عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8465 - 2025 / 9 / 14 - 00:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
شكّل الغزو البريطاني–المصري للسودان عام 1898 لحظة تأسيسية في إدخال البلاد إلى منظومة التبعية الإمبريالية. وكما يوضّح تيم نيبلك، لم يسعَ الاستعمار إلى "بناء دولة حديثة" بل إلى إعادة صياغة المجتمع السوداني لخدمة مصالح الرأسمال البريطاني (1). أُدخل السودان إلى السوق الرأسمالي العالمي كاقتصاد طرفي متخصص في إنتاج المواد الخام، مع منع متعمّد لأي تطور صناعي محلي قادر على تحقيق تراكم مستقل. كان مشروع الجزيرة (1925) أداة مركزية لتحويل ملايين الأفدنة إلى حقول قطن تخدم مصانع لانكشير، محوّلاً الفلاحين إلى أجراء موسميين يخضعون لسياسات إنتاج موجّهة بالكامل للخارج (2). لكن هذا المشروع لم يكن اقتصادياً صرفاً، بل قاعدة اجتماعية لإعادة تشكيل العلاقات الطبقية: فمن خلال الأرض والضرائب والإدارة، وُضع الفلاحون تحت رحمة ملاك جدد وزعامات طائفية، في تداخل عضوي بين الاقتصاد والسياسة.
ارتكزت هذه السياسة على ما يسميه محمود ممداني "التنمية المقيدة"، بإفساح المجال لقطاع واحد مرتبط بالخارج مقابل قمع أي محاولة لتطوير صناعات وطنية (3). تعرّضت الحرف التقليدية (النسيج، الدباغة، الحدادة) لتدمير ممنهج عبر الضرائب والقيود القانونية وإغراق السوق بالسلع البريطانية (4). وإلى جانب ذلك، فُرضت على الفلاحين سياسات مالية عقابية: الضرائب العينية والنقدية، ونظام السُلفيات أو "الشيل"، الذي أجبر المزارعين على الاقتراض المسبق من التجار أو من قيادات الطوائف، ثم تسديده من المحصول بأسعار مجحفة. لم تكن هذه مجرد أدوات مالية، بل آليات للهيمنة الاجتماعية ربطت الفلاح مباشرة بالتاجر أو الزعيم الطائفي، وقيدته ضمن شبكة تبعية تمنع تحرره الطبقي (5). وهكذا لم يكن تدمير الصناعات المحلية وانكماش الحرف مسألة اقتصادية وحسب، بل جزءاً من إعادة إنتاج تبعية شاملة تدمج الاستغلال المادي بالضبط الاجتماعي.
لكن هذه الهيمنة الاقتصادية لم تكن لتستقر دون قاعدة اجتماعية محلية، وهنا جاءت الطائفية السودانية كأداة أساسية. أعاد البريطانيون صياغة الطائفية (الأنصار والختمية) من قوة دينية–اجتماعية إلى وسيط سياسي واقتصادي عبر نظام "الإدارة الأهلية" (6). مُنحت قيادات الطوائف سلطات إدارية وقضائية على الريف، وحُوّلت إلى ملاك كبار عبر توزيع الأراضي الزراعية في مشروع الجزيرة. وبذلك لم تعد الطائفية مجرد شبكة روحية، بل أصبحت طبقة ملاك جديدة تستمد ثروتها من استغلال الفلاحين (7). الأهم أن هذه الصياغة الجديدة للطائفية لم تقتصر على السيطرة المادية، بل امتدت إلى تشكيل وعي الجماهير: فبدلاً من أن يتطور وعي الفلاحين في اتجاه طبقي مستقل، أعيد دمجهم في ولاءات دينية–أبوية تربط مصيرهم الاقتصادي بولاءهم للزعيم. وكما يوضح جورج واربورغ، فإن هذه العلاقة الطائفية حوّلت الصراع الطبقي إلى تنافس ولاءات شخصية، ما عطّل إمكانية بلورة حركة فلاحية مستقلة (8).
تَشَكّل من هذا تحالف ثلاثي: الإدارة الاستعمارية، زعماء الطوائف، وكبار التجار ("الجلابة"). وكما يبيّن ريتشارد هيل، فإن هذه "البرجوازية" لم تنشأ من تراكم صناعي، بل من ريع الأرض والسمسرة التجارية (9). أي أنها برجوازية طفيلية بالمعنى الماركسي الدقيق: لا تنتج فائض قيمة بل تستولي عليه عبر علاقات تبعية (10). تمحورت ثروتها حول محصولين ريعيين (القطن للتصدير، والصمغ العربي)، مع قمع شديد لأي محاولة لتطوير الصناعة الوطنية. ومن هنا يتضح الترابط الجدلي: فالاستعمار لم يخلق مجرد اقتصاد أحادي التخصص، بل صاغ طبقة طفيلية–طائفية قادرة على احتكار الفائض وإعادة إنتاج التبعية.
تكشف الإحصاءات عمق هذا الارتباط: حتى عام 1953، كانت بريطانيا تستحوذ على أكثر من 90% من صادرات السودان، فيما شكّل القطن وحده 85% من هذه الصادرات عام 1950 (11). هذه الأرقام تجسّد ما يسميه والتر رودني "النهب المزدوج": استنزاف القوى المنتجة في الداخل، وتحويل عوائدها إلى الخارج (12). ومع استمرار السيطرة الطائفية–الطفيلية على الأرض والضرائب والائتمان، تكرّس التشوّه الهيكلي: اقتصاد زراعي أحادي التخصص، طبقة طفيلية مسيطرة، وفائض اقتصادي موجه للخارج. بهذا المعنى، لم تكن التبعية مجرد نتاج لسياسة تجارية، بل نتيجة اندماج بنية اقتصادية منحرفة مع طبقة اجتماعية وظيفتها إعادة إنتاج التبعية ذاتها.
اجتماعيًا، جرى تفكيك الطبقات المنتجة التقليدية. حُوّل الفلاحون إلى أجراء موسميين بلا استقرار، بينما خضعت الطبقة الوسطى الصغيرة (الموظفون، المتعلمون) لشبكات الولاء الطائفي (13). وكما يبيّن دوغلاس جونسون، فإن هذه البنية جعلت التناقض المركزي هو التناقض بين قوى إنتاجية مُعطلة (فلاحون مقيدون وإمكانات صناعية ممنوعة) وبين برجوازية طفيلية–طائفية تحتكر الفائض وتعيد إنتاج التخلف (14). وهنا يتضح كيف أن الطائفية لم تكن مجرد غطاء سياسي، بل آلية مباشرة لتعطيل التراكم الوطني: فهي تسحب الفلاح من موقعه كمنتج محتمل في مشروع وطني، لتعيد إنتاجه كتابع في شبكة زبائنية.
خصوصية الحالة السودانية تتضح أكثر بالمقارنة. ففي مصر، هيمنت البرجوازية الزراعية الكبرى دون امتزاج عميق بالطائفية الدينية (15). في نيجيريا، اعتمد الاستعمار على الحكم غير المباشر عبر الزعامات التقليدية، لكن دون دمجها العميق في ملكية الأرض كما حدث في السودان (16). أما في الهند، فقد جرى دمج التجار المحليين في النظام الاستعماري، لكن بوجود قاعدة صناعية لاحقة مكّنت من تراكم نسبي (17). لذلك يمثل السودان حالة مركبة: اقتصاد ريعي مرتبط بالخارج، وطبقة طفيلية ذات أساس ديني–سياسي، ما جعل إعادة إنتاج التبعية أكثر رسوخًا. ومن هنا يمكن القول إن الطائفية في السودان ليست "بقايا تقليدية"، بل جزء بنيوي من النمط الاستعماري للرأسمالية الطفيلية.
إلى جانب ذلك، كان للنساء والعمال وضع خاص في هذا التكوين. فبدلاً من تكوين طبقة عاملة صناعية مستقرة، أبقى الاستعمار على العمالة في شكل موسمي: عمال زراعة في الجزيرة، عمال نقل مؤقتون في السكك الحديدية، وخدم منازل في المدن (18). أما النساء، فقد حُصر دورهن في العمل غير المستقر منخفض الأجر، سواء في الزراعة أو الخدمة المنزلية، ما جعل مساهمتهن في الإنتاج خاضعة تماماً للسيطرة الذكورية–الطائفية. وبهذا حُرم السودان من إمكانية نشوء بروليتاريا صناعية صلبة، كما حدث نسبياً في مصر والهند. لقد كانت هذه سياسة مقصودة لإبقاء القوى العاملة مجزأة، ومنعها من أن تتحول إلى طبقة مستقلة قادرة على تحدي التحالف الطفيلي.
هذا الإرث الاستعماري لم ينكسر بالاستقلال الشكلي عام 1956. فالاستقلال كان ثمرة مساومات بين الاستعمار والطائفية والبرجوازية الناشئة، ما جعل الدولة الوطنية أداة لإعادة إنتاج نفس النمط الطفيلي–الطائفي. وكما يلاحظ أليكس دي وال، فإن كل الأنظمة التي حكمت السودان حافظت على البنية ذاتها: دولة ريعية، اقتصاد طفيلي، وتحالف اجتماعي ينهب الفائض دون أن يطوّر قوى الإنتاج (19). وهكذا يصبح التاريخ بعد الاستقلال استمراراً لتلك الحلقة المغلقة، مع تحديث للأدوات دون مساس بالبنية.
إن هذا يعيدنا إلى أطروحة فرانتز فانون: "الاستعمار لا يكتفي بإخفاء الشعوب في متاهة من المشاكل، بل يعمل على تشويه مسارها الاقتصادي إلى الأبد" (20). حيث يتضح أن مأزق السودان المعاصر هو استمرارية لهذا التشويه: نمط إنتاج طفيلي–طائفي رسّخه الاستعمار، وأعادت القوى الطبقية المسيطرة إنتاجه بأشكال جديدة. الحل لا يكمن في "إصلاحات إدارية"، بل في كسر هذه الحلقة التاريخية عبر بناء اقتصاد إنتاجي مستقل، وتحطيم الأسس الاجتماعية للطائفية والطفيلية معاً.
النضال مستمر،،
قائمة المراجع:
1. Niblock, T. (1987). Class and Power in Sudan: The Dynamics of Sudanese Politics, 1898–1985. Macmillan.
2. Barnett, T. (1977). The Gezira Scheme: An Illusion of Development. Routledge.
3. Mamdani, M. (1996). Citizen and Subject: Contemporary Africa and the Legacy of Late Colonialism. Princeton University Press.
4. Ibrahim, F. N. (1985). The Development and Destruction of Indigenous Industries: The Case of Sudan. University of Khartoum Press.
5. O’Brien, J. (1986). The Political Economy of Underdevelopment: Dependence in Sudan. Routledge.
6. Warburg, G. (2003). Islam, Sectarianism and Politics in Sudan Since the Mahdiyya. Hurst.
7. El-Battahani, A. (2009). "The Post-Secession State in Sudan: Building Coalitions´-or-Deepening Conflicts?". In The Sudan Handbook. James Currey.
8. Warburg, G. (2003). Islam, Sectarianism and Politics in Sudan Since the Mahdiyya. Hurst.
9. Hill, R. (1959). Egypt in the Sudan, 1820–1881. Oxford University Press.
10. Marx, K. (1894). Capital: Volume III. Progress Publishers.
11. The World Bank. (1983). The Agricultural Sector of Sudan: Policy Issues and Development Options.
12. Rodney, W. (1972). How Europe Underdeveloped Africa. Bogle-L Ouverture.
13. Johnson, D. H. (2003). The Root Causes of Sudan s Civil Wars. James Currey.
14. Johnson, D. H. (2003). The Root Causes of Sudan s Civil Wars. James Currey.
15. Owen, R. (1969). Cotton and the Egyptian Economy, 1820–1914. Oxford University Press.
16. Falola, T. (2009). Colonialism and Violence in Nigeria. Indiana University Press.
17. Chandra, B. (2000). India’s Struggle for Independence. Penguin.
18. Hale, S. (1997). Gender Politics in Sudan: Islamism, Socialism, and the State. Westview Press.
19. de Waal, A. (2015). The Real Politics of the Horn of Africa: Money, War and the Business of Power. Polity Press.
20. Fanon, F. (1963). The Wretched of the Earth. Grove Press.
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟