى العالم كمسرح عبثي، حيث يتحول الإنسان إلى دمية في يد قوى أكبر منه.

السخرية تظهر أيضاً في "الرجل الذي باع توقيعه"، حيث يصبح أبو القلم رمزاً للانتهازي الذي يبيع كرامته مقابل السلطة والمال. القصة لا تكتفي بإدانة الشخصية، بل تمتد لتنتقد المجتمع الذي يسمح لهذه الشخصيات بالازدهار. إنها سخرية من النوع الذي يجعل القارئ يضحك ويبكي في آن واحد، لأنها تكشف عن الحقيقة المؤلمة: أن الإنسان، في لحظات الضعف، قد يختار البقاء على حساب المبادئ.

الصراع النفسي والعمق الإنساني
القصص لا تقتصر على النقد الاجتماعي، بل تغوص في أعماق النفس البشرية. شخصيات مثل أبو زيد في "صرخة في وادي الدمار" وأبو عمر في "الراتب الذي أصبح سراباً" تعكس صراع الإنسان مع الذنب، الندم، واليأس. أبو زيد، الذي آمن بالثورة، يكتشف أنها كانت وهماً، وهذا الاكتشاف يحطمه نفسياً. القصة لا تقدمه كضحية فقط، بل كشخصية معقدة تحمل مسؤولية اختياراتها. هذا العمق النفسي يجعل القارئ يتعاطف معه، حتى وهو يرى عيوبه.

أبو عمر، من جهته، يمثل الأب الذي يكافح من أجل عائلته في عالم فقد كل معنى. صراعه ليس فقط مع الفقر، بل مع شعوره بالعجز أمام أطفاله. هذه اللحظات، التي يجلس فيها تحت ضوء الشمعة ويتحدث مع زوجته، تعكس رؤية أدبية ترى الإنسان ككائن محاصر بين الأمل واليأس. هذا الصراع يذكرنا بالأدب الذي يركز على الإنسان كفرد، وليس كجزء من جماعة، حيث تصبح معاناته الفردية مرآة لمعاناة المجتمع بأكمله.

الرمزية والاستعارة
الرمزية هي العمود الفقري لهذه القصص. في "الشمس التي طلعت من الغرب"، القمر الذي يُخطأ بالشمس هو رمز للأوهام التي تحكم المجتمعات. في "أكذوبة الكبتاغون"، المخدرات تصبح استعارة للأكاذيب التي تُباع للناس تحت شعارات الحرية. حتى الأسماء – أبو نور، أبو زيد، أبو القلم – تحمل دلالات رمزية: النور يشير إلى البحث عن الحقيقة، زيد إلى الكفاح، والقلم إلى الخيانة الفكرية. هذه الرمزية لا تثقل القصص، بل تضيف إليها طبقات من المعنى، تجعلها مفتوحة لتفسيرات متعددة.

النقد السياسي والاجتماعي
على الرغم من طابعها الأدبي، فإن القصص تحمل نقداً سياسياً قوياً. إنها تكشف عن الفساد، الانتهازية، والدمار الذي تسببه القوى الخارجية والداخلية في المجتمعات. في "الرجل الذي باع توقيعه" و"أبو خشم والجنة الأوروبية"، نرى كيف تتحول الأفراد إلى أدوات في يد قوى أجنبية، تاركين وطنهم يغرق في الفوضى. هذا النقد لا يقتصر على الأفراد، بل يمتد إلى الأنظمة التي تسمح لهذه الظاهرة بالازدهار. القصص تكشف عن تناقضات الثورات التي وعدت بالحرية، لكنها أدت إلى الخراب، كما في "صرخة في وادي الدمار" و"الراتب الذي أصبح سراباً".

اللغة والأسلوب
اللغة في هذه القصص هي مزيج من البساطة والشاعرية، حيث تتحول الجمل القصيرة إلى لوحات حية تصور المشهد بدقة. الأسلوب يعتمد على الاقتصاد في التعبير، لكنه لا يفقد العمق. هناك إيقاع موسيقي في السرد، يجمع بين الوصف الدقيق والتأمل الفلسفي. هذا الأسلوب يسمح للقصص أن تكون متاحة للقارئ العادي، لكنه يحمل في الوقت ذاته عمقاً يجذب القارئ المتأمل.

الخاتمة
هذه القصص ليست مجرد حكايات عن أفراد، بل هي تأملات في حالة الإنسان في عالم فقد معناه. إنها تجمع بين السخرية المرة، الواقعية السحرية، والنقد الاجتماعي لتقدم صورة معقدة للمجتمعات الممزقة. من خلال شخصياتها الرمزية وأماكنها الخيالية، تطرح القصص أسئلة عميقة عن الحقيقة، الأمل، والخيانة. إنها دعوة للتأمل في مصير الإنسان، ليس فقط في إمارة الظل أو مدينة الغبار، بل في كل مكان يعاني فيه الإنسان من الظلم والوهم.



القصة الأولى: الشمس التي طلعت من الغرب

في إمارة الظل، مدينة صغيرة تقع على تخوم الصحراء، كانت الحياة تدور في حلقة مفرغة من الخوف والانتظار. الشوارع الضيقة، المغطاة بالغبار، كانت تحمل آثار سنوات من الصراعات، حيث تقاوم الأنقاض الصمت العنيد للمباني المهجورة. وسط هذا الخراب، كان الشيخ أبو نور، رجل في الستين، يقف كل ليلة أمام نافذة مسجده القديم، يراقب السماء كأنها كتاب مفتوح يكشف أسرار الكون. لحيته البيضاء الطويلة ووجهه المحفور بخطوط الزمن كانا يمنحانه هيبة تجعل الناس ينظرون إليه كحارس للحقيقة، رغم أن الحقيقة نفسها كانت غالباً غائبة في إمارة الظل.

كان المسجد، وهو بناء متواضع من الطين والحجر، الملاذ الوحيد للأهالي. في النهار، كان الأطفال يلعبون في فنائه، وفي الليل، كان الرجال يجتمعون ليستمعوا إلى أبو نور وهو يروي قصصاً عن أيام مضت، عندما كانت الحياة أقل قسوة. لكن تلك الليلة كانت مختلفة. كان الهواء بارداً، والسماء صافية بشكل غير معتاد. وقف أبو نور، كعادته، يتأمل النجوم، عندما لاحظ ضوءاً غريباً ينبعث من جهة الغرب، حيث لا تشرق الشمس أبداً. كان الضوء ساطعاً، يشبه كرة نارية تتحدى قوانين الطبيعة. توقف قلبه للحظة، ثم صرخ بصوت ملأ الفضاء: "القيامة! الشمس طلعت من مغربها!"

لم تكن هذه العبارة مجرد كلمات، بل كانت جرس إنذار يحمل في طياته أساطير قديمة عن نهاية العالم. ركض أبو نور إلى المنبر، ودق جرس المسجد، وهو ينادي الناس ليتوبوا قبل أن يُغلق باب التوبة إلى الأبد. في غضون دقائق، انتشر الخبر كالنار في الهشيم. خرج الناس من بيوتهم، يحملون أمتعتهم القليلة، يصرخون ويبكون، مقتنعين أن اليوم الأخير قد حان. الأمهات احتضنن أطفالهن، والرجال تركوا دكاكينهم، وبعضهم بدأ يوزع الطعام على الفقراء، ظناً منهم أن هذا سيفتح لهم أبواب الجنة. لكن الفوضى لم تتوقف عند هذا الحد. بدأت الشائعات تنتشر: قال البعض إن الضوء هو علامة على غضب إلهي، وادعى آخرون أنه سلاح جديد أطلقته قوى خفية من الخارج. تحولت إمارة الظل إلى مسرح عبثي، حيث كان الجميع يتحرك دون هدف، مدفوعين بالخوف والوهم.

كان أبو نور، وسط هذا الزحام، يحاول فرض النظام. وقف على منبره، يخطب في الناس، يحثهم على التوبة والصلاة. لكنه، في قرارة نفسه، شعر بشكوك تزحف إلى قلبه. كان قد قرأ الكتب القديمة، وسمع القصص عن علامات الساعة، لكنه لم يكن متأكداً. هل كان هذا حقاً طلوع الشمس من مغربها؟ أم أن عينيه خدعتاه؟ مع بزوغ الفجر، بدأت الحقيقة تتضح. الضوء لم يكن الشمس، بل كان انعكاساً غريباً للقمر على بحيرة متجمدة في الغرب. ربما كانت غازات غامضة، أو ظاهرة جوية نادرة، هي التي تسببت في هذا الوهم البصري. توقف الناس، مذهولين، ينظرون إلى السماء. الأطفال ضحكوا، لكن الرجال والنساء ظلوا صامتين، كأن الحقيقة كانت أكثر إيلاماً من الوهم.

عاد أبو نور إلى مسجده، وجلس على كرسيه الخشبي القديم. كان يفكر في ما حدث. كيف تحولت لحظة من الوهم إلى فوضى عامة؟ كان يرى في عيون الناس خوفاً جديداً، ليس من الحرب أو الجوع، بل من أنفسهم. لقد استسلموا للأوهام، للشائعات، للخرافات، لأن الواقع أصبح أكثر رعباً من أي أسطورة. بدأ يتذكر أيامه الشابة، عندما كان يؤمن أن الحقيقة واضحة كالشمس. لكنه الآن، في إمارة الظل، أدرك أن الحقيقة هشة، وأن الناس قد فقدوا القدرة على تمييزها. بدأ رحلة داخلية، يتساءل عما إذا كان هو نفسه قد أصبح جزءاً من هذا الوهم. كان يتأمل في ماضيه، عندما كان الإيمان يجمع الناس، ويقارنه بالحاضر، حيث أصبحت الأوهام هي الملاذ الأخير.

في الأيام التالية، بدأت إمارة الظل تعود إلى روتينها المعتاد. لكن شيئاً ما تغير. الناس بدأوا ينظرون إلى السماء بشك، يتساءلون عما إذا كان القمر سيعود ليخدعهم مرة أخرى. أبو نور، من جهته، قرر أن يكتب يومياته، محاولاً فهم ما حدث. كتب عن الخوف، عن الوهم، وعن الإيمان الذي يتلاشى. لكنه، في النهاية، لم يجد إجابات واضحة. كل ما كان يعرفه هو أن إمارة الظل لم تعد كما كانت، وأن القمر، ببريقه الخادع، كشف عن هشاشة العقل البشري في زمن الخراب.
…………
القصة، بمزيجها من الواقعية السحرية والسخرية المرة، تعكس عالماً يعيش على حافة الهاوية، حيث يمكن لوهم بسيط أن يحول مجتمعاً بأكمله إلى فوضى.

…………………..


القصة الثانية: صرخة في وادي الدمار

في مدينة الريح، حيث كانت الرياح تحمل رائحة البارود واليأس، كان المشفى الوحيد المتبقي يقف كشاهد صامت على انهيار الحياة. كانت جدرانه متصدعة، ونوافذه مكسورة، ولم يبقَ فيه سوى بضعة أسرّة صدئة وأطباء قلائل يعملون بلا أمل. أمام بوابته، وقف أبو زيد، رجل في الأربعين، ذو عينين غائرتين ووجه محروق من شمس الصحراء. كان صوته يرتجف وهو يصرخ: "ثمانية من عائلتي ماتوا! ثمانية!" كان أبو زيد يُعرف في يوم من الأيام بـ"ثائر العملة"، لأنه آمن بأحلام التغيير التي وعدت بها الثورة. كان يحلم بوطن جديد، حيث يعيش الناس في عدالة وحرية. لكنه الآن، واقفاً أمام المشفى المتهالك، أدرك أن حلمه تحول إلى كابوس.

كانت مدينة الريح، في الماضي، مكاناً نابضاً بالحياة. كانت الأسواق مكتظة، والمستشفيات مجهزة بأحدث الأجهزة، والأطباء يعملون بلا كلل لإنقاذ الأرواح. لكن مع قدوم عصابات وادي الدمار، التي حملت أسماء براقة ووعوداً كاذبة، تحولت المدينة إلى أطلال. نهبت العصابات كل شيء: الأدوية، الأجهزة، حتى الأسرة والكراسي. لم يعد هناك دواء للمرضى، ولا كهرباء لتشغيل المصابيح. أبو زيد، الذي فقد أبناءه وزوجته وإخوته بسبب نقص العلاج، كان يشعر بثقل الخسارة يمزق قلبه. كان يتذكر كيف كان يصرخ في المظاهرات، يردد شعارات الحرية، لكنه الآن يرى الحقيقة: لقد استثمر في الخراب.

في تلك الليلة، جلس أبو زيد تحت شجرة جافة بجانب المشفى، ينظر إلى السماء المظلمة. كان يتذكر أياماً مضت، عندما كان يأخذ أبناءه إلى الحديقة، يشتري لهم الحلوى، ويحكي لهم قصصاً عن المستقبل. لكنه الآن لا يملك سوى الذكريات. كان يسمع أصوات الأمهات الباكيات داخل المشفى، ويرى الرجال الذين يتجولون كالأشباح، يبحثون عن أمل لم يعد موجوداً. بدأ يتساءل: هل كان النظام القديم، رغم عيوبه، أفضل من هذا الخراب؟ كان يعرف أن هذا السؤال خطير، لكنه لم يستطع إنكاره. النظام القديم، على الأقل، كان يوفر الأدوية والكهرباء والطعام. أما الآن، فلم يبقَ سوى اللصوص والوعود الكاذبة.

في الأيام التالية، قرر أبو زيد أن يبحث عن طريقة لإعادة بناء حياته. بدأ يجمع الأدوية من الأسواق السوداء، يحاول إنقاذ ما تبقى من أهله. لكنه، في كل خطوة، كان يواجه الحقيقة المرة: العصابات التي وعدت بالحرية كانت هي من دمرت كل شيء. بدأ يتحدث مع جيرانه، يحكي لهم عن أخطائه، عن إيمانه الأعمى بالثورة. لكن الكثيرين كانوا يخافون من الحديث، لأن العصابات كانت تراقب الجميع. في إحدى الليالي، وقف أبو زيد أمام المشفى مرة أخرى، وصرخ: "كفى! لن نسكت بعد الآن!" لكن صوته ضاع في الريح، كما ضاعت أحلامه.
………..

القصة، بمزيجها من التراجيديا والنقد الاجتماعي، تعكس مأساة رجل آمن بالتغيير، ليكتشف أن حلمه كان مجرد أداة في يد من يريدون تدمير وطنه. تستمر القصة في استكشاف رحلة أبو زيد، الذي يحاول إيجاد معنى لبقائه وسط الخراب، بينما يواجه تناقضات إيمانه القديم ويبحث عن طريقة لمواجهة العصابات التي سرقت كل شيء. إنها قصة عن الندم، والكفاح، والأمل الذي يتلاشى، لكنه لا يموت تماماً.

……………………


القصة الثالثة: الراتب الذي أصبح سراباً

في مدينة الغبار، حيث كان الهواء مشبعاً برائحة الرماد واليأس، كان أبو عمر يعيش في بيت صغير من الطوب، محاطاً بجدران متشققة تحمل آثار سنوات من الإهمال. كان رجلاً في الخامسة والخمسين، ذا وجه محفور بخطوط الزمن وعينين تحملان حزناً عميقاً. كل شهر، كان يجلس على كرسي خشبي متآكل في غرفة المعيشة، ممسكاً بدفتر صغير، يحسب ما تبقى من راتبه. في الأيام الخوالي، قبل أن تتحول مدينة الغبار إلى ما هي عليه الآن، كان راتبه يكفيه حتى العشرين من الشهر. كان الخبز مدعوماً، والكهرباء شبه مجانية، والماء يتدفق من الحنفيات دون أن يفكر أحد في ثمنه. كان يشعر، رغم قسوة الحياة، أن هناك نوعاً من العدل يحكم الأمور، وأن الأسرة، مهما كانت فقيرة، تستطيع أن تعيش بكرامة.

لكن الآن، تحت حكم عصابات الغبار، التي جاءت تحت أسماء براقة مثل "الإخوة" و"القاعدة"، تغير كل شيء. أصبح الراتب، الذي كان يتقاضاه أبو عمر كعامل في مصنع مهجور، يكفي خمسة أيام فقط. الدعم الذي كان يجعل الحياة ممكنة اختفى كأنه لم يكن. الكهرباء، التي كانت في السابق تكلف بضعة دولارات، أصبحت فاتورة شهرين بثلاثمئة دولار. كان أبو عمر يتذكر كيف كان أخوه المغترب يرسل مئة دولار كل شهر، وكانت تكفي لمعيشة العائلة بأكملها. الآن، لا تكفي هذه المئة دولار لدفع فاتورة الكهرباء، فكيف بالطعام، الماء، الغاز، والملابس؟

كان أبو عمر يجلس كل ليلة مع زوجته أم عمر، تحت ضوء شمعة، لأن الكهرباء كانت تقطع لساعات طويلة. كانا يتحدثان عن أيامهما القديمة، عندما كانا يأخذان أطفالهما الثلاثة إلى السوق، يشتريان الحلوى والملابس الجديدة. كان الأطفال يضحكون، يلعبون في الشوارع، يحلمون بأن يصبحوا أطباء أو مهندسين. لكن الآن، كان الطفل الأكبر، ياسر، يعمل في جمع الأنقاض مقابل بضعة دولارات، بينما كانت الطفلة الصغرى، ليلى، تعاني من مرض في الرئتين بسبب الغبار الذي يملأ المدينة. أما الابن الأوسط، خالد، فقد ترك المدرسة ليعمل في بيع الخبز في السوق السوداء. كان أبو عمر ينظر إلى أطفاله، ويشعر بثقل العجز يسحق قلبه. كيف يمكن أن يوفر لهم حياة كريمة في عالم أصبح فيه كل شيء بالدولار؟

في إحدى الليالي، جاء أبو عمر إلى البيت حاملاً فاتورة الكهرباء. كانت الورقة الصغيرة، المكتوبة بخط رديء، تطالبه بدفع مبلغ يفوق راتبه الشهري. جلس على الأرض، ممسكاً بالفاتورة، وشعر وكأن العالم يضحك منه. كيف تحولت مدينة الغبار إلى مكان أغلى من مدينة الضباب المجاورة، التي كانت تُعرف بغلائها الأسطوري؟ لكن مدينة الضباب، على الأقل، كانت توفر نوعاً من الضمان الاجتماعي. أما هنا، في مدينة الغبار، لم يكن هناك سوى التوحش. العصابات التي وعدت بالحرية والعدالة كانت تبيع كل شيء: الخبز، الماء، حتى الهواء الذي يتنفسه الناس. كان أبو عمر يسمع قصصاً عن أشخاص اضطروا لبيع ممتلكاتهم لدفع فواتير الكهرباء، وعن عائلات تركت بيوتها لتعيش في خيام على أطراف المدينة.

بدأ أبو عمر يفكر في ماضيه، عندما كان النظام القديم يحكم. كان يعرف أن ذلك النظام لم يكن مثالياً، لكنه كان يوفر الأساسيات. كان هناك خبز في الأسواق، وماء في الحنفيات، وأطباء في المستشفيات. الآن، لم يبقَ سوى الأطلال. في إحدى الأمسيات، جلس مع أم عمر وحكى لها عن حلمه القديم: أن يرى أطفاله يعيشون في عالم أفضل. "كنت أظن أن التغيير سيجلب الخير"، قال، وهو ينظر إلى الشمعة التي بدأت تنطفئ. أم عمر، التي كانت دائماً صامتة، وضعت يدها على كتفه وقالت: "لم يكن خطأك، يا عمر. كلنا آمنا بالوعود."

لكن أبو عمر لم يستطع أن يتخلص من شعوره بالذنب. كان قد شارك في المظاهرات، ردد الشعارات، آمن بالحلم. لكنه الآن يرى أن ذلك الحلم كان سراباً. بدأ يتحدث مع جيرانه، يحكي لهم عن الخديعة، لكن الكثيرين كانوا يخافون من الكلام. العصابات كانت تراقب الجميع، وأي كلمة ضد "الإخوة" كانت تعني الموت. في إحدى الليالي، قرر أبو عمر أن يكتب رسالة إلى أخيه المغترب، يطلب منه المساعدة. لكنه، وهو يكتب، أدرك أن المال لن يحل المشكلة. المشكلة لم تكن في النقود، بل في عالم فقد كل معنى.
………
القصة، بمزيجها من التراجيديا والنقد الاجتماعي، تعكس مأساة رجل يكافح للحفاظ على كرامته في عالم فقد كل شيء، بينما يواجه اليأس والشعور بالخيانة من قبل من وعدوه بالحرية.

………………….

القصة الرابعة: الرجل الذي باع توقيعه

في إمارة الوهم، حيث كانت الأحلام تُباع وتُشترى مثل السلع في السوق، عاش أبو القلم، رجل في الأربعين، ذو مظهر أنيق وابتسامة دائمة تخفي فراغاً داخلياً. كان أبو القلم يرى نفسه رجل دولة، رغم أنه لم يكن سوى موظف صغير في النظام القديم. كان يعمل في مكتب حكومي، يوقّع على الوثائق، يحضر الاجتماعات، ويهرع إلى السفارة في كل مناسبة، سواء لتقديم التعازي أو التهاني. كان يحب الأضواء، يحب أن يُرى، وكان يؤمن أن توقيعه، بخطوطه المتقنة، هو دليل على أهميته. لكن عندما بدأت سفينة النظام القديم تهتز، لم يتردد أبو القلم. قفز إلى سفينة جديدة، مزينة بالدولارات الخارجية، وبدأ يردد شعارات لم يكن يفهمها: عن "مظلومية" طائفة و"إبادة" أخرى.

كان أبو القلم قد درس في مدن أوروبا، بدعم النظام الذي يشتمه الآن. كان يوماً يحلم بأن يكون عالماً أو مفكراً، لكنه نسي تلك الأحلام عندما رأى بريق المال. في إمارة الوهم، وجد مكتباً فخماً، بتمويل من تريليونات الدولارات القادمة من الخارج. كان المكتب مزيناً بالأثاث الفاخر، والنوافذ تطل على مدينة لامعة، لكنها كانت فارغة من المعنى. هناك، بدأ أبو القلم يكتب خطابات نارية، يظهر على شاشات الإعلام، يتحدث عن طوائف لم يكن يعرفها قبل سنوات. كان يردد كلمات مثل "العدالة" و"الحرية"، لكنه في قرارة نفسه كان يعرف أنها مجرد كلمات فارغة. كان يتقاضى راتباً ضخماً، لكنه كان يشعر بأنه عبد لمن يدفع.

في إحدى الليالي، جلس أبو القلم في مكتبه، ينظر إلى صورة قديمة له مع زملائه في الجامعة الأوروبية. كانوا يناقشون أفكاراً كبيرة، يحلمون بتغيير العالم. لكنه الآن لا يملك سوى قلم يكتب ما يُملى عليه. بدأ يتساءل: هل كان هذا هو المصير الذي أراده؟ كان يتذكر والده، الذي كان يحثه على الدراسة والعمل الشريف. لكنه اختار طريقاً آخر، طريقاً جعله غنياً، لكنه جرده من كرامته. في الصباح، عندما ظهر على شاشة التلفزيون، كان يتحدث بنفس الحماس المصطنع، لكن عينيه كانتا تحملان حزناً لا يراه أحد.

بدأ أبو القلم يشعر بثقل الخيانة. كان يعرف أن توقيعه، الذي كان يوماً رمزاً لأهميته، أصبح سلاحاً ضد شعبه. كان يكتب خطابات تدعو إلى الفتنة، إلى تقسيم الناس، بينما وطنه يغرق في الفوضى. في إحدى الأمسيات، التقى بصديق قديم من أيام الجامعة، الذي نظر إليه بازدراء وقال: "كنتَ يوماً تحلم بتغيير العالم، والآن تبيع الكلمات لمن يدفع أكثر." تلك الكلمات ظلت تتردد في ذهنه، لكنه لم يستطع التوقف. كان المال مغرياً، والسلطة أكثر إغراءً. لكنه، في لحظات الوحدة، كان يتساءل: هل يستحق كل هذا خسارة روحه؟
………
القصة، بسخريتها المرة ونقدها اللاذع، تكشف عن رجل باع ضميره ليصبح أداة في يد من يدفع أكثر، تاركاً وطنه يغرق في الفوضى. تستمر القصة في استكشاف صراع أبو القلم الداخلي، بين طموحاته القديمة وواقعه الجديد، حيث يحاول إيجاد مخرج من هذا العالم الذي حوله إلى دمية.


القصة الخامسة: أبو خشم والجنة الأوروبية

في مدينة الرمال، حيث كانت الشمس تحرق الأرض والقلوب، عاش أبو خشم، رجل في منتصف الأربعينات، ذو صوت جهوري وثقة لا تهتز. كان اسمه يعكس ملامحه القوية، أنفه البارز، وعينيه اللتين تحملان نظرة الرجل الذي يعرف كيف يدير العالم. كان يمتلك دكاكين صغيرة في سوق المدينة، وبيتاً كبيراً يطل على الشارع الرئيسي، وكان يتباهى بإقامته التي حصل عليها بعد سنوات من العمل الشاق. عندما سأله صديق قديم، في إحدى الأمسيات، "كيف حالك؟"، أجاب أبو خشم بضحكة مدوية: "ماذا أريد أكثر من هذا؟ لدي إقامة، وبيت، ودكاكين. الحياة لا يمكن أن تكون أفضل!" لكن هذه الثقة، التي بدت صلبة كالصخر، كانت على وشك أن تتحطم.

عندما بدأت سفينة النظام القديم تهتز في مدينة الرمال، لم يتردد أبو خشم. جمع أمتعته، وأخذ عائلته، وهرب إلى مدينة النور في أوروبا الغربية. هناك، حصل على الجنسية بسرعة البرق، كأن القدر كان ينتظره. لكن مدينة النور لم تكن كما تخيلها. كانت شوارعها لامعة، ومبانيها شاهقة، لكنها كانت باردة، وكأنها تخفي سراً لا يمكن للغرباء فهمه. في البداية، عمل أبو خشم في وظائف صغيرة: بائع في متجر، سائق توصيل، عامل نظافة. لكنه سرعان ما اكتشف أن الطريق إلى النجاح في هذه المدينة يمر عبر شبكات غامضة، شبكات تتحدث بلغة الطوائف والتقسيمات.

في إحدى الأمسيات، التقى أبو خشم برجل يُدعى أبو الريح، وهو شخصية غامضة كانت تعمل كوسيط لعصابات تُعرف باسم "الإخوة". هؤلاء "الإخوة" لم يكونوا مجرد مجموعة من الأصدقاء، بل كانوا شبكة تمتد جذورها إلى أموال تأتي من أماكن بعيدة، أموال تُقاس بالتريليونات. أخبره أبو الريح أن النجاح في مدينة النور لا يتطلب سوى شيء واحد: أن يصبح أبو خشم جزءاً من اللعبة. "كل ما عليك فعله"، قال أبو الريح، "هو أن تتحدث عن السنة والشيعة والعلويين. ردد هذه الكلمات، وستجد طريقك إلى الجنة."

في البداية، شعر أبو خشم بالحيرة. لم يكن يفهم هذه التقسيمات، ولم يكن يهتم بها في مدينة الرمال. كان الناس هناك يعيشون معاً، يتشاركون الخبز والضحكات، دون أن يفكروا في الطوائف. لكن أبو الريح أوضح له أن هذه الكلمات هي العملة الحقيقية في مدينة النور. "لا تحتاج إلى أن تفهم"، قال، "فقط ردد ما نقول، وسيأتيك المال." وهكذا، بدأ أبو خشم يتعلم اللعبة. بدأ يظهر في الاجتماعات، يتحدث عن "مظلومية" طائفة و"ظلم" أخرى، دون أن يعرف حقاً ما يقوله. كان يشعر أحياناً بأن الكلمات تخرج من فمه كالسم، لكنه كان يقنع نفسه بأن هذا هو الثمن للبقاء.

في غضون أشهر، أصبح أبو خشم شخصية معروفة في أوساط معينة. كان يتلقى دعوات لحضور مؤتمرات، يظهر على شاشات الإعلام، يردد الشعارات التي أُمليت عليه. كان يعيش في شقة فاخرة، يرتدي ملابس باهظة الثمن، ويأكل في مطاعم لم يكن يحلم بها في مدينة الرمال. لكنه، في لحظات الوحدة، كان يشعر بفراغ ينخر قلبه. كان يتذكر مدينة الرمال، حيث كان الناس يعرفونه كإنسان، وليس كأداة. في إحدى الليالي، سأله ابنه الصغير، الذي كان يبلغ من العمر عشر سنوات: "لماذا نعيش هنا، يا أبي؟" توقف أبو خشم، عاجزاً عن الإجابة. كان يعرف أن الحياة في مدينة النور جعلته غنياً، لكنه أيضاً جعله غريباً عن نفسه.

بدأ أبو خشم يحلم بمدينة الرمال، يتذكر الأيام التي كان فيها يجلس مع أصدقائه في السوق، يضحكون ويتشاركون القصص. لكنه الآن، في مدينة النور، كان محاطاً بأشخاص لا يثق بهم، أشخاص يرونه كمجرد أداة في لعبة كبرى. في إحدى الأمسيات، التقى بامرأة عجوز كانت تعيش في مدينة الرمال قبل أن تهاجر. نظرت إليه وقالت: "كنتَ يوماً رجلاً يحترمه الجميع. الآن، أنت مجرد صوت لمن يدفع." تلك الكلمات ظلت تتردد في ذهنه، لكنه لم يستطع التوقف. كان المال مغرياً، والسلطة أكثر إغراءً. لكنه، في قرارة نفسه، كان يعرف أن الجنة الأوروبية التي وعد بها لم تكن سوى سراب.
……….
القصة، بسخريتها المرة ونقدها اللاذع، تكشف عن رجل تحول من إنسان عادي إلى أداة في لعبة كبرى، حيث الغباء هو العملة الوحيدة التي تشتري البقاء. تستمر القصة في استكشاف صراع أبو خشم الداخلي، بين طموحه للعيش الكريم وشعوره بالذنب تجاه وطنه، حيث يحاول إيجاد طريقة للخروج من هذا الفخ، لكنه يجد نفسه محاصراً بالمال والشعارات التي يرددها.

القصة السادسة: أكذوبة الكبتاغون

في إمارة الدخان، حيث كانت الشوارع مغطاة بضباب كثيف يحمل رائحة المخدرات والبارود، كانت الأكاذيب هي العملة المتداولة. كانت العصابات التي تحكم الإمارة، والتي تُعرف باسم "الأحرار"، تردد دائماً أن النظام القديم هو من كان يبيع الكبتاغون، تلك الحبوب التي تدمر العقول وتحول الشباب إلى أشباح. كان الناس يستمعون إلى هذه الأكاذيب يومياً، مقتنعين أن النظام هو مصدر كل شر. لكن في إحدى الليالي المظلمة، عند الحدود مع وادي الصخور، وقعت معركة غيرت كل شيء.

كان أبو سعيد، بائع خضار فقير في الأربعين من عمره، يجلس في دكانه الصغير في سوق إمارة الدخان. كان رجلاً هادئاً، يحب أن يستمع إلى الناس أكثر مما يتحدث. كان يرى الشباب في الإمارة يتدهورون، يتحولون إلى مدمنين يتجولون في الشوارع كالأشباح. كان يسمع كل يوم قصصاً عن الكبتاغون، وعن كيف أن النظام القديم هو من جلب هذا الوباء. لكن أبو سعيد، الذي عاش في أيام النظام القديم، كان يتذكر أن الأمور لم تكن بهذا السوء. كانت هناك شرطة تحارب تجار المخدرات، وكانت المستشفيات تعالج المدمنين. لكنه لم يجرؤ على قول ذلك، لأن العصابات كانت تراقب الجميع.

في تلك الليلة المظلمة، سمع أبو سعيد أصوات إطلاق نار عند الحدود. في الصباح، انتشر الخبر: ثلاثة من مهربي المخدرات، يعملون تحت راية "الأحرار"، قُتلوا على يد حرس الحدود في وادي الصخور أثناء محاولتهم تهريب أكياس الكبتاغون. كانت الأكياس مخبأة في شاحنة قديمة، تحمل شعارات "الحرية" التي كانت العصابات ترفعها. انتشر الخبر بين الأهالي، وبدأوا يتساءلون: إذا كان النظام هو التاجر، فلماذا تموت هذه العصابات على الحدود؟ كان أبو سعيد يستمع إلى النقاشات في السوق، ويشعر بأن الحقيقة بدأت تظهر كالشمس بعد عاصفة.

في الأيام التالية، بدأ أبو سعيد يتحدث مع جيرانه، يحكي لهم عن التناقضات التي يراها. كان يتذكر كيف كان النظام القديم يحارب تجار المخدرات، بينما الآن أصبحت الشوارع مليئة بالحبوب التي تدمر الشباب. لكنه وجد نفسه وحيداً، لأن الخوف من العصابات كان أقوى من الحقيقة. في إحدى الليالي، قرر أن يكتب رسالة مجهولة إلى صحيفة صغيرة في إمارة الدخان، يكشف فيها عن الحقيقة. لكنه، قبل أن يرسل الرسالة، سمع أصوات أقدام تقترب من دكانه. كان يعرف أن العصابات لا ترحم من يتحدث. لكنه، في تلك اللحظة، قرر أن الصمت ليس خياراً. أمسك بقلمه، وكتب: "الكبتاغون ليس من النظام، بل من أولئك الذين يدّعون الحرية." لكنه لم يرسل الرسالة، لأن الخوف، في النهاية، كان أقوى.
……..
القصة، بمزيجها من الواقعية والنقد الاجتماعي، تكشف عن تناقضات الأكاذيب التي تُروج لتبرير الخراب، حيث الحقيقة تظهر في لحظات غير متوقعة، كالرصاص في الليل. تستمر القصة في استكشاف صراع أبو سعيد بين السكوت والتكلم، في عالم يعاقب الحقيقة، بينما يحاول إيجاد طريقة لحماية عائلته وسط الفوضى.


…………………….

القصة السابعة: منظف المراحيض الوهابي

في مدينة الضوء، حيث كانت الأنوار الساطعة تخفي ظلالاً من الخداع، عاش أبو الفرش، رجل في الثلاثين من عمره، ذو عينين ذكيتين وحلم كبير ينبض في صدره. كان أبو الفرش قد وصل إلى هذه المدينة الأوروبية قبل سنوات، حاملاً معه منحة دراسية من النظام القديم في بلده، مدينة الرمال. كان يحلم أن يصبح عالماً أو مهندساً، يغير وجه وطنه بأفكاره. في الجامعة، كان يبهر زملاءه بنقاشاته الحادة وطموحه اللا نهائي. لكن الحياة، كما يعرف الجميع، لا تسير دائماً وفق الأحلام. عندما وصل إلى مدينة الضوء، واجه واقعاً مختلفاً. المال كان نادراً، والفرص كانت محصورة بالغرباء. حاول أن يجد عملاً يليق بتعليمه، لكنه وجد نفسه يتقدم لوظيفة متواضعة: منظف مراحيض في مأوى للمعاقين ذهنياً. لكن حتى هذه الوظيفة رفضت له، لأنها، كما قيل له، "تتطلب تدريباً خاصاً". شعر أبو الفرش، في تلك اللحظة، أن العالم يسخر منه.

عاد إلى شقته الصغيرة، وهي غرفة ضيقة في ضواحي مدينة الضوء، وجلس يفكر في مصيره. كان قد ترك مدينة الرمال، حيث كان الناس يعرفونه كشاب طموح، ليجد نفسه في مدينة لا ترى فيه سوى غريب. لكنه لم يستسلم. بدأ يبحث عن فرص أخرى، يطرق أبواباً لا نهائية، حتى التقى برجل يُدعى أبو السيف، وهو شخصية غامضة كانت تعمل كوسيط لشبكات غامضة تُعرف باسم "الإخوة". هؤلاء "الإخوة" لم يكونوا مجرد جماعة دينية، بل كانوا جزءاً من شبكة تمتد جذورها إلى أموال تأتي من أماكن بعيدة، أموال تُقاس بالتريليونات. أخبره أبو السيف أن هناك وظيفة تنتظره، لكنها ليست كأي وظيفة. "إنها وظيفة تنظيف"، قال أبو السيف بابتسامة ماكرة، "لكنها ليست لتنظيف الأرضيات، بل لتنظيف العقول."

لم يفهم أبو الفرش في البداية. كان يظن أن الأمر يتعلق بكتابة مقالات أو تقديم أفكار. لكن أبو السيف أوضح له أن الوظيفة تتطلب شيئاً آخر: أن يصبح صوتاً للفتنة. "كل ما عليك فعله"، قال، "هو أن تتحدث عن السنة والشيعة والعلويين. ردد الكلمات التي نعطيك إياها، وستجد نفسك تعيش كملك." في البداية، شعر أبو الفرش بالصدمة. لم يكن يعرف الكثير عن هذه التقسيمات. في مدينة الرمال، كان الناس يعيشون معاً، يتشاركون الخبز والضحكات، دون أن يفكروا في الطوائف. لكن أبو السيف كان مقنعاً. "لا تحتاج إلى أن تفهم"، قال، "فقط تحدث، وسيأتيك المال."

وهكذا، بدأ أبو الفرش رحلته الجديدة. أُعطي مكتباً صغيراً في مبنى فخم في قلب مدينة الضوء، مزيناً بأثاث لامع ونوافذ تطل على شوارع مزدحمة. كان المكتب جزءاً من شبكة إعلامية تمولها أموال من الخارج، أموال تأتي من أماكن لا يعرف عنها أبو الفرش شيئاً. بدأ يكتب مقالات، يظهر على شاشات الإعلام، يتحدث عن "مظلومية" طائفة و"ظلم" أخرى. كان يردد كلمات مثل "العدالة" و"الحرية"، لكنه في قرارة نفسه كان يعرف أنها مجرد كلمات فارغة. كان يتقاضى راتباً ضخماً، يرتدي بدلات أنيقة، ويأكل في مطاعم لم يكن يحلم بها في مدينة الرمال. لكنه، في لحظات الوحدة، كان يشعر بفراغ ينخر قلبه.

في إحدى الليالي، جلس أبو الفرش في مكتبه، ينظر إلى صورة قديمة له في الجامعة. كان يقف مع زملائه، يضحكون، يناقشون أفكاراً كبيرة عن تغيير العالم. لكنه الآن لا يملك سوى قلم يكتب ما يُملى عليه. بدأ يتذكر والده، الذي كان يحثه على العمل الشريف، وعلى أن يكون رجلاً يحترم نفسه. لكنه اختار طريقاً آخر، طريقاً جعله غنياً، لكنه جرده من كرامته. في الصباح، عندما ظهر على شاشة التلفزيون، كان يتحدث بنفس الحماس المصطنع، لكن عينيه كانتا تحملان حزناً لا يراه أحد.

بدأ أبو الفرش يشعر بثقل الخيانة. كان يعرف أن كلماته، التي يرددها على الشاشات، تساهم في تمزيق وطنه. كان يسمع أخباراً عن مدينة الرمال، عن الفوضى التي اجتاحتها، عن الناس الذين يعانون من الجوع والخوف. لكنه كان يقنع نفسه بأن هذا هو الثمن للبقاء. في إحدى الأمسيات، التقى بصديق قديم من مدينة الرمال، كان قد هاجر إلى مدينة الضوء قبل سنوات. نظر إليه الصديق بازدراء وقال: "كنتَ يوماً تحلم بتغيير العالم، والآن أنت مجرد دمية في يد من يدفع." تلك الكلمات ظلت تتردد في ذهنه، لكنه لم يستطع التوقف. كان المال مغرياً، والسلطة أكثر إغراءً.

في الأشهر التالية، أصبح أبو الفرش شخصية معروفة في أوساط معينة. كان يُدعى إلى مؤتمرات دولية، يجلس مع رجال أعمال وسياسيين، يتحدث عن قضايا لا يفهمها حقاً. لكنه، في لحظات الوحدة، كان يتساءل: هل هذه هي الحياة التي أرادها؟ كان يحلم بأن يكون عالماً، لكنه أصبح "منظف مراحيض العقل الوهابي"، كما كان يسمي نفسه في سره. كان يعرف أن كلماته تساهم في تأجيج الفتنة، في تمزيق النسيج الاجتماعي لبلده، لكنه كان محاصراً. كان المال يتدفق، والفرص تتكاثر، لكنه كان يشعر بأنه فقد نفسه.

في إحدى الليالي، قرر أبو الفرش أن يكتب رسالة إلى والده، الذي كان لا يزال يعيش في مدينة الرمال. كتب عن أحلامه القديمة، عن الجامعة، عن الأفكار التي كان يؤمن بها. لكنه، قبل أن يرسل الرسالة، مزقها. كان يعرف أن والده لن يفهم، وأن الحقيقة ستكون أكثر إيلاماً من الصمت. لكنه، في تلك اللحظة، قرر أن يحاول تغيير مساره. بدأ يبحث عن طريقة للخروج من هذا الفخ، لكنه وجد أن الشبكة التي يعمل فيها لن تتركه بسهولة. كانوا يراقبونه، يعرفون كل خطوة يخطوها. في النهاية، قرر أبو الفرش أن يواصل اللعبة، لكنه في قرارة نفسه كان يعرف أن الثمن الذي دفعه كان أكبر من أي مال أو سلطة.
………..
القصة، بسخريتها المرة ونقدها اللاذع، تكشف عن مأساة رجل تخلى عن كرامته ليصبح أداة في يد من يدفع، تاركاً وطنه يحترق تحت شعارات فارغة. تستمر القصة في استكشاف صراع أبو الفرش الداخلي، بين طموحه القديم وواقعه الجديد، حيث يحاول إيجاد طريقة للخروج من هذا العالم الذي حوله إلى دمية، بينما يواجه الخوف من خسارة كل شيء.



#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)       Ahmad_Saloum#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أردوغان: خليفة الوهم أم منظف مراحيض الناتو؟
- عصابات الجولاني ومهرجان البصمات على أوامر الناتو الاستعماري
- مسرحية -حافة الهاوية-
- أمريكا: إمبراطورية الفقاعات وأوهام الدولار السحري..كتابات سا ...
- رواية: رقصة النيل الساخرة
- السلام المزيف: قصة كيف غرقت مصر وفلسطين في بحر من النكات الس ...
- السيرك العالمي يفتتح موسمه الجديد في تل أبيب وواشنطن..كتابات ...
- أزمة الإمبراطورية الأمريكية : الهبوط نحو الهاوية
- مسرحية : ايقاعات الورك المتمرد
- مجموعة قصصية : أكوام الخيال - الجزء الأول-
- الثقب الأسود الأوكراني: كوميديا جيوسياسية في مسرح العبث
- خيوط الاستعمار الإنكليزي ومحميات الخليج في صلب الفوضى العالم ...
- مسرحية -مدرسة الوحدة العجيبة-
- من إيقاعات النيل إلى أسواق إدلب : رقصة الشرق ضد الإسلام الصه ...
- رواية: خيوط الزيف
- -مسرحية الخيانة: عباس والجولاني في عرضٍ ساخر -
- التاريخ المُعاد كتابته بريشة الروتشيلد وسكين لورانس
- مسرحية: -أزقة باريس تحترق-..كوميديا
- عالم المخدرات العجيب حيث الشعر البرتقالي والعيون الزرقاء تحك ...
- العالم يرقص على إيقاع ترامب العبقري... أو ربما العكس!


المزيد.....




- -ترحب بالفوضى-.. تايلور سويفت غير منزعجة من ردود الفعل المتب ...
- هيفاء وهبي بإطلالة جريئة على الطراز الكوري في ألبومها الجديد ...
- هل ألغت هامبورغ الألمانية دروس الموسيقى بالمدارس بسبب المسلم ...
- -معجم الدوحة التاريخي- يعيد رسم الأنساق اللغوية برؤية ثقافية ...
- عامان على حرب الإبادة في غزة: 67 ألف شهيد.. وانهيار منظومتي ...
- حكم نهائي بسجن المؤرخ محمد الأمين بلغيث بعد تصريحاته عن الثق ...
- مخرج «جريرة» لـ(المدى): الجائزة اعتراف بتجربة عراقية شابة.. ...
- أصيلة تكرم الفنان التشكيلي المغربي عبد الكريم الوزاني.. ناحت ...
- المصري خالد العناني مديرًا لليونسكو: أول عربي يتولى قيادة ال ...
- -نفى وجود ثقافة أمازيغية-.. القضاء الجزائري يثبت إدانة مؤرخ ...


المزيد.....

- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - قصص سبع عن مدن الظلال المقيتة أو مدن الوهابية الظلامية