عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8485 - 2025 / 10 / 4 - 20:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الإصلاحية في السودان ليست مجرد خيار سياسي، بل تجسيد للعجز التاريخي للبرجوازية الصغيرة عن تحقيق التحرر الوطني [1]. فمنذ لحظة الاستقلال الشكلي، ظلت جميع مشاريع التسوية والتلفيق تدور في فلك التكيف الخانع مع إملاءات النظام الرأسمالي العالمي، وهو ما حال بالضرورة دون تحقيق القطيعة الجذرية مع التبعية البنيوية التي تكبل تطور البلاد وتخنق طموحات الجماهير.
ليست التبعية قدراً سماوياً محتوماً، بل هي النتيجة المنطقية لبنية اقتصادية ريعية وسيطة بُنيت عمدًا لخدمة المركز الإمبريالي، محولة السودان إلى مجرد طرف تابع وظيفي في التقسيم الدولي للعمل [2]. إن اقتصادًا يكرس نفسه لتصدير المواد الخام الأولية كالقطن بثمن بخس، ليعود فيستورد نفس المنتج في صورته النهائية بأثمان باهظة، ليس سوى آلة جهنمية لإنتاج التخلف المنظم وتعميقه خدمة لرأس المال العالمي المتوحش.
يأتي التحول الاشتراكي كضرورة موضوعية تفرضها المادية الجدلية لتجاوز التناقضات الطبقية المتفجرة التي تمزق النسيج الاجتماعي السوداني [3]. فالبرجوازية الطفيلية التي كان يفترض بها، نظريًا، قيادة أي تطور رأسمالي مستقل، تحولت عمليًا إلى طبقة وسيطة خائنة تعيش على الريوع الهائلة الناتجة عن التبادل غير المتكافئ، وتعمل بوعي أو بدونه كحلقة وصل بين النهب الإمبريالي والجماهير المستغَلَة.
وتلعب البيروقراطية دوراً مركزياً لا غنى عنه في إعادة إنتاج هذا النظام الطبقي القائم على الاستغلال [4]. فمنذ اللحظة الأولى للتأسيس الكولونيالي للدولة، ظل هذا الجهاز الإداري يتصرف كوسيط مطيع وخادم بين المركز الإمبريالي والطبقات المحلية المسيطرة، مشكلاً اليوم مع البرجوازية الطفيلية والمؤسسة العسكرية "تحالفًا طبقيًا ثلاثيًا" حصينًا، يعمل ليل نهار على تأمين استمرارية مصالح رأس المال العالمي وحماته المحليين.
أكدت التجارب الوطنية الكبرى -من المشروع الصناعي في الستينيات إلى مشروع الجزيرة وشبكة السكك الحديدية الشريانية- على استحالة تحقيق تنمية وطنية مستقلة وحقيقية تحت مظلة التبعية القاتلة [5]. إن تحول مشروع الجزيرة من قاطرة تنموية متكاملة إلى مجرد مزرعة قطن عملاقة تخدم السوق العالمية ليس فشلاً إداريًا عابراً يمكن إصلاحه بمرسوم، بل هو إدانة تاريخية تثبت الحتمية الكارثية للاندماج البنيوي في نظام التبعية الرأسمالي.
كما أن الإصلاح الزراعي المزعوم الذي لوحت به الحكومات المتعاقبة لم يجرؤ على الاقتراب من جوهر علاقات الإنتاج الإقطاعية المتخلفة [6]. فقد بقيت الأرض ملكية خاصة مطلقة لكبار الملاك، بينما جُرد الفلاحون من حقوقهم وحوّلوا إلى عمال زراعيين مأجورين بأجور بائسة. وقد أدت هذه التسوية الطبقية الجبانة إلى الهجرة الجماعية القسرية نحو المدن وتدهور غير مسبوق في الإنتاج الزراعي، ليتحول السودان من سلة غذاء محتملة إلى بلد يستورد قوته وخبزه.
كشفت التجربة النفطية المريرة عن الطبيعة الريعية المتفحمة للبرجوازية السودانية [7]. فبدلاً من استثمار العائدات الهائلة في بناء قاعدة صناعية ثقيلة وطنية كفيلة بفك الارتباط (كتكرير النفط والصناعات البتروكيماوية)، حُوّلت هذه الأموال الضخمة بالكامل إلى قنوات استيراد واستهلاك تخدم مصالحها الضيقة، في تجسيد صارخ لطبيعتها الطفيلية وغير المنتجة.
يبدأ التحول الاشتراكي بتأميم القطاعات الإستراتيجية وإخضاعها للملكية الاجتماعية الحقيقية لعموم الشعب. يجب أن تصبح الثروات الطبيعية ملكًا حصريًا للشعب الكادح، وتدار بوعي عبر التعاونيات الإنتاجية والملكية العمالية المباشرة. إن إعادة تأهيل مشروع الجزيرة كنموذج للزراعة التعاونية المخططة وتطوير السكك الحديدية كعمود فقري للصناعة الوطنية الموحدة، تمثلان الخطوات الضرورية القاسية لفك الارتباط مع التبعية.
لا تخدم الديمقراطية الليبرالية الشكلية سوى مصالح الطبقات الطفيلية العليا، بينما يجب أن تكون الديمقراطية الاشتراكية هي التعبير الحقيقي والفعلي عن مصالح العمال والفلاحين [8]. وهذا يعني أن المنتجين الفعليين يسيطرون بالكامل على العملية الكاملة للإنتاج والتوزيع، من خلال إقامة مجالسهم وسلطتهم الشعبية المباشرة.
أكدت ثورة ديسمبر 2018 المجيدة على القدرة الجبارة للجماهير على إحداث التغيير الجذري، لكنها كشفت في اللحظة الحاسمة عن الغياب الكارثي للبديل التنظيمي الثوري القادر على قيادة هذا التحول إلى نهاياته [10]. لقد بقيت القوى السياسية تدور بلا هدف في فلك الإصلاحات الجزئية الخادعة، بينما أعادت البيروقراطية إنتاج النظام من خلال إفراغ الثورة من محتواها الطبقي الثوري الأصيل.
يتطلب الانتقال إلى الاشتراكية بناء أجهزة سلطة موازية قادرة على تحطيم جهاز الدولة البيروقراطي المُتهرئ بشكل كامل [9]. إن بناء مجالس عمالية في كل مصنع للنسيج والسكر، وإقامة مجالس فلاحية في المشاريع الزراعية العملاقة، لا يشكل أجهزة بديلة فحسب، بل يمثل مدارس حية للسلطة الثورية الجديدة التي تتشكل من رحم الصراع اليومي للجماهير.
يبدأ البرنامج الانتقالي الثوري بخطوات واضحة لا تقبل التراجع: إعادة تأهيل مشروع الجزيرة فورًا كنموذج للزراعة التعاونية، وتطوير صناعات غذائية ثقيلة تعتمد حصريًا على الإنتاج المحلي، وإحياء السكك الحديدية كشبكة نقل وطنية موحدة. هذا هو المدخل لتحرير الطاقة الإنتاجية المكبوتة للشعب.
تتطلب مواجهة العدوان الإمبريالي المستمر تحالفات إستراتيجية صلبة مع قوى التحرر العالمية كافة [11]. فالثورة السودانية ليست ظاهرة محلية معزولة، بل هي جزء عضوي من الصراع الطبقي الدولي الضخم ضد هيمنة الرأسمالية العالمية.
يبقى خطر البيروقراطية تحدياً جسيماً يهدد أي عملية تحول اشتراكي. إن تجربة الاتحاد السوفيتي تثبت أن الانتصار الثوري قد يتحول إلى نكسة تاريخية كارثية إذا سُمح للبيروقراطية بأن تتحول إلى طبقة حاكمة جديدة ومستغِلة ومناقضة لأهداف الثورة.
لذلك، وفي السياق السوداني، يمكن تحويل التنظيمات الشعبية التقليدية كـ الإدارة الأهلية إلى مجالس فلاحية ديمقراطية فعالة، والنقابات العمالية القائمة إلى مجالس عمالية ثورية حقيقية، مما يضمن استمرار الرقابة الشعبية المباشرة وتأمين الديمقراطية من الأسفل.
يمثل بناء حزب ثوري طليعي مهمة اللحظة والتحدي الأكبر، حزب يجمع بصرامة بين التمسك الأيديولوجي بالمبادئ الماركسية وبين المرونة التكتيكية في إدارة الصراع، حزب يدمج بين القيادة المتماسكة والديمقراطية الحية للجماهير الكادحة.
يجب أن تكون الاشتراكية في السودان إبداعًا ثوريًا خالصًا للجماهير السودانية ذاتها، تستلهم بلا شك دروس التجارب العالمية المنتصرة، لكنها تنطلق بشكل أساسي من الخصوصية الملموسة للتناقضات الطبقية في المجتمع السوداني.
كما أكدت روزا لوكسمبورغ: "ضد الاستبداد والمساومات البرلمانية وضد سياسة المماطلة والحلول الوسط – هذا هو الطريق الذي تقودنا إليه المادية الجدلية" [10]. إن الثورة السودانية لن تقبل بأنصاف الحلول أو التسويات، فإما الاشتراكية الثورية وإما الهمجية والتبعية. لقد سقط وهم المساومات الإصلاحية في السودان إلى الأبد، ولم يتبق لنا سوى طريق الثورة.
النضال مستمر،،
--------------------------
المراجع:
[1] Frank, A. G. (1967). Capitalism and Underdevelopment in Latin America. Monthly Review Press.
[2] Amin, S. (1972). "Underdevelopment and Dependence in Black Africa." Journal of Modern African Studies, 10(4), 503–524.
[3] Baran, P. (1957). The Political Economy of Growth. Monthly Review Press.
[4] Mahmood, S. (1987). Class and State in Sudan: The Dynamics of Sudanese Politics. Routledge.
[5] Ylönen, A. (2009). "The Political Economy of Resource-Based Conflict in Sudan." Journal of Conflict, Security & Development, 9(2), 155–175.
[6] Bush, R. (2007). Poverty and Neoliberalism: Persistence and Reproduction in the Global South. Pluto Press.
[7] Foster, J. B. (2000). Marx’s Ecology: Materialism and Nature. Monthly Review Press.
[8] Gramsci, A. (1971). Selections from the Prison Notebooks. International Publishers.
[9] Trotsky, L. (1937). The Revolution Betrayed. Pathfinder Press.
[10] Luxemburg, R. (1900). Reform´-or-Revolution. Cosimo Classics.
[11] Lenin, V. I. (1917). State and Revolution. Penguin Classics.
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟