أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - عماد حسب الرسول الطيب - من تفريغ الغضب إلى تصفية الوعي














المزيد.....

من تفريغ الغضب إلى تصفية الوعي


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8429 - 2025 / 8 / 9 - 08:52
المحور: قضايا ثقافية
    


تيك توك أحد أكثر منتجات الرأسمالية المعولمة إحكامًا، يعيد صياغة وعي الشباب ويفرغ طاقتهم النضالية في فضاء التفاهة والانفصال عن الواقع، بعيدًا عن مهام التغيير الجذري. يتجاوز الأمر التسلية إلى صناعة منظّمة للوعي الزائف، حيث تُستبدل قضايا الجماهير العاجلة بموجات من التحديات السطحية، ورقصات مُعاد إنتاجها، وتفريغ مستمر للشحنات النفسية التي كان يمكن أن تتحول إلى فعل سياسي أو تنظيمي أو فكري في مواجهة النظام القائم.

في المنظور الماركسي، لا وجود لمنتج ثقافي خارج بنية الإنتاج المهيمنة. تيك توك ليس أداة محايدة، بل جزء من جهاز أيديولوجي ضخم يخدم الرأسمالية الاحتكارية ويعيد إنتاج شروط سيطرتها. المنصة صينية المنشأ لكنها أمريكية الهوى من حيث الوظيفة الطبقية، إذ تندمج في منطق السوق العالمي القائم على تسليع الانتباه وتحويله إلى أرباح عبر الإعلانات، وجمع البيانات، وصياغة أذواق استهلاكية تخدم النموذج النيوليبرالي. كل ثانية يقضيها الشاب على تيك توك هي ثانية تُنتزع من زمنه الواعي المنتج، وتُستبدل بزمن استهلاكي خامل.

تتجلى خطورة تيك توك في السودان – وغيره من بلدان التبعية – في أنه يعمل كصمام أمان للرأسمالية المحلية والعالمية، إذ يمنح الشباب وهم الحرية والتعبير، بينما يعزلهم عن صراعهم الحقيقي مع النظام السياسي والاقتصادي. تُحاصر البطالة ملايين الشبان، ويخنق القمع أي تعبير مباشر عن الغضب، فيأتي تيك توك ليقدّم “المتنفس” المسموح به: شتائم متفرقة، مقاطع فكاهية، جدالات تافهة حول الجندر والمظهر، وتفريغ للغضب في اتجاهات مضمونة العقم السياسي. وكما أشار غرامشي، فإن الهيمنة الثقافية لا تفرض فقط عبر القمع، بل عبر إقناع الجماهير بقبول منظومة القيم التي تسحقهم، حتى يبدون كأنهم يختارون قيودهم بأنفسهم.

تنتشر في تيك توك أنماط من التدني الأخلاقي وخطاب الكراهية، ليست مجرد انحرافات فردية، بل انعكاس مباشر لثقافة السوق التي تروّج للانقسام، وتستثمر في الاستفزاز، لأن الجدل المسموم يولّد مشاهدات، والمشاهدات تتحول إلى إعلانات وأرباح. يصبح الجسد سلعة، واللغة بضاعة، والكراهية وقودًا للمنصة. الجندر يُطرح لا كمسألة مساواة وحقوق، بل كحلبة صراع مبتذلة بين ذكورة سامة وأنوثة مشوّهة، تُفرغ كل إمكانيات النقاش الجاد في مسار تسويقي رخيص.

هذه الماكينة الرقمية لا تعمل عشوائيًا؛ خوارزمياتها تدفع المحتوى المثير للجدل والتفاهة إلى القمة، وتدفن أي محتوى جاد أو تحليلي تحت جبل من “الترفيه” السام. وهكذا تتحقق إحدى غايات الإمبريالية الثقافية التي تحدث عنها هربرت ماركيوز حين أشار إلى أن المجتمع الصناعي المتقدم يخلق “إنسانًا ذا بعد واحد”، أي فردًا عاجزًا عن تجاوز حدود ما تحدده له السلطة، لأن أدوات الترفيه ذاتها هي أدوات السيطرة.

تيك توك في السياق السوداني يكمّل دور الإعلام الممول خارجيًا والمنظمات غير الحكومية التي تعمل كأذرع ناعمة لاحتواء الشارع. فهو يصرف الانتباه عن القمع، يروّض المزاج العام، ويُحيل النضال إلى مادة ساخرة قابلة للنسيان. في لحظة كان يمكن للشباب أن يوحدوا جهودهم من أجل مواجهة الدولة العسكرية-المدنية التابعة، يصبحون غارقين في صراعات وهمية حول “ترند” يومي، أو مهووسين بعدّ المشاهدات والإعجابات كمعيار للقيمة الذاتية.

لقد حذّر لينين من أن “أسوأ ما قد يواجه حركة ثورية هو أن تُستبدل الطاقة الثورية بمهرجانات فارغة تحت رايات مضللة”، وهذه الكلمات تجد مصداقيتها اليوم في الفضاء الرقمي، حيث يُستنزف جيل كامل في معارك تافهة، بينما تتواصل الخصخصة، وتنهب الأراضي، ويُسحق العمال في صمت.

إذا كان تيك توك وأخواته قد فُرضت كساحات استهلاك فردي لتبديد الطاقة الجماعية، فإن الرد الثوري لا يكون بالمقاطعة الأخلاقية وحدها، بل بتحويل هذه المساحات إلى جبهات دعاية وتنظيم من أجل الصراع الطبقي. التجربة اليونانية عام 2011 لم تكن مجرّد موجة رقمية، بل كانت امتدادًا لأرضية نضالية أعدّها الشيوعيون والنقابيون على مدى سنوات، فتمكّنوا من اجتياح الفضاء الرقمي بمضامين تحريضية وتعبوية، وحوّلوا الفيديوهات القصيرة إلى أدوات لاستنهاض العمال والطلاب، وألحقوا بها دعوات مباشرة للنزول إلى الشارع وتنظيم الإضرابات. هذا النجاح لم يكن نتاج مهارة تقنية فحسب، بل ثمرة وعي ماركسي يربط كل أداة اتصال بمهام الثورة، ويرى في كل "ترند" محتمل ساحة لفتح ثغرة في جدار الهيمنة البرجوازية. في السودان، لا سبيل لمواجهة تفريغ الوعي الذي تصنعه المنصات إلا بإقامة بُنى إعلامية جذرية، منضبطة برؤية تنظيمية تربط بين المحتوى والشكل والنزول إلى الشارع، وتكسر احتكار الخطاب بإغراقه بخطاب الطبقة العاملة، حتى تتحوّل أدوات الترويض نفسها إلى أسلحة ثورية.

المعركة على وعي الجماهير ليست خياراً يمكن تأجيله، وكل دقيقة نفقدها في مواجهة ماكينة التفاهة هي دقيقة تمنح العدو فرصة لترسيخ قبضته. فلنحوّل كل منصة وكل مساحة رقمية إلى موقع مقاومة، لا إلى سوق مفتوحة لمنتجات العدو.

كما قال تشي غيفارا: “الثائر الحقيقي مدفوع بحبٍ عظيم للإنسانية، ومن يحب الإنسانية لا يرضى لها أن تُسحق تحت ثقل التفاهة والفراغ”.

النضال مستمر،،



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثورة بين الشعارات والممارسة: تفنيد مزاعم التطبيع
- 30. نحو وعي نقابي طبقي جذري
- 29.الحياد النقابي: شعار فارغ لتصفية المعركة الطبقية
- 28. ترويض العمل النقابي عبر القوانين الدولية: وهم الحماية
- ماركسية بلا ماركس: تفكيك المنهج الزائف في خطاب تاج السر عثما ...
- 27. الماركسية ليست إصلاحًا: مراجعة نقدية لخطاب تاج السر عثما ...
- 26. من هندسة الانقسام إلى بناء التنظيم القاعدي
- 25. تحالف القامعين: كيف تواطأت قوى الهبوط الناعم مع قانون قم ...
- من صراع الطبقات إلى واقعية الترويض: سقوط النظرية في فخ التكي ...
- من -الطنين- إلى -الإنكار-: تفنيد ماركسي لمقال تاج السر عثمان
- 24. إتحاد فوقي: كيف يخدم النظام الأساسي قمع الطبقة العاملة
- 23. قانون تنظيم الاتحادات المهنية 2004: أداة السلطة لعزل الط ...
- 22. وثيقة بلا عمق ولا بوصلة: تفريغ للتاريخ الماركسي إلى سرد ...
- 21. البيروقراطية الخائنة: نقابة بلا طبقة، ووثيقة بلا ماركسية
- بين إنقلابين ووثيقة واحدة: الحزب الشيوعي خارج جبهة الوعي الث ...
- 20. صراع البرامج والطبقات: نقابة تابعة أم أداة تحرر؟
- 19. النقابة كجهاز في المنظومة الإمبريالية: وثيقة الحزب الشيو ...
- اللغة ليست نعناعًا: تفكيك ماركسي لبلاغة الامتياز في خطاب -دا ...
- كسلا التي لا ترد التحية: الحب كقهر طبقي في أغنية الحلنقي
- 18. من تنظيم الطبقة إلى طبقة التنظيم: انزلاق الوعي النقابي


المزيد.....




- ستوكهولم: محاضرة قانونية سياسية حول اتفاقية خور عبد الله للد ...
- ضغوط داخلية وانتقادات خارجية.. خطة نتنياهو أمام مجلس الامن
- وسائل إعلام صينية تؤكد أن رقائق (إتش20) المطورة من إنفيديا ا ...
- ألمانيا تقر تعديلا قانونيا لتعزيز مكافحة غسل الأموال
- -كنت شاهدا على مذابح الفرنسيين في مصر-
- قنبلة -ليتل بوي- السلاح النووي الذي دمر ثلثي هيروشيما
- شاهد.. محرز يزور تدريبات مانشستر سيتي ويحظى باستقبال مميز
- مارسيل خليفة يغني لغزة ولبنان في مهرجان صيدا
- تعرف على أسعار السلع الأساسية في غزة
- عاجل | نتنياهو: هدفنا نزع سلاح حماس وإنشاء إدارة مدنية غير إ ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - عماد حسب الرسول الطيب - من تفريغ الغضب إلى تصفية الوعي