عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8439 - 2025 / 8 / 19 - 08:35
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
تمثل مسألة التحالفات الطبقية أحد أكثر الجوانب تعقيدًا في الصراع الثوري، فهي ضرورة استراتيجية لا غنى عنها لتمكين البروليتاريا من مراكمة القوى لمواجهة الدولة البرجوازية، لكنها في الوقت ذاته تشكل أداة استغلال تستخدمها البرجوازية الوطنية والكومبرادورية لتفريغ الحركة العمالية من مضمونها الجذري. هنا يتجلى التناقض الأساسي: هل تكون التحالفات جسرًا نحو الثورة الاشتراكية أم غطاءً لتجديد الهيمنة البرجوازية؟ فهم هذا التناقض يشكل شرطًا أساسيًا لتخطيط أي استراتيجية ثورية ناجحة، وكما أوضح لينين: "من لا يفهم ضرورة التحالفات لا يفهم شيئًا عن السياسة، ولكن من يجعلها بديلاً عن استقلال البروليتاريا لا يفهم شيئًا عن الثورة."
البرجوازية الصغيرة هي القوة الأكثر تقلبًا في أي تحالف، إذ تتأرجح بحسب ضغط التناقضات المادية؛ ففي أوقات الأزمة الاقتصادية قد تنحاز إلى شعارات الجماهير، لكنها سرعان ما تميل إلى الإصلاحية بمجرد ظهور آفاق الاستقرار. هذا التذبذب يجعلها قناة مثالية لإعادة إنتاج خطاب "الوحدة الوطنية" أو "الإصلاح الديمقراطي"، وتوجيه الجماهير الثورية نحو مسارات شكلية بعيدة عن الصراع الطبقي الحقيقي. هذه الطبيعة المتقلبة للبرجوازية الصغيرة تجعل من الضروري للبروليتاريا تطوير أدوات تحليلية وتنظيمية لمواجهة أي تحرك يحابي الهيمنة البرجوازية.
أما البرجوازية الوطنية، التي لعبت في بعض لحظات ما بعد الاستعمار دورًا تقدمياً نسبياً، فقد تحولت بفعل العولمة إلى شريك في السوق الإمبريالي، ما جعلها عاجزة عن قيادة أي مشروع استقلالي حقيقي. وقد أكد سمير أمين أن "البرجوازية الوطنية ماتت حين اندمجت مصالحها في إعادة إنتاج الرأسمالية التابعة"، وهو ما يفسر كيف أصبحت الأنظمة الوطنية في إفريقيا والعالم العربي في كثير من الحالات مجرد وكلاء للهيمنة الاقتصادية العالمية، مما يجعل أي تحالف معها محفوفًا بالمخاطر إذا فقدت الحركة الثورية استقلالها القيادي. ويبرز هنا السؤال: هل ما زال مصطلح "البرجوازية الوطنية" صالحًا في عصر العولمة، أم أن كل البرجوازيات المحلية تحولت فعليًا إلى كومبرادورية؟ التحليل الماركسي لسمير أمين حول "الرأسمالية الطفيلية" يوضح أن الغالبية العظمى من البرجوازيات الوطنية اليوم تعمل ضمن أطر تبعية للاقتصاد العالمي، فاقدة القدرة على قيادة مشاريع استقلالية حقيقية.
أظهرت التجارب الأوروبية خلال الثلاثينيات، مثل فرنسا وإسبانيا، كيف يمكن للبرجوازية استغلال التحالفات لمواجهة الفاشية، حيث رفعت الشعارات الثورية لكن توجيه التحالفات نحو إصلاحات دستورية عاجزة عمل على عزل زخم الجماهير الثوري. وفي تشيلي، أدت تجربة "الوحدة الشعبية" برئاسة سلفادور أليندي إلى تجميد الصراع الطبقي باستخدام شعار "الطريق السلمي للاشتراكية"، قبل أن تنقض البرجوازية والكومبرادور العسكري على الثورة، مما أبرز الفخ الأساسي للتحالفات التي يقودها رأس المال. كما كشفت تجارب أمريكا اللاتينية الحديثة، بما في ذلك فنزويلا والبرازيل والأرجنتين، أن تحالفات اليسار مع البرجوازية الوطنية غالبًا ما أعادت إنتاج البنية التبعية، بينما بقيت الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج مصانة.
وفي إفريقيا والعالم العربي، استغلت البرجوازية الوطنية والكومبرادورية التحالفات لاحتواء الجماهير، وتوجيهها نحو إصلاحات شكلية مع الحفاظ على هيمنة النخبة الحاكمة. ففي السودان، أدت التحالفات المؤقتة إلى تسليم قيادة الحراك إلى قوى برجوازية عملت على تجريد الثورة من أهدافها الاقتصادية والاجتماعية لصالح تسويات سياسية، بينما في مصر عقب 2011، تحول الصراع ضد النظام القديم إلى تحالفات مؤقتة انتهت بإعادة إنتاج بنية الدولة العسكرية البرجوازية. هذه التجارب تثبت أن التحالفات ليست مجرد تكتيك عابر، بل ساحة مستمرة للصراع على السلطة والوعي، وأن أي نجاح ثوري لا يتحقق إلا بقيادة بروليتاريا مستقلة قادرة على التحكم في مسار التحالفات وتوجيهها بما يخدم مصالح الطبقات العاملة.
وفي هذا السياق أيضا، يجب معالجة مسألة الفلاحين كحلفاء. الإشارة إليهم كقوة ثورية على النمط الماوي تاريخيًا مفيدة، لكنها تحتاج لتعديل يعكس الواقع المعاصر. ففي كثير من الدول، مثل مصر والمغرب، تحول الفلاحون إلى فئات مختلطة بين بروليتاريا ريفية و"برجوازية صغيرة زراعية". هذا التحول يجعل التحالف معهم أكثر تعقيدًا، إذ يقتضي تقدير مصالحهم الاقتصادية المتغيرة، وتجنب التفاف الطبقات الصغيرة على شعارات الثورة، مع التركيز على قيادة الحركة الثورية من قبل الطبقة العاملة والفلاحين الذين يلتزمون بالبرنامج الاشتراكي.
وفي آسيا، قدمت التجارب الثورية نماذج ناجحة للتحالفات. فقد أظهرت التجربة الصينية قدرة الثورة على استيعاب التحالف مع الفلاحين والبرجوازية الوطنية الصغيرة دون التفريط في القيادة البروليتارية، وهو ما أتاح نجاح الثورة الاشتراكية وتمكين الفلاحين في سياق طويل من الصراع الطبقي. كما أن التجربة الفيتنامية برهنت على أهمية التحالفات المتدرجة مع الفئات الشعبية، حيث استطاعت قيادة الحزب الشيوعي الحفاظ على استقلالية الحركة وتوجيه التحالفات نحو التحرر الوطني والاشتراكية، مجنبةً الانزلاق نحو مشاريع إصلاحية تخدم البرجوازية المحلية والإمبريالية.
يتجاوز الصراع مجرد الشعارات إلى ميدان المؤسسات، فالبرجوازية تمتلك أدوات الدولة لتفريغ التحالفات من محتواها الثوري، بما في ذلك القضاء الذي يجرم الحركات الثورية، والإعلام الذي يعيد إنتاج الهيمنة الثقافية، والتعليم الذي يغرس الولاء للنظام القائم. وهنا تتجسد فكرة غرامشي عن "حرب المواقع"، حيث قال: "الهيمنة لا تُمارَس فقط بالقوة، بل أيضًا بالثقافة، ومن يربح حرب المواقع هو من يحدد طبيعة التحالف." هذه المؤسسات تتحكم في تحديد مسار أي تحالف مؤقت مع الحركة الثورية، وتحوله من أداة محتملة للتقدم إلى وسيلة لإضعافها، مما يتطلب يقظة مستمرة واستراتيجيات متطورة للحفاظ على استقلال الحركة الطبقية.
كما أن الإمبريالية الحديثة لا تقف خارج هذه اللعبة، بل تعيد صياغة طبيعة التحالفات نفسها، حيث يخضع الكومبرادور المحلي لإملاءات صندوق النقد والبنك الدولي، وتدعم المؤسسات الإمبريالية التحالفات الوطنية إذا ضمنت استمرار التبعية، مع استخدام وسائل الضغط الاقتصادي والسياسي لضمان الحفاظ على مصالح رأس المال العالمي. وقد أظهرت التجارب في أمريكا اللاتينية والعالم العربي أن أي فشل في استقلالية الحركة الثورية يتحول فورًا إلى استعادة الهيمنة القديمة.
كما تفرض الرأسمالية المعاصرة ديناميكيات جديدة على طبيعة التحالفات، فبنية البروليتاريا لم تعد محصورة في العمال الصناعيين وحدهم، بل تشمل ملايين من العمال غير النظاميين، والعاملين في الاقتصاد الرقمي، والشرائح الجديدة من "البرجوازية الصغيرة الرقمية" المرتبطة بالمنصات العابرة للقوميات، وهي طبقات وسطى متذبذبة ومتصلة مباشرة بالسوق العالمي، تُعيد إنتاج الطابع المائع للتحالفات الطبقية، مما يتطلب من الحركة الثورية تطوير أدوات تحليلية وتنظيمية متقدمة لمواكبة هذا التغير، وفهم تأثير الشركات متعددة الجنسيات والمنصات الرقمية على إنتاج الوعي الطبقي ونقاط التذبذب الرئيسية في أي تحالف ثوري محتمل.
كما أظهرت أيضا الثورات العربية الحديثة قدرة البرجوازية الدينية على اختراق التحالفات الشعبية، كما حدث مع الإخوان في مصر والنهضة في تونس، حيث استغلوا التحالفات مع القوى الاجتماعية المختلفة للسيطرة على مسارات الثورة، متحكمين في المؤسسات السياسية والثقافية، وموجّهين الحراك نحو أهداف إصلاحية تخدم مصالحهم الطبقية، بينما بقيت مصالح الطبقات العاملة محدودة. هذا يبرز ضرورة دمج تحليل البرجوازية الدينية ضمن دراسة التحالفات، باعتبارها قوة قادرة على تحويل أي تحالف محتمل إلى أداة لإعادة إنتاج الهيمنة الاجتماعية والسياسية.
وتلخص التجارب التاريخية أن التحالفات قد تكون وسيلة للتقدم الثوري إذا حافظت البروليتاريا على قيادتها واستقلالها، كما فعل البلاشفة حين تحالفوا مع الفلاحين دون أن يتنازلوا عن قيادة الصراع الطبقي، وهو الشرط الأساسي لانتصار ثورة أكتوبر. أما في الحالات التي يفقد فيها الحزب الثوري استقلاله، كما في تشيلي، يتحول التحالف إلى قبر للحركة، وكما أكد ماو تسي تونغ: "ليس كافياً أن تكون ثورياً في الخطاب، بل يجب أن تكون ثورياً في تحليل التناقضات الملموسة." هذا يبرز أهمية الجمع بين المرونة في التحالفات والحفاظ على القيادة المستقلة للطبقات العاملة.
تكمن الحماية الحقيقية من فخاخ التحالفات في استقلالية التنظيم الثوري، وفي بناء أدوات مقاومة الهيمنة داخل التحالف نفسه: الصحافة العمالية المستقلة، ومجالس العمال، والتثقيف السياسي الماركسي المستمر، ورفض إذابة البرنامج الاشتراكي في شعارات عامة. إن بناء وعي طبقي متين، واستقلال التنظيم الثوري، ومراقبة التحالفات باستمرار هي الشروط الأساسية لتحويل أي تحالف محتمل إلى قوة ثورية حقيقية، بدل أن يصبح أداة لإعادة إنتاج الهيمنة البرجوازية. وتُظهر جميع الأمثلة التاريخية والمعاصرة أن التحالفات الطبقية ليست مجرد تكتيك عابر، بل ساحة مستمرة للصراع على السلطة، وميدان لاختبار قدرة الحركة الثورية على الجمع بين مرونة التحالفات واستقلاليتها الطبقية. الفشل في إدارة هذا التوازن يؤدي فورًا إلى استعادة الهيمنة البرجوازية، بينما النجاح فيه يمكّن الحركة من تحويل أي تحالف إلى قوة حقيقية للتغيير الاشتراكي.
يجب أن تحافظ البروليتاريا على قيادتها وذلك لتحويل أي تحالف إلى قوة ثورية حقيقية، كما يتوجب عليها أن تُدير التحالف بوعي طبقي، مع تطوير أدوات المراقبة والرقابة الذاتية، واستثمار الإعلام والثقافة والتثقيف السياسي لتعزيز استقلالية الحركة. إن دراسة التحالفات الطبقية تكشف أن أي نجاح ثوري لا يعتمد فقط على القدرة التنظيمية للبروليتاريا، بل على وعيها الاستراتيجي وقدرتها على إدارة التحالفات بذكاء ومرونة، دون التفريط في استقلالها القيادي. فالتحالفات ليست أدوات ثابتة، بل ساحات للصراع بين مصالح الطبقات المختلفة، ويجب أن تُدار وفق فهم دقيق للتناقضات الملموسة، كما أشارت التجارب التاريخية في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا. إن القوة الحقيقية لأي حركة ثورية تكمن في الجمع بين استقلالية القيادة الطبقية والمرونة التكتيكية في التحالفات، مع تطوير أدوات الرقابة الذاتية والتثقيف السياسي والإعلامي المستقل لتعزيز استقلالية الحركة وتمكينها من مقاومة الهيمنة البرجوازية والكومبرادورية. إن فهم هذا التوازن الحساس، واستثماره بشكل منهجي، يجعل من التحالفات أدوات للثورة لا أدوات للهيمنة، ويحول أي مواجهة مع القوى الاقتصادية والسياسية القائمة إلى فرصة حقيقية لبناء مجتمع اشتراكي قائم على مصالح الطبقات العاملة.
يتضح من كل ما سبق أن التحالفات الطبقية ليست مجرد أداة تكتيكية عابرة، بل هي ميدان حي للصراع على السلطة والوعي بين الطبقات. نجاح أي حركة ثورية يعتمد بشكل حاسم على قدرة البروليتاريا على قيادة هذا الصراع، ليس فقط في المجتمع، بل داخل الحزب الثوري نفسه، كأداة مركزية لضمان استقلالية الحركة الطبقية. فالقيادة البروليتارية داخل الحزب تشكل الضمانة الأساسية لتحويل التحالفات إلى قوة حقيقية للتغيير الاشتراكي، ولحماية المشروع الثوري من الانزلاق إلى مشاريع إصلاحية تخدم البرجوازيات المحلية والكومبرادورية.
إن الحزب الثوري المنظم بقيادة بروليتارية واعية قادر على تطوير آليات مرنة لإدارة التحالفات: من مراقبة تذبذب البرجوازية الصغيرة، واستيعاب مصالح الفلاحين والفئات الشعبية، إلى مواجهة اختراق البرجوازية الدينية والمؤسسات الإمبريالية. هذه المرونة التكتيكية، المترافقة مع صرامة في قيادة الحزب وضبط استقلاليته، تجعل التحالفات أدوات للنمو الثوري، لا فخاً لإعادة إنتاج الهيمنة. وبهذا يصبح الحزب الثوري بقيادة البروليتاريا مركزًا لتجميع القوى الشعبية، وإشعال الصراع الطبقي لصالح العمال والفلاحين، وضمان استمرار الثورة في مواجهة كل محاولات التراجع أو الإقصاء الطبقي.
لذا فإن قيادة البروليتاريا داخل الحزب الثوري ليست خيارًا تنظيميًا فحسب، بل شرط جوهري لتحويل أي تحالف محتمل إلى قوة ثورية حقيقية، ولترسيخ استقلال الحركة الطبقية، وحماية المشروع الاشتراكي من مخاطر الهيمنة البرجوازية والكومبرادورية في كل زمان ومكان.
"البرجوازية الصغيرة هي طبقة متذبذبة، تتأرجح بين الطبقة العاملة والبرجوازية، وتفتقر إلى الاستقرار الطبقي، مما يجعلها عرضة للتأثيرات البرجوازية."
فلاديمير إليتش لينين.
النضال مستمر،،
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟