عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8457 - 2025 / 9 / 6 - 04:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تمر الثورة السودانية بلحظة تاريخية فريدة من نوعها، لحظة تتميز بانهيار النظام القديم دون أن يكتمل بناء النظام الجديد. هذه اللحظة الانتقالية، رغم كل مأساويتها، تخلق ظروفاً استثنائية لبناء أشكال تنظيمية ثورية جديدة. إن الفراغ السلطوي الناتج عن انهيار دولة النظام القديم يفتح مساحات واسعة أمام مبادرة الجماهير لبناء أدوات سلطتها الخاصة. لكن هذا البناء لا يحدث تلقائياً، بل يتطلب وعياً ثورياً يستطيع قراءة اللحظة التاريخية وتحويل إمكانياتها إلى واقع ملموس.
لقد أوضح لينين أن الثورات لا تنفجر فقط عندما يكون النظام القديم غير قادر على الاستمرار بنفس الطريقة، بل أيضاً عندما تصبح الجماهير غير مستعدة للعيش بنفس الطريقة. هذا الوصف ينطبق تماماً على الوضع السوداني الراهن. فمن ناحية، لم يعد النظام القديم قادراً على إعادة إنتاج هيمنته بنفس الآليات السابقة، ومن ناحية أخرى، فإن الجماهير السودانية، خاصة بعد تجربة ديسمبر المجيدة، لم تعد تقبل العيش تحت نفس الظروف البائسة.
إن تحليل الفراغ السلطوي في السودان يكشف عن عمق الأزمة البنيوية التي يعيشها النظام القديم. لقد انهارت شرعية الدولة التقليدية بشكل شبه كامل بعد سقوط نظام البشير. مؤسسات الدولة المركزية تعاني من تآكل حاد في قدرتها على السيطرة وإدارة الشؤون العامة. الأجهزة القمعية التي كانت عماد النظام السابق تعاني من انقسامات عميقة وتفكك داخلي. النخبة الحاكمة منقسمة إلى تحالفات متصارعة، كل منها يحاول ملء الفراغ السلطوي لصالحه. هذا الفراغ ليس مجرد غياب للحكومة، بل هو أزمة نظام كامل، أزمة هيمنة كما كان يسميها غرامشي.
في هذا الفراغ السلطوي، تبرز ظاهرة بالغة الأهمية: التمرد الشعبي التلقائي وأشكال التنظيم الذاتي. لقد شهدنا خلال السنوات الماضية ولادة عشرات الأشكال التنظيمية الشعبية التي حاولت ملء الفراغ الناتج عن انهيار دولة النظام القديم. لجان الأحياء كانت الأكثر انتشاراً، حيث انتشرت في كل الأحياء الشعبية والمناطق الطرفية. هذه اللجان، رغم كل نقائصها، مثلت أجنة للتنظيم الذاتي الشعبي، حيث أخذت على عاتقها مهام متعددة بدءاً من تنظيم الاحتجاجات، مروراً بإدارة الخدمات اليومية، ووصولاً إلى تنظيم الدفاع عن الأحياء في مواجهة القمع.
كما شهدنا تجارب غنية في العصيان المدني والإضرابات السياسية التي عبرت عن قدرة الجماهير على شل مؤسسات النظام القديم. تجارب تنظيمات الحماية في مواجهة آلة القمع أثبتت أن الجماهير قادرة على تطوير أشكال تنظيمية دفاعية مبتكرة. لجان إدارة الخدمات في الأحياء والمناطق مثلت مختبرات حية لإدارة ذاتية بديلة. كما شهدنا تطوراً ملحوظاً في أشكال التنظيم النقابي المستقل، خاصة في القطاعات الاستراتيجية مثل النقل والصحة والتعليم.
هذه الأشكال التنظيمية لم تظهر من فراغ، بل هي نتيجة تراكم تاريخي غني للخبرات النضالية السودانية. فالسودان يملك تراثاً نضالياً يعود إلى انتفاضتي 1964 و1985 المجيدتين. انتفاضة أبريل 1985 خاصة قدمت دروساً ثمينة في التنظيم الجماهيري والإضراب السياسي. لكن تجربة ديسمبر 2018 مثلت قفزة نوعية في الخبرة النضالية، حيث شهدنا أكبر حركة احتجاجية في تاريخ السودان، بتنظيم أفقي واسع وتكتيكات نضالية مبتكرة.
خبرة المواجهات مع الانقلاب العسكري في أكتوبر 2021 أضافت بعداً جديداً للخبرة النضالية السودانية، حيث طورت الجماهير أساليب مواجهة متطورة ضد آلة القمع. هذا التراكم المستمر للمعرفة بالتكتيكات النضالية الجماهيرية يصاحبه نمو مطرد في الوعي الطبقي عبر موجات النضال المتتالية. فلم تعد المطالب مقتصرة على إسقاط النظام، بل تتجه أكثر نحو المطالب الطبقية الواضحة: حق العمال في الإدارة، حق الفلاحين في الأرض، حق الجماهير في الثروة.
رغم كل هذه العوامل الذاتية، تبقى الإمكانيات الموضوعية للبناء السوفييتي عاملاً حاسماً. والسودان يمتلك إمكانيات موضوعية هائلة لبناء السوفييتات. فمن الناحية الهيكلية، توجد قاعدة عمالية منظمة في القطاعات الاستراتيجية مثل النقل والمواصلات والصناعة والنفط. هذه القطاعات تشكل نقاطاً استراتيجية يمكن أن تكون نواة للتنظيم السوفييتي.
كما أن طبيعة التجمعات السكانية في السودان، خاصة في الأحياء الشعبية المتراصة في العاصمة والمدن الكبرى، تخلق بيئة مثالية للتنظيم الشعبي الأفقي. هذه الأحياء، بتركيبتها الاجتماعية المتماسكة وتاريخها النضالي، يمكن أن تتحول بسرعة إلى خلايا للسلطة الشعبية.
التطور الكبير في شبكات الاتصال والتواصل الجماهيري يشكل عاملاً مساعداً مهماً. فوسائل التواصل الاجتماعي والنشرات الشعبية والمحلية أصبحت أدوات فعالة في تنظيم الحراك الجماهيري وتنسيقه.
كما أن التجربة المتراكمة في الإدارة الذاتية للخدمات في الأحياء والمناطق، رغم بدائيتها، تقدم خبرة عملية في إدارة الشؤون العامة بشكل جماعي وديمقراطي. هذه الخبرة تشكل أساساً يمكن البناء عليه لتطوير أشكال أكثر تطوراً للإدارة الذاتية.
أخيراً، يبقى التقليد النضالي الجماهيري العميق الجذور في المجتمع السوداني أهم رصيد موضوعي. فثقافة المقاومة والتضامن الاجتماعي المتجذرة في التراث السوداني تشكل تربة خصبة لتنمية أشكال التنظيم الثوري.
لكن كل هذه الإمكانيات الموضوعية تبقى ناقصة بدون العوامل الذاتية المساعدة. هنا يبرز دور الوعي الثوري الذي نما لدى شرائح واسعة من الجماهير عبر تجربة النضال الطويل. وجود كوادر ثورية ذات خبرة تنظيمية متراكمة، سواء من خلال العمل النقابي أو الطلابي أو الشعبي، يشكل عاملاً حاسماً في عملية البناء.
كما أن تراكم التجارب التنظيمية الجمعية، رغم كل إخفاقاتها، يقدم دروساً ثمينة يمكن الاستفادة منها في بناء أشكال أكثر تطوراً. الاستعداد الجماهيري الواسع للتضحية والنضال الطويل، كما أثبتت تجربة المواجهات المستمرة، يخلق بيئة مناسبة للبناء الثوري الطويل الأمد.
الأهم من كل هذا، التشبث الواسع بحلم التغيير الجذري الذي تجلى في استمرار المقاومة رغم كل القمع والتراجع. هذا التشبث بالحلم الثوري يشكل الوقود الذي يدفع عملية البناء قدماً رغم كل الصعوبات.
إن تحويل هذه الإمكانيات الهائلة إلى واقع ملموس يتطلب شروطاً ذاتية محددة. أول هذه الشروط وجود قيادة ثورية واعية تستطيع قراءة اللحظة التاريخية وتحويل الإمكانيات إلى واقع. قيادة تستطيع الجمع بين المرونة التكتيكية والثبات على المبادئ الاستراتيجية.
ثاني هذه الشروط وجود برنامج سياسي واضح يربط بين النضال اليومي للجماهير والهدف الاستراتيجي المتمثل في بناء السلطة الشعبية. برنامج يستطيع تحويل المطالب الاقتصادية اليومية إلى مدرسة للصراع الطبقي والسياسي.
ثالث الشروط الصبر الطويل والعمل الدؤوب في بناء القواعد الشعبية. فبناء السوفييتات ليس عملية ليلة وضحاها، بل هي عملية تراكمية طويلة الأمد تحتاج إلى صبر استراتيجي وعمل يومي متواصل.
رابع الشروط المرونة التكتيكية في التعامل مع تعقيدات المرحلة. فالثورة ليست خطاً مستقيماً، بل هي عملية متعرجة تحتاج إلى مرونة في التكتيك مع ثبات في الاستراتيجية.
أخيراً، وليس آخراً، يتطلب البناء وجود رؤية واضحة للعلاقة بين الأشكال التنظيمية المختلفة. كيف تترابط سوفييتات المصانع مع لجان الأحياء، كيف تتكامل تنظيمات الفلاحين مع تنظيمات العمال، كيف يتم التنسيق المركزي مع الحفاظ على الاستقلالية المحلية.
إن تحويل الإمكانية إلى واقع هو مهمة الثوريين اليوم. فالسوفييتات ليست حلماً بعيد المنال، بل هي إجابة عملية على أزمة السلطة والتنظيم التي تعيشها ثورتنا. هي ليست شكلاً جاهزاً يمكن استيراده، بل هي شكل ينبع من صلب التجربة النضالية للجماهير ويطورها إلى مستويات أعلى.
اللحظة التاريخية الحالية، رغم كل صعوباتها، تخلق ظروفاً غير مسبوقة لتحقيق هذه القفزة النوعية. الفراغ السلطوي، التمرد الشعبي، التراث النضالي، الإمكانيات الموضوعية، كلها عوامل تخلق الأرضية الخصبة للبناء السوفييتي. لكن تحقيق هذه الإمكانية يتوقف على قدرة الثوريين على قيادة هذه العملية بوعي وثبات.
إن دروس التاريخ تثبت أن اللحظات الثورية لا تدوم طويلاً. الفرص التاريخية التي تفتحها الأزمات العميقة تكون في الغالب مؤقتة وقابلة للضياع إذا لم تستثمر في الوقت المناسب. لذلك فإن مهمة بناء السوفييتات ليست مهمة مستقبلية، بل هي مهمة راهنة وملحة.
فكما قال لينين: "هناك لحظات في حياة الأمم لا يمكن التعويض عنها". اللحظة الراهنة في السودان هي من هذه اللحظات التاريخية التي لا تعوض. إما أن نستثمرها في بناء أدوات السلطة الشعبية، أو نفقدها لصالح قوى الثورة المضادة التي تعمل ليل نهار لإعادة إنتاج نظامها القديم بأشكال جديدة.
الخيار بين البناء السوفييتي والعودة إلى النظام القديم هو الخيار الذي تواجهه ثورتنا اليوم. وعلينا أن نختار بحكمة وشجاعة.
كما قال غرامشي: "إن الثورة لا تمنح أي ضمانات، لكنها تفتح الطريق أمام الشعوب لتصنع مصيرها بأيديها."
النضال مستمر،،
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟