أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد حسب الرسول الطيب - 2. من حماية الأرواح إلى احتواء الثورة: تفكيك ماركسي لشعار الحياة أولاً















المزيد.....

2. من حماية الأرواح إلى احتواء الثورة: تفكيك ماركسي لشعار الحياة أولاً


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 18:46
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يطفو على سطح الخطاب السياسي السوداني، كما في ساحات أخرى تمر بأزمات بنيوية، شعارٌ يبدو بريئاً لا غبار عليه: "الحياة أولاً". هذا الشعار الذي ترفعه وسائل الإعلام المحسوبة على البرجوازية، والمنظمات الإنسانية الدولية، والنخب الليبرالية، لا يمكن فهمه بمعزل عن وظيفته الطبقية في لحظة تاريخية بالغة الحدة. فتحت غطاء الإنسانية والعمل الخيري، يتحول الشعار إلى أداة إيديولوجية فعالة لتفتيت الوعي الطبقي وإعادة إنتاج نظام القهر. التحليل الماركسي لا ينطلق من المعنى الظاهري للكلمات، بل من الدور المادي الذي تلعبه في الصراع الاجتماعي؛ وبهذا المنطق، "الحياة أولاً" في سياق الليبرالية السائدة هي دعوة إلى التخلي عن السياسة، أو بالأحرى عن السياسة الثورية التي تستهدف جذور العلاقة بين القهر والاستغلال [1].

تختزل المقاربة الليبرالية مفهوم "الحياة" في مجرد البقاء البيولوجي: وقف إطلاق النار، وتقديم المساعدات الإنسانية، وحماية المدنيين. هذه الحياة المجردة من أي محتوى اجتماعي وسياسي هي الشكل المثالي لسيطرة الرأسمال؛ إنها حياة المستهلك المعزول، المنفصل عن وسائل إنتاجه، المختزل إلى كائن يحتاج إلى الخبز والدواء لا إلى الكرامة والسيطرة على مصيره. في دارفور والجنوب قدّمت "عملية السلام" و"المساعدات الإنسانية" نموذجاً صارخاً لهذه الحياة المشوهة، إذ تحولت جماهير الفلاحين والمهمشين إلى متلقين سلبيين لرحمة السوق الدولية، بينما استمرت نفس البنى الطبقية الطفيلية والعسكرية في نهب ثروات الأرض وتحويل البشر إلى وقود لحروب لا نهاية لها. المشهد نفسه يتكرر في فلسطين، حيث تُستخدم المعونات أحياناً كأداة للضبط السياسي وإدارة الاحتلال، لا كوسيلة للتحرر منه [2].

إن هذه الاختزالات لا تعالج المرض البنيوي بل تطيل معاناة المريض. فـ"الحياة" كما تطرحها الليبرالية الإنسانية تتعامل مع الأعراض — النزيف المباشر — مع تغييب تام للسرطان البنيوي الذي يولّد هذا النزيف دورياً. إنها تشبه علاج نزيف جرح لمريضٍ بسرطان متقدّم: قد تُبطئ الموت اللحظي، لكنها لا تلامس سبب المرض. في السودان، لم تبدأ المأساة مع أول رصاصة أطلقتها الميليشيات، بل مع عقود من الإفقار البنيوي والتهميش الذي حول القرى إلى مستودعات للموت البطيء. تحت شعار "الحياة" تُدار المعسكرات وتُقنّن المساعدات، بينما يظل نهب الموارد وإفقار الجماهير مستمراً — حالة تجعل من الحماية الإنسانية سياسة لإدارة التصرف السكاني لا لتحريره [3].

من منظور ماركسي صارم، لا يمكن فصل مفهوم الحياة عن علاقات الإنتاج. ماركس بيّن أن الحياة الإنسانية تُعاد إنتاجها اجتماعياً عبر العمل، وأنها لا تُفهم إلا بوصفها نتاجاً لعلاقات إنتاجية محددة. الحياة الحقيقية إذن ليست مجرد وجود بيولوجي، بل القدرة على التطور الحرّ للفرد من خلال المشاركة في الإنتاج والإدارة والتوزيع دون استغلال. المطالبة بـ"الحياة" دون المطالبة بتحويل من يملك وسائل إنتاج الحياة — الأرض، الموارد، المصانع — هي مطلبٌ لعودة العبيد إلى حظائرهم لكن مع تحسينات طفيفة على ظروف البقاء. هكذا يصبح شعار "الحياة أولاً" في جوهره شعار "الاستسلام أولاً": ضربة مضادة ثورية تهدف إلى نزع السلاح السياسي والأخلاقي عن الجماهير الثائرة التي هتفت "حرية، سلام، عدالة"، وإعادتها إلى حظيرة التبعية لقوى النظام القديم تحت غطاء "الإنسانية" [4].

وهنا يتجلى التناقض الجدلي المركزي: فالحماية الحقيقية للحياة لا تأتي بوقف الصراع الطبقي، بل بتصعيده حتى النهاية. إن "الحياة أولاً" الحقيقية تعني تنظيم اللجان الشعبية لإدارة الأزمات، والسيطرة على موارد البلاد من قبل المنتجين الفعليين، وبناء أدوات الدفاع الذاتي للجماهير. هذه هي الدروس المادية التي علمتنا إياها كل الثورات المنتصرة. في كوبا، لم يكن التحول الصحي والتعليمي مجرد خدمة تقدمها الدولة، بل كان إعادة تنظيم جذرية لعلاقات القوة والملكية جعلت الطبقات الشعبية هي الفاعل الرئيس في عملية البناء [5].

ولا يمكن تحليل هذا الشعار بمعزل عن المصالح الطبقية للقوى الراعية له. فالنخب المحلية المتوافقة - البرجوازية البيروقراطية والوسطى المرتبطة مصلحياً بالنظام العالمي - تتبنى هذا الخطاب ليس حباً في الإنسانية، بل لأنه يصب في مصلحتها الطبقية الهشة. إنه يحولها من شركاء في الاستغلال إلى وسطاء "إنسانيين" لا غنى عنهم، مما يضمن استمرار تدفق ريع الوسطاء والامتيازات الطبقية التي يتمتعون بها. إنها لعبة طبقية مكشوفة يستخدم فيها معاناة الجماهير كورقة مساومة للبقاء في دائرة النخبة الحاكمة بمختلف تلويناتها [6].

هذا لا ينفي الحاجة الملحّة لحماية المدنيين وتقديم المساعدات الطارئة؛ بل على العكس تماماً: الماركسية تدافع عن حماية الحياة وتضعها أولوية مادية لا تفاوض عليها، لكنها تصرّ في الوقت نفسه أن الحماية الحقيقية لا تُؤمّن عبر استجداء النخب أو عبر مؤتمرات المانحين. الحماية الحقيقية تقوم على تحويل الجماهير من متلقّين سلبيين إلى فاعلين يقررون كيفية إنتاج وتوزيع مقومات الحياة. واجب التحليل الطبقي هو فضح كيف تتحول معاناة الناس إلى مادة احتجاج قابلة للاحتواء داخل أطر المساعدات والمفاوضات، وكيف يتحول التنازل عن المبدأ مقابل لقمة عيش آنية إلى بداية طريقٍ يسلب الجماهير لقمتها وكرامتها معاً [7].

وفي السياق السوداني الثوري، نرى كيف يتم توظيف هذا الشعار بشكل ملموس لتجريم المقاومة المسلحة والمطالبة بتأجيل المساءلة والعدالة الانتقالية تحت ذريعة "إنقاذ الأرواح أولاً". إنه نفس المنطق الذي استخدمته القوى المضادة للثورة عبر التاريخ، من تحريض الليبراليين المصريين ضد الثورة بعد 2011 تحت شعار "الاستقرار أولاً"، إلى دعوات "التصالح الوطني" في تشيلي بعد الانقلاب على أليندي التي أسست لسياسات النسيان والإفلات من العقاب [8].

بناءً على ذلك، تصبح الدعوة الحقيقية إلى "الحياة أولاً" دعوة ماركسية بالضرورة: ليست حياةً مجردة من سلطة أو مصير، بل حياة تستلزم تحويل الملكية والإدارة، وإسقاط هيمنة الطفيلية العسكرية والبرجوازية المرتبطة بالرأسمال العالمي. الحياة الحقيقية تتطلب ضبط العلاقة بين الإنتاج والتوزيع، وامتلاكاً شعبياً لمقومات الحياة، وإلغاء منطق الربح الذي يحوّل الإنسان إلى سلعة. لذلك، أي خطبة إنسانوية تدعو لحماية الأرواح من دون ربط ذلك بصراع على السلطة وعلاقات الإنتاج هي، في أحسن الأحوال، حلّ مؤقت، وفي أسوأ الأحوال، خدعة سياسية.

النضال الماركسي لا يتردّد في الدفاع عن الحق في النجاة، لكنه يعلم أن النجاة لا تتحوّل إلى حياة إذا لم تُستبدل علاقات القهر بعلاقات تحرّر. الواجب اليوم أمام الجماهير السودانية ليس المطالبة بالحياة كمجموعة إجراءات إنسانية، بل العمل على أن تُصان الحياة عبر قطيعة ثورية تحول أدوات الموت إلى أدوات إنتاج مشترك للعيش الكريم. الثورة لا تُبنى بمنشورات إنسانية أو مؤتمرات رفيعة، بل بترتيبات عملية للسلطة والملكية تضع موارد الوطن في خدمة الجماهير المنتجة.

"إن إصلاحات النظام وهمية، لأن النظام لا يمكن إصلاحه. مهمتنا هي إسقاطه."
روزا لوكسمبورغ.

النضال مستمر،،
-------------------------
المراجع:
[1] Žižek, S. (2008). Violence: Six Sideways Reflections. Picador.
[2] Chomsky, N. (1999). The New Military Humanism: Lessons from Kosovo. Pluto Press.
[3] Klein, N. (2007). The Shock Doctrine: The Rise of Disaster Capitalism. Metropolitan Books.
[4] Marx, K. (1845). The German Ideology. Progress Publishers.
[5] Guevara, E. (1965). Socialism and Man in Cuba. Ocean Press.
[6] Fanon, F. (1963). The Wretched of the Earth. Grove Press.
[7] Lenin, V.I. (1917). The State and Revolution. Progress Publishers.
[8] Allende, Salvador. "Address to the United Nations General Assembly, December 4, 1972.



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 1. السلام، الحياة، الانتقال: مدخل ماركسي لفهم أوهام الإصلاح ...
- 14. الخاتمة: نحو بديل ثوري
- بيان المكتب السياسي: شعارات عامة بلا تحليل طبقي ملموس
- الحدود كجهاز قمع طبقي في عصر الإمبريالية
- 13. المهام الطبقية للثورة السودانية: من الوطني إلى الاشتراكي
- 12. مقاومة الهامش: الحركات الاجتماعية البديلة خارج الأطر الت ...
- 11. استراتيجيات المواجهة - تفكيك الطائفية والإسلام السياسي و ...
- 10. معضلة القيادة الثورية: أزمة اليسار والتحالفات المشبوهة
- 9. ثورة ديسمبر: انفجار التناقضات الطبقية
- 8. الهيمنة الطفيلية: التعليم والإعلام والدين في السودان
- 7. البعد الجندري للأزمة: النساء بين القهر والمقاومة
- 6. استعمار الداخل: الحرب كآلية للنهب المنظم في السودان
- 5. إمبراطورية العسكر
- 4. الإنقاذ وتكثيف الطفيلية: من الأيديولوجيا إلى آلة النهب
- 3. التحول النيوليبرالي في عهد نميري: تفكيك القاعدة المنتجة
- 2. التأسيس الطائفي للرأسمالية الطفيلية في السودان (1898–1956 ...
- الأزمة البنيوية للرأسمالية الطفيلية التابعة في السودان
- 12. من الاحتجاج إلى بناء البديل الثوري في السودان
- التحديات والحلول الثورية
- 11. التحديات والحلول الثورية


المزيد.....




- فيديو منسوب إلى -أسطول الصمود العالمي-.. هذه حقيقته
- هل ماتت فكرة التطبيع بعد ما فعلته إسرائيل في سوريا؟ شاهد كيف ...
- الصين تدشّن أعلى جسر في العالم بارتفاع 625 متراً
- فاديفول يتوجه إلى وارسو لبحث الاستفزازات الروسية ودعم أوكران ...
- لماذا انتخابات مولدافيا -حاسمة- لروسيا وأوروبا؟
- اجتماع مرتقب بين نتانياهو وترامب الاثنين فيما تواجه إسرائيل ...
- الشيباني: سوريا لا تمثل تهديدا لأحد بما في ذلك إسرائيل
- شاهد مدمر الهواتف يكشف سر -آيفون إير-
- ما الذي أكدته مشاهد القسام الخاصة بعملية خان يونس؟ خبير يُجي ...
- مفاوضات إنهاء حرب غزة في -مراحلها النهائية-.. اتفاق وشيك أم ...


المزيد.....

- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد حسب الرسول الطيب - 2. من حماية الأرواح إلى احتواء الثورة: تفكيك ماركسي لشعار الحياة أولاً