أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - مجموعة قصصية : أكوام الخيال - الجزء الأول-















المزيد.....



مجموعة قصصية : أكوام الخيال - الجزء الأول-


احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية

(Ahmad Saloum)


الحوار المتمدن-العدد: 8482 - 2025 / 10 / 1 - 13:31
المحور: الادب والفن
    


مقدمة نقدية أدبية

تتجمع القصص الأربع عشرة في هذه المجموعة، التي تحمل عنوان "أكوام الخيال"، كأنها شظايا مدينة جريحة، لا تزال تنبض بالحياة رغم الدمار. مستوحاة من الهولوكوست الفلسطيني في غزة،
تقدم هذه القصص رؤية أدبية عميقة تجمع بين الواقع المأساوي والخيال المقاوم، بين الألم الإنساني والأمل العنيد. كل قصة هنا هي غرزة دقيقة في نسيج غزة الممزق، تحكي عن أناس عاديين يواجهون مصيرًا استثنائيًا، يتشبثون بأحلامهم، بكلماتهم، بحبهم، وبنبضهم، وسط دخان الحرب وأنقاض الحياة. هذه القصص ليست مجرد سرديات، بل هي شهادات على الصمود، لوحات ترسم بالكلمات وجوهًا تحمل جروحًا وأحلامًا، وأناشيد تُغنى في صمت وسط زعيق الدمار.غزة، في هذه المجموعة، ليست مجرد مكان جغرافي، بل هي حالة إنسانية، متاهة من المشاعر والصراعات. المخيمات - جباليا، الشاطئ، النصيرات، دير البلح، خان يونس، رفح - تتحول إلى مسارح للقصص، حيث تتشابك الأزقة الضيقة كخيوط حياة مهترئة، وتتحول الأنقاض إلى شاهد على مقاومة لا تهدأ. في هذه الأمكنة، نلتقي بشخصيات تحمل أسماء مثل شيرين، جميل، كريمة، عبد المحسن، سناء، محمود، وحيد، تفاني، سامر، ملهم، وغيرهم، لكل منهم قصة تعكس وجهًا من وجوه غزة. هؤلاء ليسوا أبطالًا أسطوريين، بل هم أناس من لحم ودم، يعيشون تحت وطأة الحصار والقصف، لكنهم يجدون في أعماقهم قوة لخلق المعنى: شيرين تبحث عن السكر البري كفراشة تائهة، جميل يكتب ليجد نفسه، تفاني ترقّع الجروح بنزيفها الصامت، وسامر يرقص في خياله فوق الأنقاض.كل قصة في هذه المجموعة هي محاولة لالتقاط لحظة: لحظة حب يتشكل وسط الخراب، لحظة نزيف صامت يتحول إلى قنديل مضيء، لحظة هلوسة بالحرية تتحدى القيود، أو لحظة اتهام بالتمسك بالجمال وسط القبح. هذه اللحظات ليست معزولة، بل هي جزء من نسيج أكبر، نسيج غزة نفسها، حيث الحياة تستمر رغم كل شيء. القصص تتأرجح بين البساطة والعمق، بين التفاصيل اليومية - رغيف خبز، قنديل زيتي، قطعة فحم، ورقة مكرمشة - والرموز الكبيرة التي تحملها: الفراشات البيضاء، الورود المرجانية، الفرسان البنفسجيون، والأوراق المتفسفرة. هذه الرموز ليست مجرد زخارف، بل هي أدوات لفهم الواقع، لإعادة تشكيل عالم ممزق، لإيجاد ضوء في العتمة.الشخصيات في هذه القصص ليست مجرد أفراد، بل هي تجسيد لروح المقاومة. شيرين، التي تحلم بالبحر رغم الحصار، تمثل الشوق إلى الحرية. جميل، الذي يكتب قصصًا وسط الأرقام القاسية، يجسد التمرد باللغة. تفاني، التي ترقّع الجروح بنزيفها، تعكس الصمود الصامت. وملهم، الذي يجد الحب كفراشة تحلق فوق الأنقاض، يرمز إلى الأمل الذي يتشكل رغم الخسارة. هذه الشخصيات، بصراعاتها الداخلية وأحلامها الهشة، تعكس تناقضات الحياة في غزة: بين العزلة واللقاء، بين الصمت والصيحة، بين الماضي المفقود والمستقبل الموصود. كل واحدة منها تحمل جرحًا، لكنها تحمل أيضًا بصيصًا من الأمل، سواء كان في قلم يكتب، فحم يرسم، أو يد تمتد لتمسك بأخرى.القصص في "أكوام الخيال" تتميز بقدرتها على الجمع بين الخاص والعام. فبينما تحكي كل قصة عن صراع فردي - شيرين وموسى، جميل وكريمة، كريم وآمنة، عبد المحسن ومريم - فإنها تعكس في الوقت ذاته مأساة غزة ككل. الحرب ليست مجرد خلفية، بل هي قوة حية، شخصية صامتة تتسلل إلى كل لحظة، تشكل الشخصيات وتحدد مصائرها. لكن القصص لا تقع في فخ اليأس. هناك دائمًا لحظة مقاومة: غرزة تربط قلبًا ممزقًا، قنديل يضيء ظلمة، فراشة تحلق فوق الركام. هذه اللحظات، رغم هشاشتها، هي ما يجعل القصص أكثر من مجرد حكايات عن الخسارة؛ إنها شهادات على قدرة الإنسان على خلق المعنى حتى في أحلك الظروف.اللغة في هذه المجموعة هي أداة المقاومة الأولى. الكلمات، سواء كانت مكتوبة على ورق مكرمش، مرسومة على جدار متصدع، أو منطوقة في لحظة صمت، هي الجسر بين الألم والأمل. اللغة هنا ليست مجرد وسيلة للسرد، بل هي فعل حياة، محاولة لالتقاط الجمال وسط القبح، لإعادة بناء ما تهدم. القصص تستخدم لغة شاعرية تحمل إيقاعًا خاصًا، كأنها أناشيد تُغنى وسط الدمار، أو صلوات تُتمتم في الخفاء. هذه اللغة، ببساطتها وكثافتها، تعكس تناقضات غزة: بين الواقع القاسي والخيال المتألق، بين الصمت المفروض والصيحة المكبوتة.القصص، رغم تنوعها، تشترك في رؤية مشتركة: الإيمان بأن الخيال هو سلاح المقاومة الأعظم. في غزة، حيث يتحول كل شيء إلى أنقاض، يصبح الخيال أكوامًا من الأمل. سواء كان ذلك في رسم طفل لزهرة مرجانية، أو قصيدة مكتوبة على ورقة ممزقة، أو حب يتشكل وسط الخراب، فإن الخيال هو ما يمنح الشخصيات، والقارئ، القدرة على الاستمرار. هذه القصص لا تسعى إلى تقديم إجابات نهائية، بل إلى طرح أسئلة: كيف يمكن للإنسان أن يحلم وسط الحرب؟ كيف يمكن للحب أن يتشكل وسط الخسارة؟ كيف يمكن للكلمات أن تصبح ملجأ في عالم بلا ملاجئ؟"أكوام الخيال" هي دعوة للقارئ ليشهد، ليستمع، ليرى غزة بعيون أبطالها: أولئك الذين يكتبون، يرسمون، يحبون، ويحلمون، رغم كل شيء. هذه القصص ليست مجرد حكايات، بل هي أناشيد للصمود، لوحات مرسومة بالكلمات، وشهادات على أن الإنسان، حتى في أحلك اللحظات، يستطيع أن يخلق أكوامًا من الخيال تحدي الواقع. إنها دعوة لتأمل قوة الحياة في وجه الموت، ولتذكر أن غزة، رغم أنقاضها، هي أيضًا أرض الأحلام التي لا تموت.



قصة : حقول الياسمين

تنحني الأشجار كأنها تئن تحت وطأة الزمن، في شارع الياسمين المخدوش ،كانت ليلى تمشي كل صباح. الشارع، الذي كان يومًا ينبض بالحياة، أصبح الآن شبحًا من ذكريات المدينة. جدرانه مشققة، مغبرة، تحمل ندوب القذائف التي مزقت المدينة قبل سنوات. كانت رائحة الياسمين، ضعيفة لكنها عنيدة، تتسلل من بين الشقوق، كما لو أن الأرض نفسها تتشبث بآخر أنفاسها العطرة. ليلى، بسلتها القشية المتهالكة، كانت تجمع الأزهار القليلة التي ما زالت تنمو، كأنها تجمع شظايا قلبها المبعثر. كانت تمشي بخطوات بطيئة، وكأن كل خطوة هي محاولة لاستعادة شيء فقدته منذ زمن بعيد.كانت ليلى في الثلاثين من عمرها، لكن وجهها كان يحمل تجاعيد امرأة عاشت أكثر مما ينبغي. عيناها، اللتين كانتا يومًا تلمعان كالياقوت تحت شمس الظهيرة، أصبحتا الآن غائمتين، كما لو أن الدخان الذي ملأ السماء بعد القصف قد استقر فيهما إلى الأبد. كانت ترتدي ثوبًا بسيطًا، رمادي اللون، متسخًا عند الأطراف، لكنه كان يحمل رائحة الياسمين، لأنها كانت تضع زهرة واحدة في جيبها كل يوم. هذه العادة، التي بدأت منذ أيام يوسف، كانت الشيء الوحيد الذي يربطها بالحياة التي كانت تعرفها.يوسف. اسمه كان يتردد في ذهنها كلحن قديم، يظهر فجأة ثم يتلاشى. كان ينتظرها كل مساء عند زاوية الشارع، حيث تنحني شجرة الياسمين الكبيرة فوق الرصيف. كان يحمل زهرة واحدة، يضعها في شعرها بحركة رقيقة، ويهمس لها بكلمات كانت تصعد في دمها كالكهرباء. "أنتِ حقلي الوحيد، ليلى"، كان يقول، وهي تضحك، لكنها كانت تصدقه. كان صوته يحمل دفئًا غريبًا، كأنه يعرف سرًا عن العالم لم تكتشفه بعد. كانا يتحدثان عن الحقول خارج المدينة، حيث كانا يحلمان ببناء بيت صغير، محاط بالياسمين والأعشاب البرية. لكن الحلم، مثل كل شيء آخر، تحطم تحت وطأة الحرب.جاءت الحرب كصاعقة، ملونة بكل الألوان. الأحمر كان للدم الذي سال في الشوارع، الأسود للدخان الذي خنق السماء، والرمادي للأمل الذي تبخر مع كل انفجار. في إحدى الليالي، اختفى يوسف. لم يكن هناك وداع، ولا رسالة، ولا حتى جثة لتبكي عليها. ربما أُخذ إلى معسكر بعيد، أو ربما دفن تحت الأنقاض. ليلى لم تسأل، لأنها لم ترغب في معرفة الحقيقة. الحقيقة كانت ثقيلة جدًا، وهي لم تملك القوة لتحملها. بدلاً من ذلك، اختارت أن تتشبث بالذكريات، بتلك اللحظات القصيرة عندما كان العالم يتقلص إلى زاوية شارع وزهرة ياسمين.كل يوم، كانت ليلى تمشي في الشارع، تجمع الأزهار، وتعود إلى غرفتها الصغيرة في مبنى قديم مهجور. الغرفة كانت خالية تقريبًا، باستثناء سرير خشبي متآكل وطاولة صغيرة عليها شمعة. في الليل، كانت تضيء الشمعة وتنظر إلى الأزهار التي جمعتها. كانت تضعها في إناء زجاجي مكسور، وتحدق فيها كأنها تحاول قراءة رسالة مخفية. أحيانًا، كانت تشعر بأن يوسف ما زال هناك، في مكان ما بين الظلال، يراقبها. لكنها كانت تعلم أن هذا مجرد وهم، خدعة تلعبها عيناها المتعبتان.في أحد الأيام، بينما كانت تمشي في الشارع، لاحظت شيئًا غريبًا. كان هناك طفل صغير، لا يتجاوز العاشرة، يقف عند زاوية الشارع حيث كان يوسف ينتظرها. كان يحمل زهرة ياسمين، وينظر إليها بعينين واسعتين، كما لو أنه يعرفها. اقتربت منه بحذر، وسألته: "من أعطاك هذه الزهرة؟" أجاب الطفل بصوت خافت: "وجدتها هناك، بين الحجارة." لم تصدقه، لكن شيئًا في عينيه جعلها تشعر بدفق من الدفء، كأن الكهرباء التي كانت تشعر بها مع يوسف قد عادت. أخذت الزهرة منه، ووضعتها في شعرها، وشعرت، للحظة، أن العالم لم يمت بعد.في تلك الليلة، جلست ليلى في غرفتها، والشمعة تضيء الإناء الزجاجي. كانت الزهرة التي أعطاها لها الطفل مختلفة، أكبر قليلاً، أكثر إشراقًا. أغلقت عينيها وحاولت أن تتذكر صوت يوسف، لكنها لم تستطع. بدلاً من ذلك، سمعت صوت الريح، تحمل معها رائحة الحقول البعيدة. فجأة، شعرت برغبة عارمة في الخروج من المدينة، إلى الحقول التي كانا يحلمان بها. لم تكن تعرف لماذا، لكنها شعرت أن هناك شيئًا ينتظرها هناك.في الصباح التالي، ارتدت ليلى ثوبها الرمادي، وحملت سلتها، وخرجت من المدينة. كانت المسافة إلى الحقول طويلة، والطريق مليء بالحجارة والأشواك. لكنها استمرت في المشي، كأن شيئًا يسحبها إلى الأمام. عندما وصلت أخيرًا، كانت الشمس قد بدأت تغرب، تلقي بظلال طويلة على الأرض الجافة. لم تكن هناك أزهار في الحقول، فقط أعشاب برية متيبسة. لكن الريح كانت تحمل رائحة الياسمين، ضعيفة لكنها واضحة. وقفت ليلى وسط الحقل، وأغلقت عينيها. لم تكن تعرف إن كانت تبحث عن يوسف أم عن نفسها، لكنها شعرت، للحظة، أنها ليست وحيدة.ظلت واقفة هناك، تحت السماء الملبدة بالغيوم، والريح تلعب بشعرها. لم تكن تعرف إن كانت ستعود إلى المدينة أم ستبقى في الحقول. لكنها شعرت أن شيئًا في داخلها قد تحرر، كأن الحقول التي كانت تحلم بها مع يوسف لم تكن مكانًا، بل حالة. حالة من الغبطة، من الكهرباء التي كانت تصعد في دمها. وضعت يدها على قلبها، وشعرت بنبضها، قويًا، حيًا. ثم ابتسمت، لأول مرة منذ سنوات، وكأن الياسمين قد ازدهر داخلها.!


قصة : نعاس الصحراء

تتوهج الأضواء كنجوم اصطناعية تخدع الليل، في مدينة النفط المتلألئة ، كان معين يقف على حافة الشارع الرئيسي. الطريق، المغطى بالإسفلت الأسود اللامع، كان يعكس وهج المصابيح الكهربائية، لكنه لم يستطع أن يعكس شيئًا من روحه. كان معين، ابن الصحراء، يرتدي ثوبًا تقليديًا ممزقًا عند الأطراف، كأنه يتشبث بآخر خيوط ماضيه. في يده عصا خشبية، كان يستخدمها ليتوكأ عليها، ليس لأن جسده كان ضعيفًا، بل لأن روحه كانت ثقيلة، محملة بأعباء لا يراها أحد. المدينة، بمبانيها الزجاجية الشاهقة، كانت غريبة عليه، كأنها كوكب آخر، بعيد عن رمال الصحراء التي نشأ فيها.كان معين في الأربعين من عمره، لكنه كان يشعر أحيانًا أنه عجوز يحمل ذكريات قبيلة بأكملها. وجهه، المحروق بشمس الصحراء، كان يحمل خطوطًا عميقة، كما لو أن كل خط هو قصة لم تُروَ. كان قد جاء إلى المدينة قبل سنوات، مدفوعًا بوعود الرفاهية التي سمعها من تجار النفط. لكنه، مثل كثيرين من أبناء القبائل، وجد نفسه غريبًا في عالم لا يفهمه. المدينة كانت تتحرك بسرعة، بضجيج المحركات وصخب الأسواق، بينما قلبه كان لا يزال ينبض بنبض الصحراء: بطيء، عميق، كأنه يترقب عاصفة بعيدة.في قلبه، كان هناك حب قديم، محدب كالتلال التي كان يراها في طفولته. نسرين، الفتاة التي كان يلتقيها عند بئر القبيلة، كانت تمثل له كل ما هو نقي في العالم. كانت تضحك بصوت يشبه خرير الماء، وكانت عيناها تحملان بريقًا يذكره بنجوم الليل الصافي. كانا يتحدثان عن الحياة البسيطة، عن خيمة يتقاسمانها، عن أغنام ترعى في الوادي. لكن الحلم تبخر عندما قرر والدها أن يزوجها لرجل من قبيلة أخرى، تاجر ثري يملك ناقة ذهبية، كما قالوا. معين لم يحارب القرار، لأن تقاليد القبيلة كانت أقوى من قلبه. لكنه حمل تلك الخسارة كجرح لا يلتئم، جرح يزحف نحوه كلما أغمض عينيه.المدينة، بكل فروسيتها المصطنعة، كانت تحاول أن تملأ الفراغ في روحه. كان يعمل حارسًا في إحدى ناطحات السحاب، يقف لساعات طويلة أمام بوابة زجاجية، يراقب الوجوه التي تمر دون أن تلاحظه. كان يرى فيهم شيئًا من قبائله القديمة، لكنها قبائل جديدة، منقوعة بالمال والطموح، رخوة كالكائنات التي تخرج من البحر. كان يشعر أحيانًا أنه يعيش في حلم غريب، كأن المدينة نفسها هي كابوس كافكاوي، يحاصره بجدران لا يستطيع اختراقها. كان يتذكر كلمات شيخ القبيلة: "الصحراء تعلمك الصبر، لكن المدينة تعلمك النسيان." لكنه لم يستطع أن ينسى.في إحدى الليالي، بينما كان يجلس على مقعد خشبي في ساحة صغيرة قرب المبنى، اقتربت منه امرأة. كانت وفاء، بائعة متجولة تبيع القهوة العربية في أكواب ورقية. كانت في الثلاثين، ترتدي حجابًا أسود بسيطًا، وعيناها تحملان نظرة مألوفة، كأنها تعرف شيئًا عن الخسارة. سألته إن كان يريد فنجانًا، فأومأ برأسه دون كلام. جلست بجانبه، وهي تحمل فنجانها الخاص، وتبادلا الحديث. كانت كلماتها قليلة، لكنها كانت تحمل دفئًا غريبًا، كأنها تحاول أن تستعيد شيئًا فقدته هي أيضًا. تحدثت عن قريتها البعيدة، عن أمها التي كانت تحكي قصصًا عن الصحراء، وعن أحلامها التي تحطمت تحت وطأة المدينة.شعر معين بشيء يتحرك في داخله، كأن الحب المحدب الذي حمله لنسرين قد بدأ يأخذ شكلاً جديدًا. لكنه كان يعرف أن هذا الحب لن يكون كالأول. كان مشوهًا، مشوبًا بالاغتراب الذي فرضته المدينة. كانت وفاء، بطريقتها الهادئة، تمثل له شيئًا من الماضي، لكنها كانت أيضًا جزءًا من هذا العالم الجديد الذي يكافح لفهمه. تحدثا حتى اقترب الفجر، وكان الصمت بينهما يحمل وزنًا غريبًا، كأنه مزيج من الأمل واليأس.في الأيام التالية، أصبحت وفاء جزءًا من روتينه. كانت تأتي كل ليلة، تحمل فنجاني قهوة، ويجلسان معًا، يتحدثان أو يصمتان. لم يكن الحب بينهما واضحًا، بل كان كالصحراء نفسها: شاسع، غامض، مليء بالاحتمالات. لكنه كان يشعر أن شيئًا في داخله يتعافى، كأن الجرح القديم قد بدأ يلتئم، ليس بالشفاء التام، بل بقبول الخسارة. كان يتذكر كلمات نسرين: "الصحراء لا تموت، معين. إنها تنتظر." وكأن وفاء كانت جزءًا من تلك الانتظار.في إحدى الليالي، بينما كانا يجلسان تحت ضوء مصباح الشارع، سألته وفاء: "هل تفتقد الصحراء؟" توقف معين للحظة، ونظر إلى الأفق، حيث كانت الأضواء الاصطناعية تخفي النجوم. "أفتقد نفسي فيها"، أجاب. ثم أضاف، وهو ينظر إليها: "لكنني أجد شيئًا منها هنا." ابتسمت وفاء، وكانت ابتسامتها كالريح التي تهب فجأة في الصحراء، تحمل معها رائحة بعيدة.لم يكن معين متأكدًا إن كان سيبقى في المدينة أم سيعود إلى الصحراء. لكنه كان يعرف أن شيئًا قد تغير. الحب الذي حمله لنسرين، والذي كان يزحف نحوه كل ليلة، لم يعد عبئًا. كان الآن كالرمال التي تحملها الريح، خفيفًا، متغيرًا، لكنه موجود. وقف مع وفاء، ومشيا معًا في الشارع الخالي، وكأنهما يحاولان أن يجدا طريقًا بين الصحراء والمدينة، بين الماضي والحاض



قصة : غبطة الفراشة

يختلط صوت الريح بأنين الطيور المهاجرة، في هذه القرية الصغيرة التي تحاصرها الحقول الخضراء من كل جانب ، و شيرين كانت تمشي على درب ترابي يمتد بين أشجار الزيتون. القرية، ببيوتها الطينية المتواضعة، كانت كأنها لوحة ناقصة، تحمل جمالاً هشاً يوشك أن يتلاشى تحت ضغط الحداثة. شيرين، بثوبها القطني الأبيض الذي تتماوج أطرافه مع النسيم، كانت تبدو كفراشة تائهة، لا تعرف إن كانت تبحث عن ملجأ أم عن حرية. في يدها سلة صغيرة، كانت تجمع فيها أعشاباً برية، ليس لأنها تحتاجها، بل لأنها كانت تشعر أنها تجمع شيئاً من روح المكان.كانت شيرين في الثانية والعشرين من عمرها، لكن عينيها كانتا تحملان حكمة أعمق من سنواتها. وجهها، الذي كان يضيء تحت شمس الظهيرة، كان يحمل ظلالاً خفيفة من القلق، كأنها تعرف أن الزمن يسرق شيئاً منها كل يوم. كانت القرية موطنها الوحيد، لكنها لم تشعر يوماً أنها تنتمي إليه تماماً. كانت كالفراشة التي لا تعود إلى مسكنها إلا عندما تجد طعم السكر البري، ذلك الشيء النادر الذي لا تستطيع تحديده، لكنه يجعلها تشعر أنها حية. كانت تحلم بأشياء بعيدة: مدن مضيئة، بحار تمتد إلى الأفق، حياة لا تحدها جدران الطين والتقاليد.في طفولتها، كانت شيرين تلعب مع الأطفال في الحقول، تركض بين الأعشاب الطويلة، وتتخيل أنها طائر يحلق فوق السحاب. كانت تحكي لهم قصصاً عن عوالم خيالية، عن فراشات عملاقة تحمل الناس إلى النجوم. لكن الآن، وقد كبرت، أصبحت تلك القصص ثقيلة على قلبها. القرية، بكل بساطتها، كانت كقفص غير مرئي. الأهالي، بوجوههم المتعبة وأحاديثهم المتكررة عن المحصول والزواج، كانوا ينظرون إليها كأنها غريبة. "شيرين لا تنتمي إلى هنا"، كانت والدتها تقول بنبرة يختلط فيها الفخر بالقلق. لكن شيرين لم تكن تريد أن تنتمي. كانت تريد أن تطير.في أحد الأيام، بينما كانت تجمع الأعشاب قرب النهر، لاحظت رجلاً غريباً يجلس على صخرة. كان موسى، رساماً تجوالاً جاء إلى القرية ليرسم مناظرها الطبيعية. كان في الثلاثين من عمره، يرتدي سترة جلدية بالية، وعيناه تحملان نظرة الباحث عن شيء لا يجده. اقتربت شيرين بحذر، وسألته عما يفعله. أجابها بصوت هادئ، وهو يشير إلى لوحته: "أحاول أن ألتقط الروح." كانت لوحته مليئة بالألوان: الأخضر الداكن للحقول، الأزرق الباهت للسماء، ولمسة من الأحمر تشبه الفراشات التي رأتها شيرين في أحلامها. شعرت بشيء يتحرك في داخلها، كأن هذا الرجل يعرف شيئاً عن السكر البري الذي تبحث عنه.بدأت شيرين تلتقي بموسى كل يوم عند النهر. كان يرسم، وكانت هي تحكي له عن القرية، عن الحقول، عن أحلامها التي تخاف أن تقولها لأحد. كان موسى يستمع بصمت، لكن عينيه كانتا تقولان الكثير. كان يحكي لها عن المدن التي زارها، عن شوارع باريس المزدحمة، عن بحار اليونان الزرقاء. كانت كلماته كالريح التي تحمل بذوراً جديدة، تزرع في قلبها رغبة أكبر في الرحيل. لكنه كان يحذرها أيضاً: "المدن ليست كما تتخيلين، شيرين. إنها تأخذ أكثر مما تعطي." لكنها لم تكن تصدقه. كانت ترى في عينيه بريقاً يشبه بريقها، كأنهما فراشتان تائهتان تبحثان عن نفس النور.مع مرور الأيام، بدأت شيرين تشعر أن الوقت يضيق بها. الأهالي بدأوا يتهامسون عنها، عن الفتاة التي تقضي وقتها مع الغريب. والدتها، بصوت مرتجف، حذرتها: "الناس يتكلمون، شيرين. لا تجعلي سمعة العائلة تُداس." لكن شيرين لم تكترث. كانت تشعر أنها تقترب من شيء حقيقي، من ذلك السكر البري الذي طالما بحثت عنه. في إحدى الليالي، بينما كانت تجلس مع موسى تحت ضوء القمر، سألها: "ماذا تريدين حقاً؟" نظرت إليه، وعيناها تلمعان كالنجوم. "أريد أن أطير"، قالت. ابتسم موسى، لكنه لم يقل شيئاً. كانت ابتسامته كأنها تعرف نهاية القصة قبل أن تبدأ.في اليوم التالي، اختفى موسى. لم يترك رسالة، ولم يترك سوى لوحة واحدة على ضفة النهر، تصور فراشة حمراء تحلق فوق حقل أخضر. شعرت شيرين بثقل في صدرها، كأن شيئاً قد سُرق منها. لكنها لم تبكِ. أخذت اللوحة، وحملتها إلى غرفتها الصغيرة. جلست تنظر إليها لساعات، وكأنها تحاول أن تجد فيها إجابة. كانت الفراشة في اللوحة تبدو حية، كأنها على وشك أن تطير. لكنها كانت محاصرة في إطار من الخشب، كما كانت شيرين محاصرة في القرية.في صباح اليوم التالي، قررت شيرين أن تغادر. لم تأخذ معها سوى اللوحة وثوبها الأبيض. مشت عبر الحقول، متجهة نحو المحطة الصغيرة التي تربط القرية بالمدينة. كانت الريح تهب خلفها، تحمل رائحة الزيتون والأعشاب البرية. عندما وصلت إلى المحطة، توقفت للحظة، ونظرت إلى اللوحة. كانت الفراشة لا تزال هناك، حمراء، مشرقة، حرة. أغلقت شيرين عينيها، وشعرت بنسيم خفيف يلامس وجهها. لم تكن تعرف إن كانت ستصل إلى المدينة، أو إن كانت ستجد السكر البري الذي تبحث عنه. لكنها كانت تعرف أنها لم تعد خائفة. كانت فراشة، وكان العالم أمامها، شاسعاً، مفتوحاً، مليئاً بالاحتمالات.




قصة : تجارب النار

تتصادم أصوات الأسواق مع همهمة المحركات، في تلك المدينة العربية الصاخبة ، حيث كان جميل يجلس في مقهى صغير على زاوية شارع مزدحم. المدينة كانت ككائن حي، يتنفس دخاناً ويبصق ضجيجاً، وجميل، بقميصه الأبيض المتهالك ونظارته السميكة، كان يبدو كغريب وسط هذا العالم المتسارع. كان يحمل في يده دفترًا قديمًا، صفحاته صفراء وأطرافه متآكلة، يكتب فيه أفكاراً لا يكاد يفهمها هو نفسه. كانت الكلمات تتدفق من قلمه كأنها أضحيات مكورات، تحترق تحت شموس هائلة من الرغبة والحلم، لكنها لا تجد طريقها إلى النور.كان جميل في السابعة والعشرين من عمره، لكنه كان يحمل في روحه ثقل رجل عاش أضعاف ذلك. وجهه، النحيف المحروق بشمس المدينة، كان يحمل عينين تلمعان بنظرة مترددة، كأنهما تبحثان عن شيء بين الواقع والخيال. كان قد جاء إلى المدينة من قرية بعيدة، حاملاً طموحاً كبيراً بأن يصبح كاتباً، لكنه وجد نفسه محاصراً بوظيفة متواضعة ككاتب حسابات في متجر صغير. كانت الأرقام التي يدونها كل يوم كالسلاسل التي تقيده، بينما أحلامه، تلك الأحلام المتزخلقة، كانت تتأرجح بين شهوة لزجة للحرية وخوف من الفشل.في قلبه، كان هناك صراع لا يهدأ. كان يحلم بكتابة رواية عظيمة، رواية تتحدث عن الناس العاديين، عن آلامهم الصغيرة وأحلامهم الكبيرة. لكنه كان يشعر أحياناً أن هذا الحلم هو شهوة محرمة، شيء يجب أن يخفيه عن العالم. المدينة، بكل تناقضاتها، كانت تغذي هذا الصراع. في النهار، كان يرى الأثرياء يتبخترون في سياراتهم الفارهة، وفي الليل، كان يرى الفقراء يفترشون الأرصفة. كان يشعر أن كل قصة يكتبها هي محاولة لفهم هذا العالم، لكنها كانت أيضاً محاولة لفهم نفسه. كان يتذكر كلمات أستاذه في القرية: "الكتابة ليست موهبة، جميل. إنها لعنة."في إحدى الليالي، بينما كان يجلس في المقهى، اقتربت منه امرأة. كانت كريمة، نادلة في المقهى، تحمل صينية مليئة بأكواب الشاي الزجاجية. كانت في الخامسة والعشرين، ترتدي حجاباً أزرق بسيطاً، وعينيها تحملان نظرة هادئة لكنها حادة، كأنها ترى ما وراء الأشياء. سألته إن كان يريد شيئاً آخر، لكنه هز رأسه، وابتسم ابتسامة خجولة. لاحظت كريمة الدفتر على الطاولة، وسألته: "ما الذي تكتبه؟" تردد جميل للحظة، ثم قال: "أحاول أن أجد نفسي." ابتسمت كريمة، وكأنها تفهم شيئاً لم يقله.بدأت كريمة تجلس معه في أوقات الراحة. كانت تحكي له عن حياتها، عن والدها الذي مات في حادث مصنع، عن أمها التي تعمل خياطة لتساعد العائلة. كانت كلماتها بسيطة، لكنها كانت تحمل صدقاً ينقص جميل في كتاباته. بدأ يرى فيها شيئاً من القصص التي يحلم بكتابتها: امرأة عادية، لكنها تحمل في داخلها قوة هائلة. كانت كريمة، بطريقتها الهادئة، تشبه الشموس التي كان يتخيلها في كتاباته: لامعة، قوية، لكنها محاصرة بالواقع. بدأ يشعر بشيء يتحرك في داخله، ليس حباً بالمعنى التقليدي، بل شيئاً أعمق، كأنه يرى فيها مرآة لروحه.لكن المدينة لم تكن رحيمة. كان صاحب المتجر الذي يعمل فيه جميل يضغط عليه لزيادة ساعات العمل، وكانت الأرقام التي يكتبها كل يوم تصبح أثقل، كأنها تمتص روحه. في الوقت نفسه، كان يشعر أن كتاباته تصبح أكثر فوضى، كأنها تتأرجح بين شهوة الكتابة وحلم بعيد المنال. في إحدى الليالي، بينما كان يجلس مع كريمة في المقهى، أخبرته عن حلمها بفتح محل صغير لبيع الأعشاب الطبية. "أريد شيئاً يبقى"، قالت، وهي تنظر إلى كوب الشاي أمامها. شعر جميل بألم في صدره، كأن كلماتها كانت تذكره بأحلامه التي يخاف أن تذبل.في تلك الليلة، عاد جميل إلى غرفته الصغيرة، وهي عبارة عن حجرة في مبنى قديم مليء بالرطوبة. جلس على سريره، وفتح دفتره. كتب عن كريمة، عن عينيها الهادئتين، عن يديها المتعبتين، عن حلمها البسيط الذي يبدو أكبر من المدينة بأكملها. لكنه توقف فجأة. شعر أن كلماته لا تكفي، أنها لا تستطيع أن تلتقط جوهرها. أغلق الدفتر، ونظر إلى النافذة، حيث كانت أضواء المدينة تلمع كالنجوم الكاذبة. شعر باليأس، لكنه كان يعرف أن هذا اليأس هو جزء منه، جزء من تجاربه.في اليوم التالي، قرر جميل أن يكتب شيئاً جديداً. لم يكن رواية عظيمة، بل قصة قصيرة عن نادلة في مقهى، تحلم بمحل صغير، وتحمل في قلبها ناراً لا تنطفئ. كتب بسرعة، كأن الكلمات تتدفق منه كالنهر. عندما انتهى، شعر بشيء لم يشعر به من قبل: خفة. كأن الأضحيات التي كان يكتبها، تلك الأحلام المتزخلقة، قد وجدت أخيراً مكاناً لها. ذهب إلى المقهى، وأعطى القصة لكريمة. قرأتها بصمت، وعندما رفعت عينيها إليه، كانت تلمعان بدموع خفيفة. "هذه أنا"، قالت. ثم أضافت: "لكنها أنت أيضاً."لم يكن جميل متأكداً إن كان سيصبح كاتباً عظيماً يوماً ما. لكنه كان يعرف أن شيئاً قد تغير. الشهوة اللزجة التي كانت تقيده، والأحلام المتزخلقة التي كانت تطارده، أصبحت الآن جزءاً منه، لكنها لم تعد عبئاً. وقف مع كريمة خارج المقهى، ونظرا إلى المدينة التي كانت لا تزال تتنفس حولهما. كانت الشموس الهائلة لا تزال تحترق في داخله، لكنها الآن كانت تضيء طريقاً، وإن كان غامضاً. أمسك بدفتره، وشعر أن الكلمات التي كتبها كانت أضحية، لكنها كانت أيضاً بداية.





قصة : أكوام الخيال

تمتزج رائحة المطر بأبخرة المصانع، في مدينة أوروبية رمادية ، بينما جمال يجلس على مقعد خشبي في بوليفارد مزدحم. الشارع، المكتظ بالمارة والدراجات، كان ينبض بحياة لا يفهمها جمال تماماً. كان يرتدي معطفاً أسود بالياً، وفي يده دفتر رسم صغير، يخطط فيه أشكالاً غريبة، كأنها طيور خيالية تحلق فوق مدينة لا وجود لها. كان يشعر أحياناً أنه عصفور من تلك العصافير التي يرسمها، مثير للفضول، مغتر بنفسه، لكنه تائه بين الإشارات الباذخة التي تزين المدينة: لافتات النيون، واجهات المتاجر، وأضواء المقاهي التي لا تنطفئ.كان جمال في الثلاثين من عمره، لكنه كان يحمل في عينيه نظرة شاب لم يجد مكانه بعد. وجهه، النحيف المحاط بلحية خفيفة، كان يحمل آثار التعب، كأن كل خط فيه هو محاولة فاشلة لرسم حياة أخرى. كان قد جاء إلى المدينة قبل خمس سنوات، هارباً من قرية صغيرة في بلد بعيد، حاملاً حلماً بأن يصبح فناناً. لكنه وجد نفسه يعمل رساماً للإعلانات في وكالة صغيرة، يرسم لافتات لمنتجات لا يؤمن بها. كانت فرشاته، التي كان يحلم أن تملأ اللوحات بالحياة، تقضي أيامها في رسم شعارات لمعجون أسنان وساعات رخيصة.في قلبه، كان هناك فعل حب مجهول، شيء لا يستطيع تحديده. كان يحب الفن، لكنه كان يشعر أن حبه هذا هو سر يجب أن يخفيه. المدينة، بكل بهرجتها، كانت تحاول أن تملأ الفراغ في روحه، لكنها كانت أيضاً تذكره بغربته. كان يرى في المارة وجوهاً تشبه وجوه أهل قريته، لكنهم كانوا يتحركون بسرعة، كأنهم يخافون أن يتوقفوا ويواجهوا أنفسهم. كان يتذكر كلمات أمه: "الفن ليس لنا، جمال. إنه للأغنياء الذين يملكون الوقت." لكنه كان يرفض أن يصدقها، حتى وهو يشعر أن الوقت ينفد من بين يديه.في إحدى الأمسيات، بينما كان يجلس في البوليفارد، اقتربت منه امرأة. كانت بهية، بائعة كتب مستعملة، تحمل حقيبة قماشية مليئة بروايات قديمة. كانت في السابعة والعشرين، ترتدي سترة صوفية خضراء، وعينيها تحملان بريقاً فضولياً، كأنها تبحث عن شيء في كل وجه تراه. سألته إن كان يريد كتاباً، فأجابها بابتسامة متعبة: "ليس لدي وقت للقراءة." لكنها أصرت، وأخرجت من حقيبتها كتاباً قديماً بعنوان "أجنحة الخيال". "هذا لك"، قالت، ووضعته على المقعد بجانبه. شعر جمال بشيء غريب، كأن هذه المرأة ترى شيئاً فيه لم يره هو نفسه.بدأت بهية تمر بالبوليفارد كل يوم، وكان جمال ينتظرها دون أن يعترف بذلك. كانت تجلس معه، تحكي له عن الكتب التي تبيعها، عن قصص قرأتها، عن أبطال خياليين عاشوا حيوات أكبر من حياتهم. كانت كلماتها كالريح التي تحمل رائحة بعيدة، تذكره بأحلامه القديمة. بدأ يرسم لها، ليس وجهها، بل أشياء مستوحاة من كلماتها: طيور بأجنحة ملونة، مدن تطفو في السماء، فراشات تحمل نجوماً على ظهورها. كانت لوحاته تصبح أكثر جرأة، أكثر حياة، لكنها كانت أيضاً تذكره بأنه لا يزال محاصراً في وظيفته، في المدينة، في نفسه.لكن المدينة لم تكن رحيمة. كان مدير الوكالة يضغط عليه لإنهاء المزيد من الإعلانات، وكانت اللوحات التي يرسمها في الليل تبدو كأنها تذوب تحت ضوء النهار. في إحدى الليالي، بينما كان يجلس مع بهية، أخبرته عن حلمها بفتح مكتبة صغيرة في زاوية المدينة. "أريد مكاناً يجتمع فيه الناس مع القصص"، قالت، وهي تنظر إلى السماء المغطاة بالغيوم. شعر جمال بألم في صدره، كأن حلمها كان يعكس حلمه الذي بدأ يتلاشى. "وماذا عنك؟" سألته. توقف للحظة، ثم قال: "أريد أن أرسم شيئاً يبقى."في تلك الليلة، عاد جمال إلى غرفته الصغيرة، وهي عبارة عن حجرة في مبنى قديم يعج بالضوضاء. جلس على مكتبه الخشبي، وفتح دفتر رسمه. بدأ يرسم لوحة جديدة، ليست إعلاناً، بل شيئاً من قلبه: بوليفارد مضيء، مليء بالعصافير الملونة، وعلى أحد المقاعد تجلس امرأة تحمل كتاباً، وعينيها تلمعان كالنجوم. كان يرسم بسرعة، كأن الفرشاة تملك إرادة خاصة بها. عندما انتهى، شعر بخفة لم يشعر بها من قبل. كانت اللوحة أكثر من مجرد رسم، كانت فعل حب، مجهول لكنه حقيقي.في اليوم التالي، ذهب جمال إلى البوليفارد، حاملاً اللوحة. عندما رأته بهية، اقتربت منه، وعندما رأت اللوحة، توقفت. كانت عيناها تلمعان بدموع خفيفة. "هذا البوليفارد"، قالت، "لكنه ليس هنا." أجابها جمال: "إنه في داخلنا." لم تقل شيئاً، لكنها أمسكت يده للحظة، وكان ذلك كافياً. شعر جمال أن العصافير التي يرسمها لم تعد تائهة. كانت الآن تعرف طريقها، وإن كان الطريق غامضاً.لم يكن جمال متأكداً إن كان سيصبح فناناً عظيماً يوماً ما. لكنه كان يعرف أن شيئاً قد تغير. الأحلام التي كانت تثير فضوله، والتي كان يغتر بها، أصبحت الآن جزءاً منه، لكنها لم تعد عبئاً. وقف مع بهية في البوليفارد، ونظرا إلى المدينة التي كانت لا تزال تنبض حولهما. كانت الإشارات الباذخة لا تزال هناك، لكنها لم تعد تخيفه. أمسك بدفتر رسمه، وشعر أن العصافير التي رسمها كانت على وشك أن تطير، وأن فعل حبه المجهول كان، أخيراً، قد وجد اسماً.




قصة : غرزة الأمل


تتشابك الأزقة الضيقة كخيوط حياة مهترئة، في قلب مخيم النصيرات بغزة ، حيث كان إسماعيل يجلس على كرسي بلاستيكي مكسور أمام بيت طيني. السماء فوق المخيم كانت ثقيلة، محملة بغيوم رمادية وأزيز الطائرات التي لا تهدأ. كان يرتدي قميصاً باهتاً، ممزقاً عند الكتف، وفي يده كتاب شعر قديم، صفحاته متفسفرة كأنها تحمل بقايا نور من زمن آخر. المخيم، بجدرانه المتشققة وأصوات الأطفال التي تمتزج بأنين الجرحى، كان كأنه لوحة ممزقة، لكن إسماعيل كان يرى فيه شيئاً آخر: غرزة دقيقة، لحظة عابرة من اللقاءات التي كانت تحيي روحه.كان إسماعيل في الخامسة والثلاثين من عمره، لكن وجهه كان يحمل تجاعيد رجل عاش أضعاف ذلك. عيناه، اللتين كانتا يوماً تلمعان بحيوية الشباب، كانتا الآن غائمتين، كأن الدخان الذي ملأ السماء بعد كل غارة قد ترك أثراً فيهما. كان قد فقد أخاه الأصغر في قصف استهدف مدرسة المخيم قبل سنتين، ومنذ ذلك الحين، أصبح يعيش في عزلة غريبة، كأن الزمن قد توقف عند تلك اللحظة. كان يعمل كاتباً للرسائل في المخيم، يكتب للناس خطابات إلى أحبائهم في الشتات، لكنه كان يشعر أحياناً أن كلماته ليست سوى أوراق متفسفرة، مقلوبة، تحمل أحلاماً لا تصل أبداً.في شبابه، كان إسماعيل يحلم بأن يصبح شاعراً. كان يجلس على شاطئ غزة، يكتب أبياتاً عن البحر الذي يحمل أسرار الحرية. لكن الحرب، كسكين حادة، قطعت خيوط أحلامه. كان الآن يعيش بين الأنقاض، يكتب رسائل للآخرين، لكنه نادراً ما كتب لنفسه. كان يشعر أن لقاءه مع العالم قد غاب، كأن الحياة نفسها قد أصبحت لقاءً غائباً. لكنه كان يتشبث بشيء صغير: كتابه القديم، الذي كان يقرأ منه كل ليلة، كأنه يحاول أن يجد في الأبيات غرزة تربط الماضي بالحاضر.في إحدى الليالي، بينما كان يجلس تحت ضوء مصباح كيروسين خافت، اقتربت منه امرأة. كانت فدوى، معلمة في مدرسة المخيم، تحمل حقيبة قماشية مليئة بالكتب المدرسية. كانت في الثلاثين، ترتدي حجاباً أزرق باهتاً، وعينيها تحملان نظرة من يحمل أحلام الآخرين. كانت قد جاءت لتطلب منه أن يكتب رسالة لأخيها في الخارج، لكنه توقف عندما رأى كتاباً صغيراً في يدها، مجموعة شعرية لمحمود درويش. "ما زلت تقرأين الشعر؟" سألها، وهو يشير إلى الكتاب. أجابت بابتسامة خافتة: "إنه الشيء الوحيد الذي يبقيني متصلة." كانت كلماتها بسيطة، لكنها حملت وزناً جعله يشعر أنها ترى شيئاً فيه لم يره هو نفسه.بدأت فدوى تمر به كل يوم، تحمل معها أحياناً كتاباً أو قصاصة ورق عليها بيت شعر. كانا يجلسان معاً، يتحدثان عن الشعر، عن البحر الذي لم يعد بإمكانهما رؤيته، عن الأحلام التي كانت تراودهما قبل أن تسرقها الحرب. كانت فدوى تحكي له عن طلابها، عن فتاة صغيرة كتبت قصيدة عن شجرة لم ترَها أبداً، عن صبي رسم سماء بلا طائرات. كان إسماعيل يستمع، وكأن كلماتها هي غرزة دقيقة تربط قلبه الممزق. بدأ يكتب أبياتاً جديدة، ليست للرسائل، بل لنفسه، أبياتاً عن أوراق متفسفرة تطير في سماء غزة، عن لقاءات غائبة تجد طريقها إلى النور.لكن المخيم لم يكن مكاناً للشعر. كانت الغارات تأتي كالليل، دون إنذار، تملأ السماء بالنار والرعب. في إحدى الليالي، بينما كانا يتحدثان، سمعا دوي انفجار قريب. ركض إسماعيل إلى الخارج، وتبعته فدوى. كان بيتاً مجاوراً قد تحول إلى أنقاض، والصراخ يملأ الهواء. ساعد إسماعيل في حمل طفل إلى مركز طبي مؤقت، بينما وقفت فدوى، ترتجف، تحاول تهدئة امرأة فقدت ابنها. في تلك اللحظة، شعر إسماعيل أن الأوراق التي يكتبها ليست سوى هباء، لكنه رأى فدوى، وعينيها تلمعان بالعزيمة، فتشبث بكتابه كما لو كان حبل نجاة.في الصباح التالي، عاد إسماعيل إلى كرسيه البلاستيكي. كان قد وجد قصاصة ورق بين أنقاض البيت المدمر، عليها بيت شعر كتبته يد طفل: "السماء تنتظرنا، حتى لو كانت مليئة بالدخان." أخذ القصاصة، وكتب تحتها بيتاً من عنده: "وغرزة صغيرة، في قلب الخراب، تكفي لنبدأ." عندما جاءت فدوى، أعطاها القصاصة. قرأتها بصمت، وعندما رفعت عينيها إليه، كانت تلمعان بدموع خفيفة. "هذا لنا"، قالت. ثم أضافت: "لكنه لغزة أيضاً."لم يكن إسماعيل متأكداً إن كان سيبقى على قيد الحياة ليكتب قصيدة أخرى. لكن في تلك اللحظة، شعر أن اللقاء الغائب الذي كان يبحث عنه قد وجد طريقه إليه. الأوراق المتفسفرة التي كان يكتبها لم تكن مجرد كلمات، بل كانت غرزة تربط الماضي بالمستقبل. وقف مع فدوى أمام البيت، ونظرا إلى المخيم الذي كان يئن تحت وطأة الحرب. كانت الأوراق المقلوبة لا تزال تطير في خياله، لكنها الآن كانت تحمل نوراً. أمسك بيدها، وشعر بدفء أصابعها، وكان ذلك كافياً، ولو للحظة، ليؤمن أن الغرزة التي يتركها وراءه ستجد يوماً مكانها.



قصة : المستقبل الموصود


تتراكم الأنقاض كأنها شاهد على زمن محطم، في زاوية من مخيم دير البلح في غزة ، و عبد المحسن كان يجلس على كرسي معدني صدئ أمام بيت طيني متداعٍ. السماء فوق المخيم كانت ملبدة بدخان كثيف، يحجب النجوم ويخنق الأمل. كان يرتدي سترة ممزقة، وفي يده دفتر قديم، صفحاته مليئة بملاحظات مكتوبة بخط يد مضطرب، كأنها محاولة لفك شفرة متاهة الشعوب التي طالما أرّقته. المخيم، بأزقته الضيقة المشبعة بروائح البارود وأصوات الأنين، كان ككتاب مفتوح، مليء بالخرافات والأحزان، لكنه كان يراه كأدغال كثيفة، محبوسة بلا أفق.كان عبد المحسن في الأربعين من عمره، لكن وجهه كان يحمل تجاعيد رجل عاش أضعاف ذلك. عيناه، اللتين كانتا يوماً تلمعان بحماس المفكر الشاب، كانتا الآن غائمتين، كأن الدخان الذي ملأ السماء بعد كل غارة قد استقر فيهما. كان قد فقد زوجته وأطفاله في قصف استهدف حيهم قبل خمس سنوات، ومنذ ذلك الحين، أصبح يعيش في عالم من الأفكار، كأنه يحاول أن يجد معنى لما لا معنى له. كان يعمل كمعلم تاريخ في مدرسة المخيم المؤقتة، يحكي للأطفال عن شعوب قديمة، عن حضارات سقطت تحت وطأة الحروب، لكنه كان يشعر أن دروسه ليست سوى صلوات سكرى، تلهث هنا وهناك بلا جدوى.في شبابه، كان عبد المحسن يحلم بأن يكون فيلسوفاً. كان يقرأ عن الأديان، عن الخرافات التي شكلت العالم، عن القبائل التي بنت إمبراطوريات ثم تحولت إلى كثبان من الرماد. لكن الحرب في غزة، كوحش لا يشبع، سرقت منه كتبه وأحلامه. كان الآن يعيش بين الأنقاض، يكتب ملاحظاته في دفتره، كأنه يحاول أن يحصي أدغال الخرافات التي تحيط به. كان يشعر أن المستقبل موصود، كأن غزة نفسها محبوسة في متاهة لا مخرج منها. لكنه كان يتشبث بشيء صغير: فكرة أن الكلمات، حتى لو كانت مكتوبة على ورق ممزق، يمكن أن تحمل بصيصاً من الأمل.في إحدى الليالي، بينما كان يجلس تحت ضوء مصباح كيروسين يرتجف، اقتربت منه امرأة. كانت مريم، ناشطة اجتماعية في المخيم، تحمل حقيبة مليئة بأوراق توزيع المساعدات. كانت في الخامسة والثلاثين، ترتدي حجاباً أسود باهتاً، وعينيها تحملان نظرة من يحمل أحزان الجميع. كانت قد جاءت لتطلب منه أن يكتب تقريراً عن حال الأطفال في المخيم، لكنه توقف عندما رأى كتاباً صغيراً في يدها، كتاباً عن تاريخ فلسطين. "ما زلت تقرأين؟" سألها، وهو يشير إلى الكتاب. أجابت بصوت هادئ: "إنه الشيء الوحيد الذي يذكرني أننا لسنا مجرد أرقام." كانت كلماتها بسيطة، لكنها حملت وزناً جعله يشعر أنها ترى شيئاً فيه لم يعد يراه.بدأت مريم تمر به بانتظام، تحمل معها أحياناً قارورة ماء أو رغيف خبز، لكنها كانت تحمل أيضاً شيئاً أثمن: القصص. كانت تحكي له عن الأطفال الذين تعلمهم، عن فتاة كتبت رسالة إلى العالم تطالب بالحرية، عن صبي رسم شجرة على جدار مدمر. كان عبد المحسن يستمع، وكأن كلماتها هي مفتاح لفك متاهة الشعوب التي طالما حاصرته. بدأ يكتب ملاحظات جديدة، ليست عن حضارات سقطت، بل عن أناس يقاومون وسط الخراب، عن صلوات سكرى تتحول إلى أناشيد حياة. كانت كلماته كمحاولة لإحصاء كثبان القبائل البتردولارية، تلك القوى التي تحكم العالم من بعيد، لكنه كان يكتب أيضاً عن غزة، عن أمل يتشكل في الظل.لكن المخيم لم يكن مكاناً للأمل. كانت الغارات تأتي كالليل، تملأ السماء بالنار والرعب. في إحدى الليالي، بينما كانا يتحدثان، سمعا دوي انفجار قريب. ركضت مريم إلى الخارج، وتبعها عبد المحسن، قلبه يرتجف. كان بيتاً مجاوراً قد تحول إلى ركام، والصراخ يمزق الهواء. ساعدت مريم في إجلاء عائلة، بينما وقف عبد المحسن، يحمل مصباحاً، يحاول أن يضيء الطريق. في تلك اللحظة، شعر أن ملاحظاته ليست سوى هباء، لكنه رأى مريم، وعينيها تلمعان بالعزيمة، فتشبث بدفتره كما لو كان آخر ما يملك.في الصباح التالي، عاد عبد المحسن إلى كرسيه المعدني. كان قد وجد ورقة بين الأنقاض، عليها رسم طفل لشمس صغيرة فوق بحر. أخذ الورقة، وكتب تحتها جملة: "حتى في المستقبل الموصود، هناك ضوء ينفذ." عندما جاءت مريم، أعطاها الورقة. قرأتها بصمت، وعندما رفعت عينيها إليه، كانت تلمعان بدموع خفيفة. "هذا لنا"، قالت. ثم أضافت: "لكنه لغزة أيضاً." أمسك عبد المحسن بيدها للحظة، وشعر بدفء أصابعها، كأنه مفتاح لأفق لم يره من قبل.لم يكن عبد المحسن متأكداً إن كان سيبقى على قيد الحياة ليكتب فكرة أخرى. لكن في تلك اللحظة، شعر أن المتاهة التي كان يحاول فكها لم تكن موصودة تماماً. الصلوات السكرى التي كان يكتبها لم تكن مجرد كلمات، بل كانت محاولة لإيجاد أفق جديد. وقف مع مريم أمام البيت، ونظرا إلى المخيم الذي كان يئن تحت وطأة الحرب. كانت كثبان الخرافات لا تزال تحيط بهما، لكنها الآن كانت تحمل بصيصاً من النور. شعر بنبضها، قوياً، حياً، وكان ذلك كافياً، ولو للحظة، ليؤمن أن المستقبل، حتى لو كان موصوداً، يمكن أن يُفتح.


قصة : اتهام

تتكدس البيوت الطينية كأنها أحزان متراكمة، قرب بوابة مخيم البريج بغزة ،كان وحيد يجلس على عتبة بيت صغير، ينظر إلى زقاق ضيق مليء بالغبار. كان يرتدي قميصاً أبيض ممزقاً، وفي يده دفتر مليء بأبيات شعر مكتوبة بخط مضطرب، كأنها محاولة للهاث خلف حلل اللغة. السماء فوق المخيم كانت رمادية، محملة بدخان لا يتلاشى، لكن وحيد كان يرى فيها شيئاً آخر: وروداً مرجانية، كأنها تنبت من قلب الخراب. المخيم، بأصواته الممتزجة من صرخات الأطفال وأزيز الطائرات، كان كأنه سجن مفتوح، لكنه كان يشعر أن كلماته هي عرشه الثمين، وإن كان عرشاً مهدداً بالانهيار.كان وحيد في الثلاثين من عمره، لكن وجهه كان يحمل آثار سنوات الحرب التي جعلته يبدو أكبر سناً. عيناه، اللتين كانتا يوماً تلمعان بحماس الشباب، كانتا الآن محاصرتين بدوائر سوداء، كأن الدخان الذي ملأ السماء قد ترك أثراً فيهما. كان قد فقد أخته في غارة قبل ثلاث سنوات، ومنذ ذلك الحين، أصبح يعيش في عالم من الكلمات، كأنه يحاول أن يجد فيها ملجأ. كان يعمل ككاتب رسائل في المخيم، يكتب للناس خطابات إلى أحبائهم في الشتات، لكنه كان يكتب أيضاً أشعاراً، يتمتم بها في الخفاء، كأنها زعم مجنون يتكثف في دمه الموشوري.في قلبه، كان هناك حب غامض، متشابك كأنغام طيفية. كان يحب تغريد، الفتاة التي كانت تمر بالمخيم كل صباح، تحمل سلة مليئة بالخبز لتوزعه على الأطفال. كانت في السابعة والعشرين، ترتدي حجاباً أزرق باهتاً، وعينيها تحملان بريقاً يذكره بالياسمين الذي كان ينمو في بيتهم القديم قبل أن يدمر. كانت تغريد تتهمه دائماً، بنبرة مزيج من المزاح والجد: "أنت تهدر وقتك خلف الكلمات، وحيد. اللغة لن تملأ بطون الأطفال." لكنه كان يحبها أكثر عندما تتهمه، لأن عينيها كانت تلمعان بنور يجعله يشعر أنه ليس وحيداً.في إحدى الليالي، بينما كان يجلس تحت ضوء شمعة تذوب ببطء، اقتربت تغريد. كانت تحمل رغيف خبز، ووضعته أمامه. "اكتب لي شيئاً"، قالت، وهي تنظر إلى دفتره. تردد وحيد للحظة، ثم فتح الدفتر وبدأ يكتب بيتاً: "أحبكِ إذ تتهمينني، كأنكِ تقودينني إلى كرز أنغامك." قرأته تغريد بصمت، ثم ابتسمت. "أنت مجنون"، قالت، لكن صوتها كان يحمل دفئاً جعله يشعر أن اتهامها هو مديح. بدأت تمر به كل يوم، تحمل معها رغيفاً أو كلمة، وكان هو يكتب لها أبياتاً، كأنها ورود مرجانية يضعها قرب عرشه الثمين.لكن المخيم لم يكن مكاناً للشعر. كانت الغارات تأتي كالليل، تملأ السماء بالنار والخوف. في إحدى الليالي، بينما كانا يتحدثان، سمعا دوي انفجار قريب. ركضت تغريد إلى الزقاق، تحاول إنقاذ طفل من تحت الأنقاض، وتبعها وحيد، قلبه يرتجف. ساعدا معاً في إخراج عائلة من بيت مدمر، لكن الدخان والصراخ جعلا وحيد يشعر أن كلماته ليست سوى هباء. لكنه رأى تغريد، وعينيها تلمعان بالعزيمة، فتشبث بدفتره كما لو كان حبل نجاة.في الصباح التالي، عاد وحيد إلى عتبته. كان قد وجد قطعة ورق بين الأنقاض، عليها رسم طفل لزهرة مرجانية. أخذ الورقة، وكتب تحتها بيتاً: "أنا زعم مجنون، لكنني أحبكِ إذ تتهمينني." عندما جاءت تغريد، أعطاها الورقة. قرأتها بصمت، وعندما رفعت عينيها إليه، كانت تلمعان بدموع خفيفة. "هذا لنا"، قالت. ثم أضافت: "لكنه لغزة أيضاً." أمسك وحيد بيدها، وشعر بدفء أصابعها، كأنها غرزة تربط قلبه بالحياة. لم يكن متأكداً إن كان سيبقى على قيد الحياة ليكتب بيتاً آخر، لكنه كان يعرف أن اتهامها، وحبها، كانا عرشه الثمين، وأن أنغامها الطيفية ستبقى تتكثف في دمه الموشوري.






قصة : النزف الصامت

تتكدس البيوت المشققة كأنها جروح لا تلتئم، في أزقة مخيم الشجاعية ، حيث تفاني تجلس على مرتبة مهترئة في زاوية غرفة صغيرة. الجدران، المغطاة ببقايا طلاء متآكل، كانت تحمل آثار الرطوبة والقصف، كأنها تحكي قصة مدينة تنزف بصمت. كانت ترتدي شالاً أسود باهتاً، وفي يدها إبرة وخيط، ترقّع ثوباً قديماً، كأنها تحاول أن ترمم شيئاً أكبر من مجرد قماش. المخيم، بأزقته الضيقة المشبعة بروائح البارود وأنين الجياع، كان كقلب ينبض بالألم، لكن تفاني كانت ترى فيه شيئاً آخر: وجه الصمت العاري، شهادة الأبجديات التي تحملها في صدرها كقنديل ينزف نوراً.كانت تفاني في الثلاثين من عمرها، لكن وجهها كان يحمل تجاعيد امرأة عاشت أضعاف ذلك. عيناها، اللتين كانتا يوماً تلمعان كنجوم البحر في ليالي غزة الصافية، كانتا الآن غائمتين، كأن الدخان الذي ملأ السماء بعد كل غارة قد استقر فيهما. كانت قد فقدت ابنها الوحيد في قصف استهدف مدرسة المخيم قبل عامين، ومنذ ذلك الحين، أصبحت تعيش في عالم من الصمت، كأن الكلمات قد خانتها. كانت تعمل في مستشفى مؤقت، ترقّع جروح المصابين، لكنها كانت تشعر أن كل غرزة تضعها هي محاولة لترميم قلبها الممزق. كانت تحمل في داخلها نزيفاً صامتاً، ليس من الدم، بل من الأمل الذي يتسرب ببطء.في شبابها، كانت تفاني تحلم بأن تصبح رسامة. كانت تجلس على شاطئ البحر، ترسم لوحات مليئة بالألوان: سماء زرقاء، أشجار خضراء، أطفال يركضون دون خوف. لكن الحرب، كوحش لا يرحم، سرقت منها فرشاتها وأحلامها. كانت الآن تعيش بين الأنقاض، ترقّع الثياب والجروح، لكنها كانت تشعر أنها محاصرة في متاهة، كأنها لا تنحني إلا لسماوات النور التي تراها في أحلامها. كانت تتشبث بشيء صغير: قنديل زيتي صغير تضعه بجانب مرتبتها، يضيء غرفتها كل ليلة، كأنه شهادة على أنها لا تزال حية.في إحدى الليالي، بينما كانت ترقّع ثوباً تحت ضوء القنديل، اقترب منها رجل. كان إيهم، مسعف في المستشفى ذاته، يحمل حقيبة مليئة بالضمادات. كان في الثامنة والعشرين، يرتدي سترة ممزقة، وعيناه تحملان نظرة من يرى الموت يومياً لكنه يرفض أن يستسلم. كان قد جاء ليطلب منها خيطاً لإصلاح حقيبته، لكنه توقف عندما رأى القنديل. "كيف يبقى مضيئاً هنا؟" سأل، وهو يشير إلى النور الخافت. أجابت تفاني بصوت هادئ: "لأنني أعطيه ما تبقى من زيت قلبي." كانت كلماتها بسيطة، لكنها حملت وزناً جعله ينظر إليها كأنها لغز يحتاج إلى حل.بدأ إيهم يمر بها كل يوم، يحمل معه أحياناً قارورة ماء أو قطعة خبز، لكنه كان يحمل أيضاً شيئاً أثمن: الأمل. كانت تفاني تحكي له عن لوحاتها القديمة، عن الألوان التي كانت ترسمها على الشاطئ، عن ابنها الذي كان يحب أن يجمع الحصى. كان إيهم يستمع، وكأن كلماتها هي فراديس المجرات التي كانت تتحدث عنها. كان يحكي لها عن المرضى الذين ينقذهم، عن امرأة أنشدت أغنية لابنها المصاب، عن طفل رسم قنديلاً على جدار المستشفى. كانت كلماته كالريح التي تهب فجأة، تحمل رائحة البحر البعيد. كانا يجلسان تحت ضوء القنديل، وكأنهما يحاولان أن يخلقا عالماً صغيراً وسط الخراب.لكن المخيم لم يكن مكاناً للأحلام. كانت الغارات تأتي كالصواعق، تملأ السماء بالنار والدخان. في إحدى الليالي، بينما كانا يتحدثان، سمعا دوي انفجار قريب. ركض إيهم إلى المستشفى، وتبعته تفاني، قلبها يرتجف. كان مبنى قريباً قد تحول إلى ركام، والصراخ يملأ الهواء. ساعد إيهم في تضميد جرح فتاة صغيرة، بينما وقفت تفاني، ترتعد، تحاول تهدئة أم فقدت ابنها. في تلك اللحظة، شعرت أن نزيفها الصامت كان على وشك أن يغرقها، لكنها رأت إيهم، وعيناه تلمعان بالعزيمة، فتشبثت بقنديلها كما لو كان حبل نجاة.في الصباح التالي، عادت تفاني إلى غرفتها. كان القنديل قد خفت نوره، لكنه كان لا يزال مضيئاً. جلست بجانبه، وأخذت قطعة ورق وجدتها بين الأنقاض، عليها رسم طفل لقمر يضيء سماء سوداء. كتبت تحتها جملة: "حتى القناديل التي تنزف تبقى تنير." عندما جاء إيهم، أعطته الورقة. قرأها بصمت، وعندما رفع عينيه إليها، كانت تلمعان بدموع خفيفة. "هذا لنا"، قال. ثم أضاف: "لكنه لغزة أيضاً." أمسكت تفاني بيده، وشعرت بدفء أصابعه، كأنه غرزة تربط قلبها بالحياة.لم تكن تفاني متأكدة إن كانت ستبقى على قيد الحياة لترسم لوحة أخرى. لكنها كانت تعرف أن شيئاً قد تغير. النزيف الصامت الذي كان يستنزفها لم يعد عبئاً، بل كان شهادة على مقاومتها. وقفت مع إيهم أمام البيت، ونظرا إلى المخيم الذي كان يئن تحت وطأة الحرب. كانت الأوراق المتفسفرة لا تزال تطير في خيالها، لكنها الآن كانت تحمل نوراً. شعرت بنبضه، قوياً، حياً، وكان ذلك كافياً، ولو للحظة، لتؤمن أن النزيف، حتى لو كان صامتاً، يمكن أن يصبح قنديلاً.




قصة : هلوسة الشهوة

تتكوم الأنقاض كأنها جثث أحلام مهجورة، في شارع دمره القصف الصهيوني في مخيم خان يونس بغزة ، و سامر يقف متكئًا على جدار متصدع، ينظر إلى سماء محملة بدخان كثيف يحجب النجوم. كان يرتدي قميصًا ممزقًا عند الكتف، وفي يده قطعة فحم، يرسم بها على الجدار أشكالًا غريبة، كأنها فرسان بنفسجيون يحلقون فوق أدغال الخراب. المخيم، بأزقته المليئة بالغبار وأصوات الصراخ المتقطع، كان كمتاهة لا نهائية، لكن سامر كان يرى فيه شيئًا آخر: هلوسة مرحة، قدر لا مفر منه، ترتمي على أوراق عمره السحيق كأنها شهوة للحياة تتحدى الموت.كان سامر في السابعة والعشرين من عمره، لكن وجهه كان يحمل آثار سنوات الحرب التي جعلته يبدو أكبر سناً. عيناه، اللتين كانتا يومًا تلمعان بحماس الشباب، كانتا الآن محاصرتين بدوائر سوداء، كأن البارود الذي ملأ السماء قد ترك أثراً فيهما. كان قد فقد أخاه الأكبر في غارة استهدفت سوق المخيم قبل ثلاث سنوات، ومنذ ذلك الحين، أصبح يعيش في عالم من الخيال، كأنه يحاول أن يجد فيه ملجأ من الواقع. كان يعمل كعامل تنظيف في شوارع المخيم، يجمع الحطام، لكنه كان يشعر أن كل قطعة حجر يحملها هي جزء من روحه الممزقة. كانت أحلامه، تلك الهلوسات المليئة بالألوان، هي ما يبقيه على قيد الحياة.في شبابه، كان سامر يحلم بأن يصبح راقصًا. كان يتسلل إلى شاطئ البحر، يرقص تحت ضوء القمر، يتخيل نفسه فارسًا يتحدى العالم بحركاته. لكن الحرب، كسكين حادة، قطعت خيوط أحلامه. كان الآن يعيش بين الأنقاض، يرسم على الجدران، لكنه كان يشعر أن كل خط يرسمه هو محاولة للتواصل مع جموح الحياة. كان يرى في الشوارع المدمرة قصرًا متعجرفًا، خرقاءً، كأنه برلمانات العالم التي تنظر إلى غزة بلامبالاة. لكنه كان يتشبث بشيء صغير: قطعة فحم، يرسم بها كل ليلة، كأنه يحاول أن يخلق عالمًا آخر على جدران المخيم.في إحدى الليالي، بينما كان يرسم على جدار قريب من بيته، اقتربت منه امرأة. كانت بثينة، معلمة رقص تطوعية في مركز ثقافي مؤقت بالمخيم. كانت في الخامسة والعشرين، ترتدي شالًا أحمر باهتًا، وعينيها تحملان بريقًا يذكره بالبنفسج الذي كان يرسمه. كانت قد جاءت لتطلب منه أن يساعدها في تنظيف المركز، لكنه توقف عندما رأى حركتها الرشيقة، كأنها ترقص حتى وهي تمشي. "لماذا ترسم هنا؟" سألت، وهي تشير إلى الجدار. أجاب سامر بصوت خافت: "لأنني أحاول أن أرى شيئًا غير الدمار." كانت كلماته بسيطة، لكنها حملت وزناً جعلها تنظر إليه كأنه لغز يستحق الحل.بدأت بثينة تمر به كل يوم، تحمل معها أحيانًا زجاجة ماء أو قصاصة ورق عليها رسم طفل. كانا يجلسان معًا، يتحدثان عن الرقص، عن الحركات التي كانا يحلمان بها، عن الألوان التي كانا يريدان أن يملآ بها العالم. كانت بثينة تحكي له عن الأطفال الذين تعلمهم، عن فتاة صغيرة رقصت تحت ضوء مصباح، عن صبي حاول أن يقلد حركات طائر. كان سامر يستمع، وكأن كلماتها هي هلوسة مرحة، ترتمي على أوراق عمره السحيق. بدأ يرسم لها، ليس وجهها، بل أشكالاً مستوحاة من كلماتها: فرسان بنفسجيون يرقصون فوق أنقاض، طيور تحلق في سماء مدمرة. كانت رسوماته كمحاولة للتواصل مع جموحها، كأنها قدر لا مفر منه.لكن المخيم لم يكن مكانًا للرقص. كانت الغارات تأتي كالظلال، تملأ السماء بالنار والرعب. في إحدى الليالي، بينما كانا يتحدثان، سمعا دوي انفجار قريب. ركضت بثينة إلى المركز الثقافي، تحاول إنقاذ الأطفال، وتبعها سامر، قلبه يرتجف. كان جزء من المركز قد تهدم، والصراخ يملأ الهواء. ساعدت بثينة في إخراج طفلة من تحت الركام، بينما وقف سامر، يحمل قطعة فحم، يحاول أن يرسم شيئًا على جدار متبقٍ. في تلك اللحظة، شعر أن رسوماته ليست سوى هباء، لكنه رأى بثينة، وعينيها تلمعان بالعزيمة، فتشبث بفحمه كما لو كان سلاحه الوحيد.في الصباح التالي، عاد سامر إلى الجدار. كان قد وجد قطعة ورق بين الأنقاض، عليها رسم طفل لطائر بنفسجي. أخذ الورقة، وكتب تحتها جملة: "حتى الهلوسات ترقص فوق الأنقاض." عندما جاءت بثينة، أعطاها الورقة. قرأتها بصمت، وعندما رفعت عينيها إليه، كانت تلمعان بدموع خفيفة. "هذا لنا"، قالت. ثم أضافت: "لكنه لغزة أيضاً." أمسك سامر بيدها، وشعر بدفء أصابعها، كأنها غرزة تربط هلوساته بالحياة.لم يكن سامر متأكدًا إن كان سيبقى على قيد الحياة ليرسم لوحة أخرى. لكن في تلك اللحظة، شعر أن القدر الذي كان يراه لا مفر منه لم يكن عبئًا، بل كان شهوة للحياة. وقف مع بثينة أمام الجدار، ونظرا إلى المخيم الذي كان يئن تحت وطأة الحرب. كانت الفرسان البنفسجيون لا يزالون يرقصون في خياله، لكن الآن كانوا يحملون نورًا. شعر بنبضها، قويًا، حيًا، وكان ذلك كافيًا، ولو للحظة، ليؤمن أن الهلوسة، حتى لو كانت شهوة، يمكن أن تصبح رقصة.


قصة : حب يتشكل


حيث تتكدس البيوت الطينية كأنها أحلام مشوهة بالحرب، في زاوية من مخيم رفح بغزة ، كان ملهم يجلس على عتبة بيت صغير، ينظر إلى زقاق ضيق يعج بالغبار. كان يرتدي قميصًا أبيض ممزقًا عند الأكمام، وفي يده قلم رصاص وورقة مكرمشة، يكتب عليها كلمات تبدو كأنها فراشات تحلق فوق أنقاض الواقع. السماء فوق المخيم كانت رمادية، محملة بدخان لا يتلاشى، لكن ملهم كان يرى فيها شيئًا آخر: نهارًا يحمل طعم الحليب، ماءً يتشرد فيه، مصباحًا يضيء عتمته. المخيم، بأصواته الممتزجة من أنين الأطفال وأزيز الطائرات، كان كسجن مفتوح، لكنه كان يشعر أن كلماته هي مرفأه، وإن كان مرفأً هشًا.كان ملهم في الثلاثين من عمره، لكن وجهه كان يحمل تجاعيد رجل عاش أضعاف ذلك. عيناه، اللتين كانتا يومًا تلمعان بحماس الشباب، كانتا الآن غائمتين، كأن الدخان الذي ملأ السماء بعد كل غارة قد ترك أثراً فيهما. كان قد فقد والدته في قصف استهدف بيتهم قبل أربع سنوات، ومنذ ذلك الحين، أصبح يعيش في عالم من الكلمات، كأنه يحاول أن يجد فيها ملجأ من الخسارة. كان يعمل ككاتب يوميات في مركز ثقافي مؤقت بالمخيم، يدون حكايات الناس، لكنه كان يشعر أن كل كلمة يكتبها هي محاولة لرمي عتمته على شيء أكبر منه. كانت أحلامه، تلك الفراشات التي يكتبها، هي ما يبقيه على قيد الحياة.في شبابه، كان ملهم يحلم بأن يصبح كاتبًا عظيمًا. كان يجلس على شاطئ البحر، يكتب قصصًا عن حب يتشكل كالفراشات، عن مدن لا تعرف النفاق. لكن الحرب، كسكين لا ترحم، قطعت خيوط أحلامه. كان الآن يعيش بين الأنقاض، يكتب يوميات الآخرين، لكنه نادرًا ما كتب لنفسه. كان يشعر أن الحب، ذلك الشيء الذي كان يحلم به، قد أضاعه في مدن النفاق التي رآها في عيون العالم الذي يتجاهل غزة. لكنه كان يتشبث بشيء صغير: ورقة مكرمشة، يكتب عليها كل ليلة، كأنه يحاول أن يجد فيها واحة لروحه.في إحدى الليالي، بينما كان يكتب تحت ضوء مصباح زيتي خافت، اقتربت منه امرأة. كانت سهير، متطوعة في توزيع المساعدات بالمخيم، تحمل سلة مليئة بأرغفة الخبز. كانت في السابعة والعشرين، ترتدي حجابًا أزرق باهتًا، وعينيها تحملان بريقًا يذكره بالسماء التي كان يراها في طفولته. كانت قد جاءت لتطلب منه أن يكتب رسالة لعائلة فقدت منزلها، لكنه توقف عندما رأى يدها، رقيقة كأنامل فراشة. "لماذا تكتب هنا؟" سألت، وهي تشير إلى الورقة. أجاب ملهم بصوت هادئ: "لأنني أحاول أن أشرب السماء." كانت كلماته غريبة، لكنها حملت وزناً جعلها تنظر إليه كأنه لغز يستحق الاكتشاف.بدأت سهير تمر به كل يوم، تحمل معها أحيانًا رغيف خبز أو قارورة ماء، لكنها كانت تحمل أيضًا شيئًا أثمن: القصص. كانت تحكي له عن الناس الذين تساعدهم، عن امرأة كبيرة في السن غنت لابنها المفقود، عن طفل رسم فراشة على جدار مدمر. كان ملهم يستمع، وكأن كلماتها هي ماء يتشرد فيه، واحة يغفو بينها. بدأ يكتب لها، ليس يوميات الآخرين، بل قصصًا قصيرة، عن فراشات تحلق فوق الأنقاض، عن نهار يوقظ العتمة. كانت كلماته كمحاولة لإلقاء عتمته على حسدها البض، كأنها مصباح يضيء روحه.لكن المخيم لم يكن مكانًا للحب. كانت الغارات تأتي كالليل، تملأ السماء بالنار والرعب. في إحدى الليالي، بينما كانا يتحدثان، سمعا دوي انفجار قريب. ركضت سهير إلى الزقاق، تحاول إنقاذ عائلة من تحت الأنقاض، وتبعها ملهم، قلبه يرتجف. ساعدا معًا في إخراج طفل من بيت مدمر، لكن الدخان والصراخ جعلا ملهم يشعر أن كلماته ليست سوى هباء. لكنه رأى سهير، وعينيها تلمعان بالعزيمة، فتشبث بورقته كما لو كان مرفأه الوحيد.في الصباح التالي، عاد ملهم إلى عتبته. كان قد وجد قطعة ورق بين الأنقاض، عليها رسم طفل لفراشة بيضاء. أخذ الورقة، وكتب تحتها جملة: "يا ليتني أحببتكِ قبل أن أضيع في مدن النفاق." عندما جاءت سهير، أعطاها الورقة. قرأتها بصمت، وعندما رفعت عينيها إليه، كانت تلمعان بدموع خفيفة. "هذا لنا"، قالت. ثم أضافت: "لكنه لغزة أيضاً." أمسك ملهم بيدها، وشعر بدفء أصابعها، كأنها فراشة ترقص على أنامله.لم يكن ملهم متأكدًا إن كان سيبقى على قيد الحياة ليكتب قصة أخرى. لكن في تلك اللحظة، شعر أن الحب الذي يتشكل بينهما لم يكن عبئًا، بل كان نهارًا يوقظه. وقف مع سهير أمام البيت، ونظرا إلى المخيم الذي كان يئن تحت وطأة الحرب. كانت الفراشات التي يكتبها لا تزال تحلق في خياله، لكنها الآن كانت تحمل نورًا. شعر بنبضها، قويًا، حيًا، وكان ذلك كافيًا، ولو للحظة، ليؤمن أن الحب، حتى وسط الأنقاض، يمكن أن يتشكل.



#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)       Ahmad_Saloum#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثقب الأسود الأوكراني: كوميديا جيوسياسية في مسرح العبث
- خيوط الاستعمار الإنكليزي ومحميات الخليج في صلب الفوضى العالم ...
- مسرحية -مدرسة الوحدة العجيبة-
- من إيقاعات النيل إلى أسواق إدلب : رقصة الشرق ضد الإسلام الصه ...
- رواية: خيوط الزيف
- -مسرحية الخيانة: عباس والجولاني في عرضٍ ساخر -
- التاريخ المُعاد كتابته بريشة الروتشيلد وسكين لورانس
- مسرحية: -أزقة باريس تحترق-..كوميديا
- عالم المخدرات العجيب حيث الشعر البرتقالي والعيون الزرقاء تحك ...
- العالم يرقص على إيقاع ترامب العبقري... أو ربما العكس!
- مسرحية -رقصة دولارات الإبادة : عبد الحميد الثالث ودونالد الص ...
- عشرين تريليون أو المشنقة... والمقاومة تضحك أخيراً!
- أردوغان وترامب: مسرحية الصداقة التجارية بطعم الإبادة
- تفكيك الإنسان في الأدب: قراءة في -سلاسل العقل، أغلال القلب-
- بولندا ترقص على حبل المصالح: من بروكسل إلى بكين
- وعد بلفور يعود بموسيقى تصويرية جديدة..
- مسرحية -عاصفة الاستقلال-
- مسرحية - في معابد الإله الاعظم دولار-
- مسرحية: -عباءة الطابور الخامس-..كوميديا
- مسرحية: الحقيقة تتألق بين الانقاض..-Veritas in Ruinas-


المزيد.....




- جمعية التشكيليين العراقيين تستعد لاقامة معرض للنحت العراقي ا ...
- من الدلتا إلى العالمية.. أحمد نوار يحكي بقلب فنان وروح مناضل ...
- الأدب، أداة سياسية وعنصرية في -اسرائيل-
- إصدار كتاب جديد – إيطاليا، أغسطس 2025
- قصة احتكارات وتسويق.. كيف ابتُكر خاتم الخطوبة الماسي وبِيع ح ...
- باريس تودّع كلوديا كاردينال... تكريم مهيب لنجمة السينما الإي ...
- آخر -ضارب للكتّان- يحافظ في أيرلندا على تقليد نسيجي يعود إلى ...
- آلة السانتور الموسيقية الكشميرية تتحدى خطر الاندثار
- ترامب يعلن تفاصيل خطة -حكم غزة- ونتنياهو يوافق..ما مصير المق ...
- دُمُوعٌ لَمْ يُجَفِّفْهَا اَلزَّمَنْ


المزيد.....

- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - مجموعة قصصية : أكوام الخيال - الجزء الأول-