|
رواية -القمر الذي أضاء الخرافات-.. رواية قصيرة جدا
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 19:13
المحور:
الادب والفن
تحليل نقدي أدبي : تتجلى رواية "القمر الذي أضاء الخرافات" كعمل أدبي يجمع بين السخرية اللاذعة والتراجيديا الإنسانية، مقدمةً لوحة فنية معقدة تعكس هشاشة المجتمعات في زمن الخراب. من خلال خمسة فصول، كل منها مقسم إلى أربعة أجزاء، تقدم الرواية رؤية ساخرة لعالم تمزقته الأوهام، الأكاذيب، والطمع. تستلهم الرواية تقاليد أدبية غنية، تمزج بين الواقعية السحرية، النقد الاجتماعي، والعمق النفسي، لتخلق عملاً يتحدى القارئ على التفكير في الحقيقة، الإيمان، والخيانة. هذا التحليل النقدي يستكشف السمات الأدبية الرئيسية للرواية، من خلال تحليل البنية السردية، الشخصيات، الرمزية، الأسلوب، والنقد الاجتماعي، مع التركيز على قدرتها على إثارة التأمل في الوضع الإنساني.
البنية السردية: الفوضى المنظمة تتبنى الرواية بنية سردية مقسمة إلى خمسة فصول، كل فصل بأربعة فقرات، مما يخلق إيقاعاً يعكس الفوضى المنظمة التي تحكم عالم الرواية. هذه البنية ليست عشوائية، بل تعكس حالة المجتمعات التي تصورها: إمارة الظل، مدينة الريح، مدينة الغبار، وإمارة الدخان. كل فصل يركز على شخصية رئيسية تواجه تحدياً وجودياً، من أبو نور الذي يواجه وهماً كونياً إلى أبو سعيد الذي يكافح ضد أكذوبة المخدرات. الأجزاء الأربعة في كل فصل تعمل كحركات في سيمفونية، تبدأ بتقديم الصراع، ثم تصعيده، ثم التأمل فيه، وتنتهي بنتيجة ساخرة تترك القارئ معلقاً بين الضحك والألم. هذه البنية تسمح للرواية بالتحرك بسلاسة بين الكوميديا والتراجيديا، مما يعكس التناقضات العميقة في عالمها.
الفصول ليست مستقلة تماماً، بل مترابطة عبر موضوعات مشتركة: الوهم، الخيانة، والكفاح من أجل الحقيقة. على سبيل المثال، يبدأ الفصل الأول بلحظة وهمية (القمر المزيف الذي يُعتقد أنه الشمس)، وينتهي الفصل الخامس بأكذوبة الكبتاغون، مما يخلق إطاراً سردياً يربط بين الأوهام الكبرى والصغرى. هذا الترابط يعزز من تماسك الرواية، مما يجعلها ليست مجرد مجموعة قصص، بل عملاً متكاملاً يعكس حالة إنسانية كونية.
الشخصيات: مرايا الإنسانية الشخصيات في الرواية ليست مجرد أفراد، بل رموز لأنماط بشرية تعكس تناقضات المجتمع. أبو نور، الشيخ الذي يخطئ في تفسير انعكاس القمر، يمثل الإنسان الذي يبحث عن الحقيقة في عالم مليء بالأوهام. صراعه الداخلي بين الإيمان والشك يجعله شخصية معقدة، لأنه ليس مجرد رجل دين، بل إنسان يواجه هشاشته. أبو زيد، في الفصل الثاني، هو الثائر الذي يكتشف خيانة حلمه، وصراعه مع الذنب والعجز يجعله مرآة لكل من آمن بالتغيير ووجد نفسه محاصراً بالخراب. أبو عمر، في الفصل الثالث، يمثل الأب الذي يكافح من أجل أطفاله في عالم فقد العدل، بينما أبو القلم، في الفصل الرابع، هو الانتهازي الذي يبيع ضميره مقابل المال. أخيراً، أبو سعيد في الفصل الخامس هو الرجل العادي الذي يرى الحقيقة، لكنه عاجز عن مواجهتها.
هذه الشخصيات، رغم تنوعها، تشترك في شيء واحد: الكفاح ضد عالم يحاول سحقهم. لكنهم ليسوا أبطالاً تقليديين. هم بشر عاديون، مليئون بالعيوب، يرتكبون أخطاء، ويواجهون تناقضاتهم. هذا العمق النفسي يجعل القارئ يتعاطف معهم، حتى عندما يضحك على سذاجتهم أو انتهازيتهم. السخرية في الرواية لا تهدف إلى السخرية من الشخصيات، بل إلى كشف هشاشتهم الإنسانية، مما يجعلها مرايا للقارئ نفسه.
الرمزية: العالم كمسرح عبثي الرمزية هي العمود الفقري للرواية. الأماكن، مثل إمارة الظل ومدينة الغبار، ليست مجرد خلفيات، بل كيانات حية تعكس حالة المجتمع. إمارة الظل، مثلاً، ترمز إلى عالم فقد وضوحه، حيث الحقيقة والوهم يختلطان. مدينة الريح تمثل الفوضى والزوال، بينما إمارة الدخان ترمز إلى الأكاذيب التي تحجب الحقيقة. القمر في الفصل الأول هو رمز قوي للوهم، فهو يخدع أبو نور والناس، لكنه في النهاية يكشف عن هشاشة إيمانهم. الكبتاغون في الفصل الخامس هو استعارة للأكاذيب التي تُباع تحت شعارات الحرية، بينما فاتورة الكهرباء في الفصل الثالث ترمز إلى الاستغلال الاقتصادي الذي يسحق الناس.
حتى الأسماء تحمل دلالات رمزية. أبو نور يشير إلى النور الذي يبحث عنه، لكنه يغرق في الظل. أبو القلم يرمز إلى الكاتب الذي يبيع قلمه، بينما أبو سعيد يمثل الإنسان العادي الذي يحمل الحقيقة لكنه عاجز عن نشرها. هذه الرمزية لا تثقل النص، بل تضيف طبقات من المعنى، تجعل القارئ يتأمل في العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الحقيقة والوهم.
الأسلوب: السخرية كسلاح الأسلوب السردي في الرواية يتميز بالاقتصاد في التعبير مع الحفاظ على الشاعرية. الجمل قصيرة وحادة، لكنها تحمل إيقاعاً موسيقياً يجذب القارئ. السخرية هي العنصر الأبرز، حيث تستخدم كسلاح لتفكيك الأوهام. في الفصل الأول، يتم تصوير فوضى إمارة الظل بطريقة كوميدية، مع أم سالم ودجاجتها التي "أنقذت العالم"، مما يجعل القارئ يضحك على سذاجة الناس. لكن هذه السخرية ليست خالية من الألم، فهي تكشف عن يأس المجتمع الذي يتشبث بأي أمل، حتى لو كان وهماً.
في الفصل الرابع، تصل السخرية إلى ذروتها مع أبو القلم، الذي يتحول من موظف صغير إلى أداة في يد قوى خارجية. وصفه كـ"رجل دولة" بينما هو يكتب ما يُملى عليه هو سخرية لاذعة من الانتهازية. لكن الأسلوب لا يقتصر على السخرية، بل يتخلله تأمل فلسفي. على سبيل المثال، تأملات أبو نور في الفصل الأول عن الحقيقة والوهم تضيف عمقاً فلسفياً يجعل الرواية أكثر من مجرد كوميديا ساخرة.
النقد الاجتماعي: تفكيك الأوهام الرواية تقدم نقداً اجتماعياً لاذعاً للمجتمعات التي تقع فريسة الأوهام والأكاذيب. في الفصل الأول، تكشف عن هشاشة الإيمان في زمن الخراب، حيث يمكن لوهم بسيط (انعكاس القمر) أن يثير فوضى عارمة. في الفصل الثاني، تنتقد الثورات التي تُباع تحت شعارات الحرية، لكنها تؤدي إلى الخراب. الفصل الثالث يكشف عن الاستغلال الاقتصادي الذي يسحق الناس، بينما الفصل الرابع يسخر من الانتهازية والخيانة الفكرية. أخيراً، الفصل الخامس يفضح الأكاذيب التي تُروج تحت ستار الحرية، مثل تجارة الكبتاغون.
هذا النقد لا يقتصر على الأفراد، بل يمتد إلى الأنظمة والمجتمعات التي تسمح لهذه الظواهر بالازدهار. الرواية لا تقدم حلولاً، بل تترك القارئ ليتأمل في الأسباب. هل الخطأ في الأفراد مثل أبو القلم، أم في العالم الذي يجبرهم على الخيانة؟ هذا الغموض المتعمد يجعل الرواية عملاً مفتوحاً للتفسير، مما يعزز من قوتها النقدية.
الواقعية السحرية: مزج الواقع بالخيال عنصر الواقعية السحرية يظهر بوضوح في الرواية، خاصة في الفصل الأول، حيث يتحول انعكاس القمر إلى علامة كونية تثير الفوضى. هذا العنصر ليس مجرد زخرفة، بل وسيلة لكشف التناقضات العميقة في المجتمع. القمر، الذي يُخطأ بالشمس، هو استعارة للأوهام التي تحكم الناس. هذا النهج يتكرر في الفصل الخامس، حيث تتحول أكذوبة الكبتاغون إلى حقيقة في أذهان الناس، حتى تظهر الحقيقة فجأة في لحظة دراماتيكية. الواقعية السحرية هنا لا تهدف إلى الهروب من الواقع، بل إلى تعميق فهمه، مما يجعل الرواية عملاً يتحرك بين الحقيقة والخيال.
الصراع النفسي: الإنسان في مواجهة نفسه الصراع النفسي هو عنصر آخر يميز الرواية. كل شخصية تواجه صراعاً داخلياً يعكس تناقضاتها. أبو نور يواجه الشك في إيمانه، أبو زيد يواجه الذنب بسبب إيمانه بالثورة، أبو عمر يواجه العجز أمام أطفاله، أبو القلم يواجه خيانته لنفسه، وأبو سعيد يواجه الخوف من قول الحقيقة. هذه الصراعات تجعل الشخصيات إنسانية، لأنها ليست مثالية، بل مليئة بالعيوب. هذا العمق النفسي يجعل القارئ يتعاطف معهم، حتى عندما يضحك على أخطائهم.
الخاتمة رواية "القمر الذي أضاء الخرافات" هي عمل أدبي يجمع بين الكوميديا الساخرة والتراجيديا الإنسانية، مقدمةً نقداً لاذعاً للمجتمعات التي تقع فريسة الأوهام والأكاذيب. من خلال بنيتها السردية المتقنة، شخصياتها المعقدة، رمزيتها العميقة، وأسلوبها الساخر، تقدم الرواية رؤية فنية تعكس حالة الإنسان في عالم فقد معناه. إنها دعوة للتأمل في الحقيقة، الإيمان، والخيانة، ليس فقط في إمارة الظل أو مدينة الغبار، بل في كل مكان يعاني فيه الإنسان من الظلم والوهم.
رواية: "القمر الذي أضاء الخرافات"
الفصل الأول: الضوء الخادع
ليلة القمر المزيف في إمارة الظل، حيث كانت الشوارع مغطاة بغبار أحلام متكسرة، وقف الشيخ أبو نور أمام نافذة مسجده المتداعي، يراقب السماء كأنها ستخبره بسر الحياة. كان رجلاً في الستين، ذا لحية بيضاء تشبه السحاب، وعينين تحملان حكمة لم يعد أحد يريدها. تلك الليلة، لاحظ ضوءاً ساطعاً ينبعث من الغرب، حيث لا تشرق الشمس أبداً. "القيامة!" صرخ، وهو يرفع يديه كأنه يحتضن السماء. "الشمس طلعت من مغربها!" لم يكن يعرف أن ما رآه لم يكن الشمس، بل القمر يلعب لعبة خبيثة، منعكساً على بحيرة متجمدة كمرآة خادعة. ركض إلى المنبر، دق الجرس، ونادى الناس: "توبوا، فباب التوبة سيُغلق!" في غضون دقائق، تحولت إمارة الظل إلى سيرك من الفوضى: نساء يركضن حاملات أطفالهن، ورجال يوزعون الخبز كأنه تذكرة للجنة. حتى الكلاب بدأت تنبح، كأنها فهمت أن العالم انتهى.
سوق الفوضى في سوق إمارة الظل، حيث كان الباعة يصرخون ليبيعوا بضاعتهم الرخيصة، انتشر خبر طلوع الشمس من الغرب كالنار في الهشيم. أبو زهير، بائع خضار ذو بطن منتفخة وصوت يشبه بوقاً، قرر أن يستغل الفرصة. "اليوم الأخير!" صرخ، وهو يوزع البطاطس مجاناً، "خذوا قبل أن يحترق العالم!" لكن أبو زهير، الذي كان يعرف أن الناس سيأتون لاحقاً ليدفعوا، كان يحسب أرباحه في رأسه. في هذه الأثناء، كانت أم سالم، امرأة عجوز تحمل دجاجة هزيلة، تصرخ أنها رأت الملائكة تحلق فوق السوق. "إنها علامة!" قالت، وهي تشير إلى غيمة تشبه الدجاجة التي تمسكها. الناس، الذين كانوا جائعين لأي معنى، صدقوها، وبدأوا يصلون في منتصف السوق، بينما كانت دجاجة أم سالم تحاول الفرار.
الشيخ المحتار عاد أبو نور إلى مسجده، لكنه وجد نفسه محاطاً بحشد من الناس يطالبونه بإجابات. "هل هي القيامة حقاً؟" سأل شاب يرتدي قميصاً ممزقاً. "أين الدجاجل؟" سألت امرأة تحمل رضيعاً يبكي. أبو نور، الذي بدأ يشك في رؤيته، حاول أن يبدو واثقاً. "السماء لا تكذب!" قال، لكنه في قلبه كان يتساءل إن كان القمر قد خدعه. قرر أن يصعد إلى التلة المطلة على البحيرة المتجمدة، حاملاً عصاه ومسبحته. هناك، رأى الحقيقة: الضوء لم يكن الشمس، بل انعكاس القمر، كأنه يضحك من سذاجته. عاد إلى المسجد، لكنه لم يجرؤ على إخبار الناس. "ماذا لو فقدوا إيمانهم؟" فكر. بدلاً من ذلك، قرر أن يحكي قصة عن "اختبار إلهي"، لكن الناس، الذين كانوا قد بدأوا يشكون، نظروا إليه كأنه بائع خضار آخر يبيع الأوهام.
الصباح الساخر مع بزوغ الفجر، عاد الهدوء إلى إمارة الظل، لكن بشكل ساخر. الناس، الذين كانوا يصرخون بالأمس، عادوا إلى حياتهم كأن شيئاً لم يحدث. أبو زهير، الذي وزع البطاطس مجاناً، بدأ يطالب الناس بدفع الثمن، مدعياً أن "القيامة تأجلت". أم سالم أعلنت أن دجاجتها هي التي أنقذت العالم، وبدأت تبيع بيضها بأسعار خيالية. أما أبو نور، فقد جلس في مسجده، يكتب يومياته، محاولاً فهم كيف خدعه القمر. كتب: "الناس لا يريدون الحقيقة، بل يريدون قصة يصدقونها." لكنه، في قرارة نفسه، كان يعرف أن إمارة الظل فقدت عقلها، وأن القمر، ببريقه الخادع، كان مجرد بداية لسلسلة من الأوهام.
الفصل الثاني: صرخة في وادي الدمار
ثائر العملة في مدينة الريح، حيث كانت الرياح تحمل رائحة البارود والخيبة، وقف أبو زيد أمام بوابة المشفى الوحيد المتبقي، يصرخ حتى بح صوته: "ثمانية من عائلتي ماتوا! ثمانية!" كان أبو زيد، رجل في الأربعين ذو لحية مشعثة، يُعرف بـ"ثائر العملة"، لأنه آمن يوماً بأحلام التغيير. كان يحمل لافتات في المظاهرات، يردد شعارات الحرية، لكنه الآن، واقفاً أمام المشفى المتهالك، أدرك أن حلمه تحول إلى كابوس. المشفى، الذي كان يوماً مليئاً بالأطباء والأدوية، أصبح قبراً للأمل. كانت الأسرّة صدئة، والأجهزة مسروقة، والأطباء قد هربوا أو ماتوا. أبو زيد، الذي فقد زوجته وأطفاله بسبب نقص الدواء، شعر أن قلبه تحول إلى حجر.
السوق السوداء في سوق مدينة الريح، حيث كان الباعة يبيعون كل شيء من الخبز إلى الأمل الكاذب، كان أبو سلطان، تاجر أدوية في السوق السوداء، يزدهر. كان رجلاً قصيراً ذا عينين ماكرتين، يرتدي قبعة صغيرة تجعل الناس يثقون به لسبب غامض. "دواء لكل داء!" كان يصرخ، وهو يبيع أقراصاً مجهولة المصدر بأسعار خيالية. عندما جاء أبو زيد إليه، يبحث عن دواء لابنته الصغرى التي كانت تعاني من الحمى، ضحك أبو سلطان وقال: "الدواء موجود، لكن الثمن دولارات!" أبو زيد، الذي لم يملك سوى بضعة دولارات، ألقى بالمال على الأرض وصرخ: "أنتم سرقتم حياتنا!" لكن أبو سلطان، غير مبالٍ، أشار إلى الحشد وقال: "كلنا ثوار، لكن الدواء لا يعرف الثورة."
الذكريات المؤلمة في تلك الليلة، جلس أبو زيد تحت شجرة جافة بجانب المشفى، يتذكر أياماً مضت. كان يتذكر كيف كان يأخذ أطفاله إلى الحديقة، يشتري لهم الحلوى، ويحكي لهم قصصاً عن المستقبل. لكنه الآن لا يملك سوى الذكريات. كان يتذكر النظام القديم، الذي كان يشتمه يوماً، لكنه كان يوفر الأدوية والكهرباء. الآن، تحت حكم عصابات الريح، التي وعدت بالحرية، أصبح كل شيء للبيع. حتى الخبز كان يُباع بأسعار خيالية. بدأ أبو زيد يشعر بالذنب. "كنتُ أحمق"، فكر، "آمنت بالشعارات، وها أنا أدفع الثمن." لكنه لم يستطع مواجهة الحقيقة بصوت عالٍ، لأن العصابات كانت تراقب الجميع.
الصرخة التي ضاعت في صباح اليوم التالي، قرر أبو زيد أن يواجه العصابات. وقف أمام المشفى، وصرخ: "كفى! سرقتم حياتنا تحت اسم الحرية!" لكن صوته ضاع في الريح. الناس نظروا إليه، لكنهم سرعان ما عادوا إلى حياتهم، خائفين من العصابات. أبو سلطان، الذي كان يراقب من بعيد، ضحك وقال: "الثورة ليست للضعفاء." أبو زيد، الذي شعر بالعجز، عاد إلى بيته الصغير، حاملاً دواءً اشتراه بآخر دولاراته. لكنه، وهو ينظر إلى ابنته النائمة، عرف أن الدواء لن ينقذها، لأن المرض الحقيقي لم يكن في جسدها، بل في مدينة الريح نفسها. القصة، بسخريتها المرة، تعكس مأساة رجل آمن بالتغيير، ليكتشف أن حلمه كان مجرد أداة في يد من يريدون الخراب.
الفصل الثالث: الراتب الذي تبخر
دفتر الحسابات في مدينة الغبار، حيث كان الهواء يحمل رائحة اليأس، كان أبو عمر يجلس كل شهر على كرسيه الخشبي، ممسكاً بدفتر صغير، يحسب ما تبقى من راتبه. كان رجلاً في الخامسة والخمسين، ذا وجه محفور بالهموم، وعينين تحملان أملاً متعباً. في الأيام الخوالي، كان راتبه يكفيه حتى العشرين من الشهر. كان الخبز مدعوماً، والكهرباء شبه مجانية، والماء يتدفق دون أن يفكر أحد في ثمنه. لكن الآن، تحت حكم عصابات الغبار، التي جاءت تحت أسماء مثل "الإخوة"، أصبح الراتب يكفي خمسة أيام فقط. جاء أبو عمر يوماً حاملاً فاتورة الكهرباء، التي كانت تطالبه بثلاثمئة دولار لشهرين. نظر إلى الورقة، وضحك ضحكة مريرة. "ثلاثمئة دولار!" قال لزوجته أم عمر، "هل يظنون أننا نملك منجم ذهب؟"
السوق الغالي في سوق مدينة الغبار، حيث كان كل شيء يُباع بأسعار خيالية، كان أبو حسام، تاجر يرتدي نظارات سوداء تجعله يبدو كبومة، يبيع الخبز بأسعار أغلى من اللحم. "الدعم انتهى!" كان يصرخ، وهو يشير إلى كومة من الخبز اليابس. أبو عمر، الذي جاء ليشتري رغيفاً لأطفاله، وجد نفسه عاجزاً عن الدفع. "كيف أطعم أطفالي؟" سأل، لكن أبو حسام رد بنبرة ساخرة: "ابحث عن دولارات، يا أبو عمر. الخبز الآن يحب الأخضر!" عاد أبو عمر إلى بيته خالي اليدين، وهو يفكر في أيام النظام القديم، عندما كان الخبز شبه مجاني، والماء لا يكلف شيئاً. كان يشعر أن العالم تحول إلى سوق يبيع فيه كل شيء، حتى الأمل.
شمعة الليل في تلك الليلة، جلس أبو عمر مع أم عمر تحت ضوء شمعة، لأن الكهرباء كانت مقطوعة. كانا يتحدثان عن أيامهما القديمة، عندما كانا يأخذان أطفالهما إلى السوق، يشتريان الحلوى والملابس. "كنت أحلم أن يصبح ياسر طبيباً"، قال أبو عمر، وهو ينظر إلى الشمعة. "والآن، يجمع الأنقاض." أم عمر، التي كانت دائماً صامتة، وضعت يدها على كتفه وقالت: "لم يكن خطأك. كلنا آمنا بالوعود." لكن أبو عمر لم يستطع التخلص من شعوره بالذنب. كان قد شارك في المظاهرات، آمن بالشعارات، لكنه الآن يرى أن الحرية التي وعدوا بها كانت سراباً. بدأ يتساءل: هل كان النظام القديم، رغم عيوبه، أفضل من هذا الخراب؟
الرسالة التي لم تُرسل قرر أبو عمر أن يكتب رسالة إلى أخيه المغترب، يطلب منه المساعدة. لكنه، وهو يكتب، أدرك أن المال لن يحل المشكلة. المشكلة كانت في مدينة الغبار نفسها، التي تحولت إلى سجن كبير. مزق الرسالة، وقرر أن يتحدث مع جيرانه. لكنه وجد أن الخوف يسيطر على الجميع. العصابات كانت تراقب، وأي كلمة ضد "الإخوة" كانت تعني الموت. في النهاية، جلس أبو عمر تحت الشمعة، ينظر إلى أطفاله النائمين، وتعهد أن يجد طريقة لإنقاذهم، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة العصابات. لكنه، في تلك اللحظة، عرف أن المعركة ليست فقط ضد العصابات، بل ضد عالم تحول إلى سوق يبيع كل شيء.
الفصل الرابع : الرجل الذي باع توقيعه
رجل الوثائق في إمارة الوهم، حيث كانت الأحلام تُباع كالسلع، عاش أبو القلم، رجل في الأربعين ذو بدلة أنيقة وابتسامة مصطنعة. كان يرى نفسه رجل دولة، رغم أنه لم يكن سوى موظف صغير في النظام القديم. كان يوقّع على الوثائق، يحضر الاجتماعات، ويهرع إلى السفارة لتقديم التعازي أو التهاني. كان يحب أن يُرى، وكان يؤمن أن توقيعه هو دليل على أهميته. لكن عندما بدأت سفينة النظام تهتز، قفز أبو القلم إلى سفينة جديدة، مزينة بالدولارات. أُعطي مكتباً فخماً، وطُلب منه أن يكتب خطابات عن "مظلومية" طائفة و"ظلم" أخرى. في البداية، تردد، لكنه سرعان ما اكتشف أن الكلمات تجلب المال، والمال يجلب السلطة.
المكتب الفخم في مكتبه الجديد، الذي كان مزيناً بأثاث لامع، بدأ أبو القلم يكتب مقالات نارية، يظهر على شاشات الإعلام، يردد شعارات لا يفهمها. كان يتقاضى راتباً ضخماً، يرتدي بدلات باهظة، ويأكل في مطاعم فاخرة. لكنه، في لحظات الوحدة، كان يشعر بفراغ. في إحدى الليالي، نظر إلى صورة قديمة له في الجامعة الأوروبية، حيث كان يحلم بأن يكون مفكراً. لكنه الآن لا يملك سوى قلم يكتب ما يُملى عليه. بدأ يتذكر والده، الذي كان يحثه على العمل الشريف. "كيف وصلت إلى هنا؟" تساءل، لكنه سرعان ما طرد الفكرة من رأسه. المال كان يتدفق، والسلطة كانت مغرية.
الصديق القديم في إحدى الأمسيات، التقى أبو القلم بصديق قديم من الجامعة، كان يعمل الآن كعامل نظافة في مدينة الضوء. نظر إليه الصديق بازدراء وقال: "كنتَ تحلم بتغيير العالم، والآن تبيع الكلمات." تلك الكلمات ظلت تتردد في ذهنه، لكنه لم يستطع التوقف. كان المال مغرياً، والسلطة أكثر إغراءً. لكنه بدأ يشعر بثقل الخيانة. كان يعرف أن كلماته تساهم في تمزيق وطنه، لكنه كان محاصراً. في إحدى الليالي، قرر أن يكتب رسالة إلى والده، يعترف فيها بأخطائه. لكنه، قبل أن يرسلها، مزقها. كان يعرف أن الحقيقة ستكون أكثر إيلاماً من الصمت.
السفينة الجديدة في الأشهر التالية، أصبح أبو القلم شخصية معروفة في أوساط معينة. كان يُدعى إلى مؤتمرات، يجلس مع رجال أعمال وسياسيين، يتحدث عن قضايا لا يفهمها. لكنه، في قرارة نفسه، كان يعرف أن توقيعه أصبح سلاحاً ضد شعبه. في إحدى الليالي، قرر أن يحاول التوقف. لكنه وجد أن الشبكة التي يعمل فيها لن تتركه بسهولة. كانوا يراقبونه، يعرفون كل خطوة يخطوها. في النهاية، قرر أبو القلم أن يواصل، لكنه كان يعرف أن الثمن الذي دفعه كان أكبر من أي مال أو سلطة. القصة، بسخريتها المرة، تكشف عن رجل باع ضميره ليصبح أداة في يد من يدفع، تاركاً وطنه يغرق في الفوضى.
الفصل الخامس: الكبتاغون والحقيقة
أكذوبة العصابات في إمارة الدخان، حيث كان الضباب يخفي الحقيقة، كانت العصابات التي تحكم المدينة تردد أن النظام القديم هو من كان يبيع الكبتاغون. كان أبو سعيد، بائع خضار فقير في الأربعين، يستمع إلى هذه الأكاذيب يومياً. كان رجلاً هادئاً، يحب أن يراقب الناس أكثر مما يتحدث. لكنه كان يرى الشباب في الإمارة يتحولون إلى أشباح، مدمنين على حبوب الكبتاغون. في إحدى الليالي، سمع أصوات إطلاق نار عند الحدود مع وادي الصخور. في الصباح، انتشر الخبر: ثلاثة من مهربي المخدرات، يعملون تحت راية العصابات، قُتلوا أثناء محاولتهم تهريب الكبتاغون. كانت الأكياس مخبأة في شاحنة تحمل شعارات "الحرية".
السوق والشائعات في سوق إمارة الدخان، بدأ الناس يتساءلون: إذا كان النظام هو التاجر، فلماذا تموت هذه العصابات على الحدود؟ أبو سعيد، الذي كان يبيع البطاطس والطماطم، سمع النقاشات وشعر أن الحقيقة بدأت تظهر. لكنه كان يعرف أن الحديث خطير. العصابات كانت تراقب، وأي كلمة ضد "الأحرار" كانت تعني الموت. في إحدى الأمسيات، جاء إليه شاب يُدعى مازن، كان يوماً صديقاً لابنه. "أبو سعيد"، قال مازن، "الكبتاغون يباع في كل زاوية. من يبيعه إذا لم يكن النظام؟" أبو سعيد، الذي كان يتذكر أيام النظام القديم، لم يجرؤ على الإجابة. لكنه، في قلبه، عرف أن الحقيقة كانت أقرب مما يظن الناس.
الرسالة المجهولة في تلك الليلة، قرر أبو سعيد أن يكتب رسالة مجهولة إلى صحيفة صغيرة في إمارة الدخان. كتب: "الكبتاغون ليس من النظام، بل من أولئك الذين يدّعون الحرية." لكنه، قبل أن يرسل الرسالة، سمع أصوات أقدام تقترب من دكانه. كان يعرف أن العصابات لا ترحم من يتحدث. مزق الرسالة، لكنه قرر أن يتحدث مع جيرانه. بدأ يحكي لهم عن التناقضات، عن الشباب الذين يموتون بسبب المخدرات. لكن الخوف كان أقوى. الناس استمعوا، لكنهم صمتوا، خائفين من العواقب. أبو سعيد، الذي شعر بالعجز، عاد إلى دكانه، يفكر في ابنه الذي أصبح مدمناً على الكبتاغون.
الحقيقة التي لا تُسمع في الأيام التالية، بدأت الحقيقة تنتشر في إمارة الدخان، لكن بشكل خافت. الناس بدأوا يتساءلون، لكن العصابات كانت سريعة في قمع الشائعات. أبو سعيد، الذي قرر أن يواصل الكفاح، بدأ يتحدث مع الشباب في السوق، يحثهم على التفكير. لكنه، في إحدى الليالي، وجد دكانه محترقاً. كان يعرف أن هذه رسالة من العصابات. لكنه، بدلاً من الصمت، قرر أن يكتب رسالة أخرى، هذه المرة إلى ابنه. كتب: "لا تصدق الأكاذيب. الحقيقة هي سلاحنا الوحيد." لكنه لم يرسلها، لأن ابنه كان قد اختفى في شوارع إمارة الدخان، ضحية أخرى للكبتاغون. القصة، بمزيجها من السخرية والتراجيديا، تكشف عن عالم يعاقب الحقيقة، حيث الأكاذيب هي العملة الوحيدة.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ديناصور الخراب: لوييه ميشيل وإرث النازية الجديدة في قلب أورو
...
-
قصص سبع عن مدن الظلال المقيتة أو مدن الوهابية الظلامية
-
أردوغان: خليفة الوهم أم منظف مراحيض الناتو؟
-
عصابات الجولاني ومهرجان البصمات على أوامر الناتو الاستعماري
-
مسرحية -حافة الهاوية-
-
أمريكا: إمبراطورية الفقاعات وأوهام الدولار السحري..كتابات سا
...
-
رواية: رقصة النيل الساخرة
-
السلام المزيف: قصة كيف غرقت مصر وفلسطين في بحر من النكات الس
...
-
السيرك العالمي يفتتح موسمه الجديد في تل أبيب وواشنطن..كتابات
...
-
أزمة الإمبراطورية الأمريكية : الهبوط نحو الهاوية
-
مسرحية : ايقاعات الورك المتمرد
-
مجموعة قصصية : أكوام الخيال - الجزء الأول-
-
الثقب الأسود الأوكراني: كوميديا جيوسياسية في مسرح العبث
-
خيوط الاستعمار الإنكليزي ومحميات الخليج في صلب الفوضى العالم
...
-
مسرحية -مدرسة الوحدة العجيبة-
-
من إيقاعات النيل إلى أسواق إدلب : رقصة الشرق ضد الإسلام الصه
...
-
رواية: خيوط الزيف
-
-مسرحية الخيانة: عباس والجولاني في عرضٍ ساخر -
-
التاريخ المُعاد كتابته بريشة الروتشيلد وسكين لورانس
-
مسرحية: -أزقة باريس تحترق-..كوميديا
المزيد.....
-
صدور كتاب تكريمي لمحمد بن عيسى -رجل الدولة وأيقونة الثقافة-
...
-
كل ما تحتاج معرفته عن جوائز نوبل للعام 2025
-
-سلام لغزة-.. الفنانون العرب يودّعون الحرب برسائل أمل وتضامن
...
-
فيلسوف العبثية والفوضى يفوز بجائزة نوبل للآداب
-
سلسلة أفلام المقاطعة.. حكاية المقاومة السلمية من الجزيرة 360
...
-
إيقاف نجم الفنون القتالية ماكغريغور 18 شهرا
-
نار حرب غزة تصل صناعة السينما الفلسطينية والإسرائيلية
-
المجري لازلو كراسنهوركاي يفوز بنوبل للآداب 2025
-
آباء يأملون استبدال شاشات الأطفال بالكتب بمعرض الرياض للكتاب
...
-
حضرت الفصائل وغُيِّب الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني
المزيد.....
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|