أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد حسب الرسول الطيب - 4. الإنقاذ وتكثيف الطفيلية: من الأيديولوجيا إلى آلة النهب















المزيد.....

4. الإنقاذ وتكثيف الطفيلية: من الأيديولوجيا إلى آلة النهب


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8467 - 2025 / 9 / 16 - 00:18
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مثّل انقلاب الجبهة الإسلامية القومية في يونيو 1989 ذروة التطور التاريخي للرأسمالية الطفيلية في السودان، حيث تم تحويل المشروع الأيديولوجي للإسلام السياسي إلى آلة منهجية لتفكيك الدولة وإعادة بنائها كأداة لخدمة مصالح تحالف طبقي طفيلي جديد. لم يكن هذا النظام مجرد استمرار للنمط الطفيلي الذي أسسته الحقب السابقة، بل شكّل قفزة نوعية في تكثيفه، إذ اندمجت السلطة السياسية مع رأس المال الطفيلي في وحدة عضوية غير مسبوقة، معتمدة على الأيديولوجيا الدينية كغطاء لتبرير الخصخصة وشرعنة السيطرة الطبقية وتسويغ القمع المنظم، بما يعكس ما وصفه ماركس بأن الأيديولوجيا تعمل دائمًا كأداة لتبرير مصالح الطبقة المسيطرة (1).

من اللحظة الأولى للانقلاب، جرى توظيف الأجهزة الأمنية والعسكرية لاحتكار السلطة والسيطرة المطلقة على موارد الدولة، وتم حل النقابات العمالية والمنظمات المهنية، وإلغاء الصحف المستقلة، وتجريم أي شكل من أشكال المعارضة تحت شعار "محاربة الفتنة". هذا القمع لم يكن مجرد إجراء أمني، بل كان عنصرًا جوهريًا في تهيئة البيئة لتراكم الثروة الطفيلية، إذ أصبح القضاء أداة لشرعنة عمليات النهب، والقوانين الطارئة شكلت إطارًا قانونيًا لتكريس التفاوت الطبقي والعنف المنهجي ضد الشعب، ما أتاح للسلطة السياسية والقوة الأمنية والبنية الاقتصادية الطفيلية العمل في دائرة مغلقة من التراكم الطفيلي.

لم يقتصر التحكم على السلطة والاقتصاد، بل امتد لتطويع البنى المجتمعية عبر الطائفية، حيث لعبت طائفتا الختمية والأنصار دورًا مركزيًا في هذا النموذج. فقد وفّرت قياداتهما غطاءً اجتماعيًا للنظام وموّلت المشاريع الاقتصادية المرتبطة به، بما في ذلك الشركات الزراعية، شركات الاتصالات، والمشاريع العقارية الكبرى. أصبح الولاء الطائفي رأس مال رمزي واقتصادي يعزز استقرار النظام ويضمن ولاء قاعدة شعبية واسعة. تم دمج الطائفتين في هيكل النظام بطريقة عضوية؛ فقد استثمرت الختمية في مشاريع زراعية وشركات مقربة من النظام وربطت مصالحها بالهياكل العسكرية والأمنية، بينما احتكر الأنصار وظائف إدارية ومناصب سياسية في الأجهزة الحكومية، ما عزز موقعهم داخل تحالف السلطة الطفيلي. هذا الاندماج جعل الطائفية أداة لإعادة إنتاج الطبقية، حيث صار الولاء الديني مرتبطًا مباشرة بالمكاسب الاقتصادية، وأصبح كل من الختمية والأنصار شركاء في الاقتصاد الطفيلي والنظام القمعي، مع تقوية روابط الولاء بين المؤسسة العسكرية، رجال الأعمال الإسلاميين، والميليشيات (2).

تم تفكيك البنية الإنتاجية المتهالكة أصلاً عبر برنامج الخصخصة الذي قادته وزراء الاقتصاد الإسلاميين تحت إشراف صندوق النقد الدولي، وكانت عملية الخصخصة بمثابة إعادة استعمار داخلي، حيث استولى تحالف رجال الأعمال الإسلاميين والعسكر على أصول الدولة الحيوية بأسعار رمزية، فيما أُقصيت الطبقات الوسطى والعاملة من دائرة الانتفاع. بين عامي 1992 و2000، تمت خصخصة أكثر من 85% من الشركات العامة، بما في ذلك مشاريع الري، الصناعات الغذائية، البنوك، ومؤسسات النقل، ما حول الدولة إلى آلة لتوليد الريع الطفيلي لا لإنتاج الثروة (3). هذه الخصخصة المنهجية تُظهر الطبيعة الطبقية العميقة لسياسات الإنقاذ، إذ لم يكن هدفها النمو الاقتصادي أو تنمية البنية الإنتاجية، بل إعادة توزيع الثروة عبر تحالف اجتماعي-اقتصادي مسلح، مدعوم بغطاء طائفي واقتصادي متكامل.

تجسدت هذه السياسات الطفيلية في أحداث ملموسة: بيع شركة سوداتل بأسعار زهيدة لمستثمرين مقربين من النظام، منح ملايين الأفدنة في ولايتي الجزيرة والشمالية لشركات خليجية وسعودية تحت شروط مجحفة، وسيطرة قوات الدعم السريع على مناجم جبل عامر في دارفور، لتصبح أكبر لاعب في تجارة الذهب غير الرسمية، بينما تحول المزارعون إلى عمالة رخيصة في مشاريعهم الخاصة. كل هذه الإجراءات لم تكن استثناءً، بل تعبيرًا عن القاعدة العامة للعلاقة بين الدولة والمجتمع في هذه الحقبة، حيث أصبح كل مورد اقتصادي أداة مباشرة لتغذية شبكة السلطة (4).

مع تدفق عائدات النفط بعد عام 1999، تعمقت الطبيعة الريعية للاقتصاد السوداني، إذ تجاوزت العائدات 100 مليار دولار حتى عام 2011، لكنها لم تُستثمر إلا في تمويل القمع، شبكات الولاء، والحروب المحلية، بينما بقي الإنتاج الحقيقي في حالة انكماش. تحولت الدولة إلى "مافيا منظمة" حيث يختلط العنف الاقتصادي بالسياسي، وتمثل الحروب في دارفور وجنوب السودان أداة تراكم مباشر للريع، إذ سيطرت مليشيات الدعم السريع والمؤسسة العسكرية على طرق التهريب وتجارة الذهب والأراضي المصادرة، محولة العنف إلى رأس مال حر من أي قيد قانوني أو أخلاقي (5).

هذا النمط من تراكم الريع لم يكن ممكنًا بدون إطار مالي مؤسسي، حيث أصبحت البنوك الإسلامية أدوات لغسل الأموال وتمويل المشاريع الوهمية، وتم توجيه نحو 70% من التمويل المصرفي إلى شركات مقربة من السلطة، في حلقة مغلقة من التراكم الطفيلي تعتمد على تحويل الأموال العامة إلى مصالح شخصية ثم تهريبها إلى الخارج عبر شركات وهمية (6).

في القطاع الزراعي، تم تحويل الأراضي إلى أداة لتثبيت الهيمنة الاقتصادية، واستبعاد المزارعين المحليين من الإنتاج، وتحويلهم إلى قوة عمل رخيصة لصالح الشركات الخاصة، بينما في التعليم والصحة أدت الخصخصة إلى زيادة الفجوة الطبقية، وتحولت الخدمات من حق مجاني إلى سلعة باهظة الثمن، ما أدى إلى تدهور مؤشرات التنمية البشرية (7).

وفي إطار الاقتصاد الدولي، عمل النظام على دمج الاقتصاد السوداني في شبكة رأسمالية عالمية طرفية، حيث يُصدر المواد الخام (نفط، ذهب، أراضٍ زراعية) ويستورد السلع المصنعة، فيما تُحتكر الثروة داخليًا من قبل النخبة الطفيلية، وهو ما يعكس ما أشار إليه سمير أمين بأن الرأسمالية الطفيلية لا تنتج ثروتها، بل تعيد توزيعها عبر السيطرة على الموارد وفرض التبعية الخارجية (8).

النتائج الاجتماعية والاقتصادية كانت كارثية، إذ ارتفع معدل الفقر من 46% إلى 65%، وانخفضت حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 40%، وانهارت الزراعة والصناعة، بينما زادت الهجرة الداخلية ووسّعت الفجوات الطبقية (9). كل هذه المعطيات تؤكد أن الإنقاذ لم تكن مجرد تجربة حكم أيديولوجية، بل نموذجًا متكاملًا للرأسمالية الطفيلية المسلحة، حيث الأيديولوجيا، الاقتصاد، الطائفية، والعنف العسكري مترابطون جدليًا لإعادة إنتاج نفس التحالف الطبقي.

لقد مثلت تجربة الإنقاذ ذروة اكتمال النسق الطفيلي الذي صنعته الطبقات المستغِلة عبر عقود من التبعية والنهب. لقد كشف التحليل أن الأيديولوجيا الدينية لم تكن سوى قناع لعملية إعادة إنتاج السيطرة الطبقية، وأن الطائفية لم تكن مجرد بقايا من الماضي بل جزءًا عضويًا في منظومة النهب الحديثة، وأن العنف العسكري لم يكن استثناءً بل قاعدة للتراكم الطفيلي. إن الأزمة السودانية، كما أظهرت ثورة ديسمبر، ليست صراعًا بين أحزاب أو طوائف أو شعارات، بل هي صراع بين مجتمع منتج مسلوب الإرادة والثروة، وتحالف طبقي طفيلي مسلح يوظف الدين والسياسة والعنف لإدامة سيطرته. ومن هنا، فإن مهمة التحرر الوطني لا تنفصل عن مهمة التحرر الطبقي، ولا يمكن أن تتحقق إلا بتفكيك شبكة الريع الطفيلي وبناء اقتصاد إنتاجي يخضع لسلطة المجتمع المنتج، عبر تحالف عمالي–فلاحي يشكل القاعدة المادية لديمقراطية حقيقية وعدالة اجتماعية. إن الصراع الطبقي في السودان ليس احتمالًا أو خيارًا سياسيًا، بل حقيقة موضوعية تُفرض من طبيعة التناقضات نفسها، وما ثورة ديسمبر إلا بداية لمسار أطول وأعمق يعيد تعريف الوطنية بوصفها مشروعًا تحرريًا جذريًا، لا مجرد إصلاح سياسي فوقي.

"إن البرجوازية الطفيلية لا تنتج ثروتها، بل تنهب ثروة الآخرين" سمير أمين.

النضال مستمر،،
---
المراجع:
1. Marx, K. (1867). Das Kapital: Kritik der politischen Ökonomie. Verlag von Otto Meissner.
2. Young, C. (2012). The Political Economy of Sudan: Dependency, Crisis, and Conflict. Hurst & Co.
3. World Bank. (2000). Sudan: Privatization and Economic Reform Report. Washington, D.C.
4. United Nations Security Council. (2018). Final report of the Panel of Experts on the Sudan. New York.
5. de Waal, A. (2007). War in Darfur and the Search for Peace. Harvard University Press.
6. International Monetary Fund. (2015). Sudan: Financial Sector Assessment. Washington, D.C.
7. Food and Agriculture Organization. (2010). Agricultural Development and Food Security in Sudan. Rome.
8. Amin, S. (1974). Accumulation on a World Scale: A Critique of the Theory of Underdevelopment. Monthly Review Press.
9. United Nations Development Programme. (2018). Sudan Human Development Report. New York.



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 3. التحول النيوليبرالي في عهد نميري: تفكيك القاعدة المنتجة
- 2. التأسيس الطائفي للرأسمالية الطفيلية في السودان (1898–1956 ...
- الأزمة البنيوية للرأسمالية الطفيلية التابعة في السودان
- 12. من الاحتجاج إلى بناء البديل الثوري في السودان
- التحديات والحلول الثورية
- 11. التحديات والحلول الثورية
- 10. الوهم الإصلاحي والواقع الطبقي
- 9. تفكيك إخفاق النماذج الجنينية في الثورة السودانية
- 8. المجالس الطبقية من البناء التنظيمي إلى المعركة الشاملة
- 7. المجالس الطبقية كسلطة بديلة: الطريق الوحيد أمام الثورة ال ...
- 6. السودان بين الثورة والثورة المضادة: السوفييتات أو الهزيمة
- الانتهازية والانعزالية: وجهان لعملة واحدة في أزمة اليسار الث ...
- 5. أشكال بلا مضمون: كيف حوّلت الثورة المضادة أدوات النضال ال ...
- 4. السوفييتات - النموذج التاريخي والضرورة الراهنة
- 3. الجذور التاريخية للثورة: دروس من تجارب الشعوب
- 2. الوهم الإصلاحي ولجان الأحياء: آلية البرجوازية الصغيرة لسر ...
- على خط النار: الثورة السودانية بين الأوهام والسلطة 1. لماذا ...
- 21. إصلاحية مقنّعة، جذرية منهزمة
- 20. المشروع الثوري: طبقية، تنظيم، ممارسة
- 19. المشروع الثوري: طبقية، تنظيم، ممارسة


المزيد.....




- ترامب يوضح كيف علم بخبر شن إسرائيل ضربة ضد قيادات -حماس- في ...
- أوين كوبر يصنع التاريخ بكونه أصغر فائز بجائزة -إيمي-.. الأبر ...
- ترامب يحذر -حماس- من -استخدام الرهائن كدروع بشرية-.. ونتنياه ...
- ميرتس يؤكد التزامه بمكافحة كافة أشكال معاداة السامية في ألما ...
- الجزيرة 360.. عام من التنوع والرؤية المختلفة
- مادورو يتهم واشنطن بإعداد -عدوان عسكري- ضد فنزويلا
- روبيو قبيل زيارته الدوحة: نأمل أن تواصل قطر دورها البناء في ...
- أمير قطر يستضيف اجتماعا سداسيا لبحث قضايا إقليمية
- محكمة هندية عليا تعلّق أحكام قانون يصادر أوقاف المسلمين
- بولندا تسقط مسيّرة حلقت فوق مواقع حكومية حساسة وتعتقل بيلارو ...


المزيد.....

- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد حسب الرسول الطيب - 4. الإنقاذ وتكثيف الطفيلية: من الأيديولوجيا إلى آلة النهب