عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8420 - 2025 / 7 / 31 - 04:55
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
وثيقة "تجربة الحزب الشيوعي السوداني في الحركة النقابية" هي مثال صارخ على الخواء المنهجي والتسطيح الطبقي، تُقدم تاريخًا "مجيدًا" من النضال النقابي للحزب، لكنها تفشل فشلاً ذريعاً في تحويل هذا التاريخ إلى أداة تحليل ماركسي ثوري. فهي رغم وفرة التفاصيل والتواريخ، لا تليق بحرارة الصراع الطبقي ولا بصرامة المنهج المادي الجدلي. إنها تُبرهن على فشل في تطبيق الماركسية كعلم للتحليل والتغيير، وتحولها إلى مجموعة من الحقائق التاريخية المجردة التي تفتقر إلى أي بوصلة ثورية تُوجه نضال الطبقة العاملة في ظروف السودان الراهنة التي تتسم بالانهيار الشامل، وتفكك البنية الإنتاجية، وهجوم الرأسمالية الطفيلية في شكل كارتيلات أمنية وتجارية مسلحة.
لا تطرح الوثيقة الأسئلة الجدلية الأساسية التي كان عليها أن تواجهها: كيف تتحول الذاكرة الطبقية من مادة أرشيفية إلى محرك فعلي للتنظيم؟ ما الشكل التنظيمي الذي يترجم التجربة التاريخية إلى طاقة صدام حالي؟ وما الموقع الفعلي للطبقة العاملة اليوم ضمن هذه الشروط المأزومة؟
تَحيد الوثيقة انحرافاً بيناً عن جوهر الماركسية، التي لا ترى في التجربة التاريخية مجرد وقائع تُروى، بل مادة خام لتفكيك التناقضات الطبقية الكامنة، ولاستنباط مهام المرحلة وفهم تحولات الواقع بوعي جدلي لا يسكن في الذاكرة بل يتحرك في صلب التغيير. فبدلاً من أن تبني الوثيقة جسراً جدلياً بين الماضي والحاضر، وتُعيد طرح السؤال الماركسي المحوري: لماذا فشلت الحركة النقابية في تحقيق أهدافها الثورية النهائية، بل وأصبحت في أوقات كثيرة خاضعة للتدجين؟ وما هي الشروط الطبقية لإعادة بنائها كأداة للتحرر الوطني والاجتماعي اليوم؟ نجدها تكتفي بتمجيد الماضي على طريقة وثائق الأرشيف، دون مساءلة حقيقية للخيارات التاريخية للحزب، ودون تقديم نموذج نضالي ماركسي يعيد وصل النقابة بسياق الثورة الدائمة الشاملة. أين النقاش حول أزمة التنظيم ذاته؟ ولماذا غاب السؤال: من يملك الذاكرة النقابية، ومن يوجّهها؟ هل التاريخ المدوّن يمثل الطبقة أم البيروقراطية؟
إن الوثيقة تتحرك ضمن منطق سردي تعليمي قائم على تخصيب المضمون التاريخي بالتواريخ والأسماء والمواقف، لكنها تفتقد كل إثارة للنقد الذاتي أو الإرادة في مهاجمة التناقضات الجوهرية. إنها ترى في التوثيق هدفاً في ذاته، لا أداة للوعي النضالي. ففي الفقرة التي تعلق على شعار الحزب "لا تحرير بلا تعمير"، تراها مجرد شعار مُتداول لتبرير الاستقلال الاقتصادي بعد الاستقلال السياسي، دون طرح كيف فشلت الدولة الوطنية في تجاوز تبعيتها الرأسمالية العميقة، أو كيف أثّرت الأطروحات التقسيمية لاحقًا في نقض الوحدة الطبقية، وكيف أدت هذه الأطروحات إلى إعادة إنتاج الهيمنة وتعميق التخلف. لا تُسائل الوثيقة مثلاً كيف أن هذا الشعار أُفرغ من مضمونه الثوري حين صار يُستخدم لتغطية مشاريع إصلاحية متصالحة مع السوق، عوضًا عن تعبئة الجماهير ضد الرأسمال العالمي وأدواته المحلية. أي مفهوم للتعمير لا يربطه بتغيير علاقات الإنتاج هو محض استهلاك أيديولوجي. كان من الواجب مساءلة التوظيف الطبقي لهذا الشعار، لا تبنّيه كمعلّق في الذاكرة.
يَغيب عن الوثيقة أي أطروحات برنامجية بديلة ذات عمق طبقي، فلا تقترح تصوراً لبناء نقابات جماهيرية من أسفل تُحطم هيمنة الدولة البرجوازية على العمل النقابي، ولا تصوغ رؤية ماركسية ثورية لمواجهة قوانين القمع النقابي. تتجاهل الوثيقة التناقض الصارخ بين ممارسة الحزب وتصوراته النظرية المعلنة. فبينما تُعلن أن الحزب "منذ تأسيسه ارتبط بنضال الحركة الوطنية ضد الاستعمار… واجتهد في ترسيخ ديمقراطية واستقلالية الحركة النقابية"، وهنا تحولت الإستقلالية لمُشاع تعبوي، لا لمفهوم نقدي حقيقي، فالوثيقة تقرّ بمشاركة الحزب في قرارات تأسيس الحركة النقابية، لكنها لا تسأل: لماذا بعد الاستقلال لم يتمكّن الحزب من بناء نقابات قادرة على مقاومة التدخل السلطوي بفعالية، بل أُجبرت على التكيُّف في أغلب الأحيان؟ أين النقاط العميقة من فشل الاتحاد الاقتصادي في مواجهة رأس المال الطفيلي والتبعية؟ ولماذا لم تنتج العلاقة بين الحزب والنقابة سوى المزيد من البيروقراطية بدلًا من خلق أدوات تنظيمية ثورية مستقلة؟ أين السؤال النظري حول التناقض الكامن بين منطق القيادة الحزبية ومنطق البناء الجماهيري الأفقي؟ وكيف تحولت النقابات إلى مكاتب تنسيق بدلاً من أن تبقى ساحات اشتباك طبقي؟
علاوة على ذلك، تُعرض مقولة: "دورة اللجنة المركزية في يناير 1954 لتحدد مفهوم النقابة … ليست منبرا حزبيا … تتخذ قراراتها بأغلبية عضويتها". المشكلة ليست في الموقف النظري بحد ذاته، بل في الخلط الفاضح بين الخطاب النظري والممارسة الواقعية. إذ بينما تُشدّد الوثيقة على مبدأ استقلالية القرار النقابي، فإنها لا تستدعي نقدَ المشاركة الفعلية للحزب في محطات لاحقة – خاصة حين دخل في شراكات سلطوية على حساب الاستقلال المجتمعي والطبقي للنقابات، مما أفرغ هذه المبادئ من محتواها الثوري. إن هذا التناقض ليس تفصيلاً، بل يكشف عمق الأزمة التنظيمية التي لم تُطرح يومًا ضمن تحليل ماركسي لنقد الحزب ذاته كأداة سلطة لا كأداة تحرر. وإذا كان "النضال النقابي ليس منبرًا حزبيًا"، فمتى بالضبط أصبح الحزب يعتبر النقابة امتدادًا تنظيميًا له؟ وأين تقف الوثيقة من هذا الانزياح؟
تحت عنوان "دور الحزب في بناء الحركة النقابية"، تقدم الوثيقة سرداً مرهقًا للفترات، من عمل "هيئة شؤون العمال" في عطبرة، إلى إضرابات السكة الحديد، ثم دعم الاتحاد العام، ثم مقاومة قانون 1960، وأخيرًا المشاركة في تحصيل القانون عام 1987. لكنها لا تفتح صيغ التحليل الجدلي، فتبرز الطبقة العاملة وكأنها مجرد متلقية لأوامر النضال، لا طاقة لها على استيعاب المشروع السياسي تحولًا، ولا دور لها في صياغته الفعالة. وتختفي تمامًا صيغ النقد الذاتي الجدلي مثل: ما العلاقة الجدلية الحقيقية بين الحركة الجماهيرية والقيادة الحزبية في كل مرحلة؟ كيف يمكن أن تظل النقابة "جبهة واسعة" بينما تقودها بنفس المنطق التنظيمي المركزي، الذي قد يقود إلى البيروقراطية؟ ما الثغرات النظرية والعملية التي سمحت للقوانين السلطوية في كل حقبة بإخراج الحركة من فعلها الثوري؟ وهل كان النموذج الذي طُبّق يعزز استقلال الجماهير، أم يعيد إنتاج الهيمنة باسم "القيادة التاريخية"؟ هل نوقشت تجربة لجان النقابات البديلة في فترات القمع؟ وهل تم تحليل لماذا بقيت هشّة؟ ما الذي يكبح ظهور نقابة ثورية بالفعل؟
لا يتم تناول طبيعة القمع الطبقي للدولة بشكل كافٍ، فالوثيقة تذكر فقط: "تدخل السلطة التنفيذية في النقابات … أعطت المسجل صلاحيات التدخل في الانتخابات النقابية … ربط النشاط النقابي بمشروعية أمن الدولة." لكن الوثيقة لا تذهب أبدًا إلى فهم الطبقة العاملة ككتلة قادرة على الاجتراح السياسي وعلى صياغة السياسات التضامنية المستقلة، بل تطرح دائما صيغًا بؤرية عن مواقف الحزب، بعيدًا عن أزمة الفعل الطبقي وتأطيره في سياق الثورة. إن غياب أي تحليل لمفهوم "نقابة المنشأة" بوصفه شكلًا قانونيًا للرأسمالية في منع التسييس الجماعي للعمال، يعكس عمق الانفصال بين الوثيقة والسؤال الماركسي الجوهري حول علاقة الشكل القانوني للنقابة بوظيفتها الطبقية. من يحدد شروط التمثيل النقابي؟ وما هو أثر الشكل القانوني في مصادرة التعددية الطبقية داخل المنشأة؟ وهل يمكن اعتبار "نقابة المنشأة" إلا أداة لنزع السلاح الطبقي من يد العمال؟
ولا تكتفي الوثيقة بإغفال التحليل الجدلي للعلاقة بين النقابة والدولة، بل تُمعن في تغييب القانون الأخطر الذي مثّل تتويجاً لهجمة الدولة الرأسمالية على التنظيمات النقابية: قانون الاتحادات المهنية لسنة 2004، الذي لم يكن مجرد تشريع سلطوي، بل تجسيداً مكثفاً لتحويل النقابة إلى ذراع بيروقراطي للنظام. القانون فصل بين العمل المهني والنقابي، وألغى التمثيل الجماهيري المباشر، وكرّس الهرمية والإقصاء، وأحكم قبضة جهاز الدولة عبر سيطرته على تسجيل النقابات وتحديد شروط تكوينها. ومع ذلك، تتجنب الوثيقة تناول هذا القانون، وكأنه لا ينتمي إلى التاريخ النضالي الذي تُسرد تفاصيله، وكأن مأسسة الإقصاء النقابي لم تكن حلقة جوهرية في تدمير استقلالية التنظيم. لا يُطرح السؤال الماركسي الأساسي هنا: هل التنظيم المهني، في ظل قانون كهذا، قادر على تجاوز بنيته الطبقية المُقيِّدة، أم أنه يصبح مجرد أداة لإعادة إنتاج الخضوع باسم "التنظيم"؟
إن الوثيقة بذلك لا تعكس قصورًا سرديًا فحسب، بل تعكس رؤية مصالحة مع البنية القانونية المهزومة، عوضًا عن مساءلتها ونسفها من الجذر. أليس المطلوب هو بناء نقابة لا تعترف بشرعية القانون الطبقي، بل تنقضه من داخله باسم الشرعية الجماهيرية؟
النقطة الجدلية الحقيقية الحاضرة كغياب تام هي أن الوطن كله مسرحٌ للصراع الطبقي، حيث تتبدّى إمكانات الإضراب السياسي العام والعصيان المدني كتعبير عن التنكيل بالاستقلال النقابي وتعطيل القوانين القمعية. الوثيقة، بينما تذكر: "واصل المقاومة حتى إسقاط النظام … تمّ طرح شعار الانتفاضة الشعبية والإضراب السياسي العام والعصيان المدني"، لكنها لا تناقش أبدًا كيف يمكن للعامل أن يعيد صياغة النقابة كوحدة قاعدية عابرة لكل التوصيفات القانونية والإدارية. أين النقد الماركسي العميق لـ"نقابة المنشأة" كآلية قمعية للرأسمالية، وكيف صارت النقابة الفئوية ضرورة ثورية، وفق رؤية الجبهة الجماهيرية المتجددة؟ بل وأين التعامل مع لحظة ما بعد الثورة، حيث لجان المقاومة نفسها طرحت بدائل تنظيمية نقابية غير خاضعة لمنطق المسجل أو الدولة، وهو ما تجاهلته الوثيقة وكأنه غير موجود. هل يمكن الوثوق بنقابة تُفرزها شروط السيطرة القانونية ذاتها؟ أم أن التنظيم من القاعدة هو التعبير السياسي الأعلى عن التمرد الطبقي ضد شكل الدولة القائم؟
إن غياب الحجج عن: نقد انخراط الحزب في تحالفات سلطوية بعد 2018، التناقض بين خطاب استعادة النقابات من قواعدها وبين انغماس الحزب في السيطرة المركزية؛ والدور الحيوي للجان المقاومة والنقابات القاعدية في اللحظة الراهنة، كل هذا يجعل الوثيقة مشروعًا لتدجين الرغبة الوطنية الماركسية داخل نفس المصطلحات النظامية القديمة. إنها بلا قدرة على طرح خارطة طريق تتعامل مع انهيار المؤسسات الرسمية، وولادة بدائل جماهيرية حقيقية من رحم الصراع. وهذا لا يقاس بالحفظ أو التذكر أو بإحصاء القوانين، بل بإعادة صياغة السؤال الماركسي المركزي: ما هي شروط التحول من حركة نقابية تُدجّن إلى حركة سياسية ثورية حقيقية قادرة على إسقاط النظام الرأسمالي؟ وما الموقع التاريخي للماركسية اليوم في لحظة سودانية مشبعة بالأزمات الوجودية، لا يمكن للخطابات العتيقة أن تستوعبها؟ من يطرح السؤال هو من يستعد للفعل، ومن يتهرب من طرحه يسير في ركاب الدولة حتى لو ارتدى عباءة الثورة.
"إن المبادئ النظرية للشيوعيين ليست بأي حال من الأحوال مرتكزة على أفكار أو مبادئ اخترعها أو اكتشفها هذا المصلح الكوني أو ذاك. إنها مجرد تعبير عام عن العلاقات الحقيقية لصراع طبقي قائم، حركة تاريخية تجري تحت أعيننا."
كارل ماركس وفريدريك إنجلز
"كل طبقة ثورية، في اللحظة التي تسيطر فيها، تضطر إلى أن تصوغ مصالحها كأنها المصلحة العامة."
كارل ماركس
"على النقابات ألا تكتفي بصراعها اليومي مع الرأسماليين، بل أن تتعلم كيف تصبح مدارس لحرب الثورة الطبقية."
فلاديمير إليتش لينين
"إن جهاز الدولة ليس أداة حيادية. من يملكه يملك إمكانية سحق الآخر."
روزا لوكسمبورغ
"ما دام الشكل القانوني للحرية هو نفسه أداة سيطرة، فإن تحرر العمال لا يتم عبر القانون، بل ضده."
أنطونيو غرامشي
"الحزب الذي يتوقف عن نقد نفسه، يتوقف عن كونه ثورياً."
ليون تروتسكي
"أن نُسائل التاريخ لا يعني أن نستعيده، بل أن نستخدمه كأداة لتحطيم الحاضر."
فالتر بنيامين
"إن الرأسمالية لا تكتفي بقمع النقابة، بل تعيد تشكيلها كأداة للقمع."
جيرار دمرجيان
"إن البيروقراطية تتغذى من الغموض، وتعيش من غياب القاعدة."
كورنيليوس كاستورياديس
"علينا أن نُحرر النقابة من شكلها القائم كما نحرر العمال من شروطهم الحالية. التنظيم ليس شكلًا محايدًا، بل هو مسألة سلطة."
أنتونيو نغري
"التاريخ لا يُكتب من فوق، بل يُنتزع من الأسفل، من الأيدي الملطخة بالعرق، لا بالحبر."
هوغو تشافيز
"كل ما هو قانوني في ظل الرأسمالية هو مؤامرة على الطبقة العاملة."
إرنستو تشي غيفارا
"إننا لا نحتاج إلى نقابة تدير غضبنا، بل إلى نقابة تنظمه."
سلافوي جيجيك
"حين يُكتب التاريخ من موقع الحياد، يُطمس فيه العنف الطبقي لصالح سرديات الصلح الزائف."
جورج لوكاش
"الذاكرة دون صراع تتحول إلى متحف، أما مع الصراع فهي تتحول إلى خندق."
مايكل لووي
غدا محور جديد عن النقابات في السودان – من أدوات الترويض إلى جبهات الثورة.
النضال مستمر،،
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟