عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8417 - 2025 / 7 / 28 - 04:47
المحور:
الادب والفن
نزار قباني يكتب من موقع الامتياز. نصه عن "دارنا الدمشقية" خطاب طبقي مغلّف ببلاغة الحنين، ينتج مشهدًا شعريًا مشبعًا بالأيديولوجيا البرجوازية. هذه اللغة التي تتغزّل بـ"المظلة" وتتماهى مع "الرطوبة" والنوافير، تصوغ الجمال كحالة فردية معزولة عن شروطه المادية والتاريخية. البيت الدمشقي بنية سلطة ثقافية، نتاج اقتصاد امتيازي لا يدخل إليه المهمشون.
المكان الذي يصفه قباني استعارة برجوازية لدمشق. إنها دمشق من نافذة الأرستقراطية، من زقاق المكتظين. البيت المليء بالأصوات والزهور والقطط والأحواض لا يحمل أثرًا لفقر أو تعب أو قلق وجودي. لا وجود لفعل الإنتاج، فقط استهلاك للجمال. الفلاح الذي زرع الفل، والعامل الذي شيّد القوس الرخامي، والمرأة التي حملت الماء لسنوات كي تستمر لعبة النافورة، غائبون. النص يُقصي حضورهم، وظيفته تلميع الذاكرة لا مساءلتها.
نزار يكتب من داخل "القصيدة المكيفة". اختياره للموشح الأندلسي كنموذج شعري يحتفي بالإيقاع ويعيد إنتاج خطاب التجميل النخبوي الذي يفصل الشعر عن شروطه الطبقية. الأندلس تتحول إلى قاعة مكيّفة يستحم فيها الشعر في بركة من الرطوبة. هذا التفسير يُفرغ الموشحات من توتراتها المادية، ويجعل الشعر ترفًا ناعمًا، وينقل الشعر من موقع التعبير الطبقي إلى صالة أرستقراطية مزوّدة بالزهور والماء.
اللغة التي "تتغلغل في مفاصل كلماته" لغة امتياز، لغة الطفل الذي يتعثر بجناح حمامة. إنها لغة وُلدت في صحن دار معطر ومحاط بالنباتات المدلّلة، ليست لغة مخيم أو زقاق. لغة بُنيت في حديقة طبقية محروسة برأسمال ثقافي وعاطفي، لغة تُجمل وتُروي، وتُحلّي المكان لتفرغه من حقيقته.
نزار يكتب من بيت لا يحتاج إلى الخروج منه. هذا الاكتفاء رفضٌ للشارع، للمقهى، للضجيج. المقهى لا يصلح لولادة النص، النص بالنسبة له فعل صفاء. هذا التوصيف يُقصي العامة ويحتكر طهارة التعبير داخل فضاء أرستقراطي منزلي. الكتابة تُختزل إلى طقس داخلي، أداة تغيير. لا مكان للفوضى، أو الاحتكاك، أو المعاناة، في بيت مغمور بالفل والياسمين.
هذا النص يُعيد ترتيب الواقع ليصير بطاقة بريدية. دمشق تتحول إلى مشهد زينة يسافر في حقيبة دبلوماسية. لا قهر في الصورة، لا حواجز، لا هوامش. المدينة تختصر في "المظلة"، واللغة تُطوى داخل شرشف نظيف. نزار ينقل دمشق ككولونيا تُرش على ياقة القصيدة. الخطاب يُنعّم حواف التناقضات ليجعلها قابلة للحفظ في الذاكرة، للفعل في التاريخ.
هذا النمط من الكتابة، وإن بدا حميميًا، يمارس أقسى أشكال الإقصاء الرمزي. يجمّل القهر بلغة التذكار ويُفرغ النص من وظيفته الثورية، ويصوّر الامتياز قدرًا لغويًا، بنية قابلة للتفكيك. الخطاب يُقلق السائد، ويُؤكده. يصرخ، يهمس. يهدم، يزيّن.
الشعر الذي يُخرج المهمشين من صمتهم شعر مكتوب من داخل السلطة. اللغة التي تهدد علاقات الملكية لغة مطواعة. ما يكتبه نزار هنا بلاغة الاستحواذ. البيت الدمشقي مكانًا طبقيًا ناعمًا، مشبعًا برائحة الامتياز المغسول بعطر.
الشعر يُكتب من داخل الانفجار، من تحت القباب المزخرفة. يُصاغ من دم العامل، من رطوبة البلاط البارد. يُربّى في بركة الصراخ، في حوض السمك الزجاجي. من هذه المسافة يجب أن نقرأ نزار: شاعر التجميل، شاعر الذوق، شاعر البلاغة.
"الكلمات لا تسكن في القواميس، بل في الشوارع، ولا تولد من الوحي، بل من القهر"
النضال مستمر،،
كتب: نزار قباني
أعد كتابته عن مجمل نص نزار
دارنا الدمشقية..نزار قباني
هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة.
إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ، ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر.. وإنما أظلم دارنا.
والذين سكنوا دمشق، وتغلغلوا في حاراتها وزواريبها الضيقة، يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون...
بوابة صغيرة من الخشب تنفتح. ويبدأ الإسراء على الأخضر، والأحمر، والليلكي، وتبدو سمفونية الضوء والظل والرخام.
شجرة النارنج تحتضن ثمارها، والدالية حامل، والياسمينة ولدت ألف قمر أبيض وعلقتهم على قضبان النوافذ.. وأسراب السنونو لا تصطاف إلا عندنا..
أسود الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمها بالماء.. وتنفخه.. وتستمر اللعبة المائية ليلاً ونهاراً..لا النوافير تتعب.. ولا ماء دمشق ينتهي..
الورد البلدي سجاد أحمر ممدود تحت أقدامك.. والليلكة تمشط شعرها البنفسجي، والشمشير، والخبيزة، والشاب الظريف، والمنثور، والريحان، والأضاليا.. وألوف النباتات الدمشقية التي أتذكر ألوانها ولا أتذكر أسمائها.. لا تزال تتسلق على أصابعي كلما أردت أن أكتب..
القطط الشامية النظيفة الممتلئة صحةً ونضارة تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس غزلها ورومانتيكيتها بحرية مطلقة، وحين تعود بعد هجر الحبيب ومعها قطيع من صغارها ستجد من يستقبلها ويطعمها ويكفكف دموعها..
الأدراج الرخامية تصعد.. وتصعد.. على كيفها.. والحمائم تهاجر وترجع على كيفها.. لا أحد يسألها ماذا تفعل؟ والسمك الأحمر يسبح على كيفه.. ولا أحد يسأله إلى أين؟
وعشرون صحيفة في صحن الدار هي كل ثروة أمي.
كل زر فلٍ عندها يسلوي صبياً من أولادها.. لذاك كلما غافلناها وسرقنا ولداً من أولادها.. بكت..وشكتنا إلى الله..
---
ضمن نطاق هذا الحزام الأخضر.. ولدت، وحبوت، ونطقت كلماتي الأولى.
كان اصطدامي بالجمال قدراً يومياً. كنت إذا تعثرت أتعثر بجناح حمامة.. وإذا سقطت أسقط على حضن وردة..
هذا البيت الدمشقي الجميل استحوذ على كل مشاعري وأفقدني شهية الخروج إلى الزقاق.. كما يفعل الصبيات في كل الحارات.. ومن هنا نشأ عندي هذا الحس (البيتوتي) الذي رافقني في كل مراحل حياتي.
إنني أشعر حتى اليوم بنوع من الإكتفاء الذاتي، يجعل التسكع على أرصفة الشوارع، واصطياد الذباب في المقاهي المكتظة بالرجال، عملاً ترفضه طبيعتي.
وإذا كان نصف أدباء العالم قد تخرج من أكاديمية المقاهي، فإنني لم أكن من متخرجيها.
لقد كنت أؤمن أن العمل الأدبي عمل من أعمال العبادة، له طقوسه ومراسمه وطهارته، وكان من الصعب عليّ أن أفهم كيف يمكن أن يخرج الأدب الجاد من نرابيش النراجيل، وطقطقة أحجار النرد..
---
طفولتي قضيتها تحت (مظلة الفي والرطوبة) التي هي بيتنا العتيق في (مئذنة الشحم).
كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندي، كان الصديق، والواحة، والمشتى، والمصيف..
أستطيع الآن، أن أغمض عيني وأعد مسامير أبوابه، وأستعيد آيات القرآن المحفورة على خشب قاعاته.
أستطيع الآن أن أعد بلاطاته واحدةً.. واحدة.. وأسماك بركته واحدةً.. واحدة.. وسلالمه الرخامية درجةً.. درجة..
أستطيع أن أغمض عيني، وأستعيد، بعد ثلاثين سنة مجلس أبي في صحن الدار، وأمامه فنجان قهوته، ومنقله، وعلبة تبغه، وجريدته.. وعلى صفحات الجريدة تساقط كل خمس دقائق زهرة ياسمين بيضاء.. كأنها رسالة حب قادمة من السماء..
على السجادة الفارسية الممدودة على بلاط الدار ذاكرت دروسي، وكتبت فروضي، وحفظت قصائد عمر بن كلثوم، وزهير، والنابغة الذبياني، وطرفة بن العبد..
هذا البيت المظلة ترك بصماته واضحة على شعري. تماماً كما تركت غرناطة وقرطبة وإشبيليا بصماتها على الشعر الأندلسي.
القصيدة العربية عندما وصلت إلى إسبانيا كانت مغطاةً بقشرة كثيفة من الغبار الصحراوي.. وحين دخلت منطقة الماء والبرودة في جبال (سييرا نيفادا) وشواطئ نهر الوادي الكبير..
وتغلغلت في بساتين الزيتون وكروم العنب في سهول قرطبة، خلعت ملابسها وألقت نفسها في الماء.. ومن هذا الاصطدام التاريخي بين الظمأ والري.. ولد الشعر الأندلسي..
هذا هو تفسيري الوحيد لهذا الانقلاب الجذري في القصيدة العربية حين سافرت إلى إسبانيا في القرن السابع.
إنها بكل بساطة دخلت إلى قاعة مكيفة الهواء..
والموشحات الأندلسية ليست سوى (قصائد مكيفة الهواء)..
وكما حدث للقصيدة العربية في إسبانيا حدث لي، امتلأت طفولتي رطوبة، وامتلأت دفاتري رطوبة، وامتلأت أبجديتي رطوبة..
هذه اللغة الشامية التي تتغلغل في مفاصل كلماتي، تعلمتها في البيت المظلة الذي حدثتكم عنه..
ولقد سافرت كثيراً بعد ذلك، وابتعدت عن دمشق موظفاً في السلك الديبلوماسي نحو عشرين عاماً وتعلمت لغاتًا كثيرة أخرى، إلا أن أبجديتي الدمشقية ظلت متمسكة بأصابعي وحنجرتي، وثيابي. وظللت ذلك الطفل الذي يحمل في حقيبته كل ما في أحواض دمشق، من نعناعٍ، وفل، وورد بلدي..
إلى كل فنادق العالم التي دخلتها.. حملت معي دمشق، ونمت معها على سريرٍ واحد.
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟