عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8442 - 2025 / 8 / 22 - 23:12
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
الجزء الأول: تحليل آليات الهيمنة الطبقية على الخطاب والجغرافيا
اللغة والكلمات هي جزء من حراك الثورة، فإذا كان الرصاص يفتح الثغرات في جدار السلطة، فإن اللغة تفتح الثغرات في وعي الجماهير. غير أن الطبقة السائدة لا تترك الكلمات بلا حراسة، بل تنشئ جهازًا مؤسسيًا متكاملًا يحتكر الخطاب، يصوغ المعاني، ويحدد القاموس المسموح به. هذا الجهاز لا يعمل في فراغ، بل يعيد إنتاج نفسه كل يوم عبر الإعلام والتعليم والدين والثقافة، فيحاصر الجماهير من جهتي الزمان والمكان.
في السودان اليوم، نرى ذلك بوضوح في خطابات بعض المثقفين الذين يصفون الصراع الدائر بأنه "حرب موارد" أو "نزاع قبائل"، بينما يتجاهلون أن جوهره هو صراع طبقي بين من يملكون وسائل الإنتاج ومن لا يملكون سوى قوة عملهم، هذه اللغة ليست محايدة؛ إنها أداة لتبرير استمرار الهيمنة، وهي تشكل جزءاً من آلة إيديولوجية تعمل على طمس الحقائق الطبقية وتحويل الصراع من صراع ضد النظام الاستغلالي إلى نزاعات جانبية تخدم أصحاب المصالح.
تبدأ الهيمنة من البوابة المؤسسية: تحرير الصحف الحزبية، إدارة المنصات، اختيار المحررين والكتّاب، ضبط معايير النشر، تحويل القنوات الإعلامية إلى مصفاة طبقية لا تعبر إلا ما يوافق ذائقة الطبقة الوسطى المتعلمة، هكذا يصبح المنبر الجماهيري ناطقاً باسم نخبة ضيقة، وتُستبدل لغة النضال بلغة المكاتب، حيث تتحول الثورة من حركة جماهيرية إلى نقاشات صالونات مغلقة.
هذه الهيمنة لا تقتصر على الأدوات التقليدية، بل تمتد إلى التقنيات الحديثة، حيث تساهم خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي في تفضيل المحتوى "المهندس" بلغة النخبة على حساب الأصوات العمالية والفلاحية المباشرة.
في السودان، تَمثّل ذلك في صحف ومواقع يسارية تكتظ بمقالات طويلة مُحَمّلة بالمصطلحات، تُكتب لكي يقرأها قلائل ويُستشهد بها في الندوات، لا لكي تُتلى في الورش، ولا لكي تُفهم في الورديات، ولا لكي تتحول إلى لافتة في المصنع أو إلى هتاف في الميدان، هذه الظاهرة تتكرر في معظم البلدان العربية، حيث تتحول المنابر الثورية إلى نوادٍ نخبوية، وتفقد صلتها العضوية بجماهيرها التي من المفترض أنها تخاطبها وتمثلها. في المقابل، نجد أن بعض الحركات الثورية في مناطق أخرى، مثل الحركات الفلاحية في الهند، نجحت في تطوير صحافة شعبية ووسائل اتصال رقمية بسيطة بلغات محلية متعددة لتجاوز هذه النخبوية، وهو ما يؤكد أن درجة هذه الهيمنة وتجلياتها تختلف من حزب لآخر ومن سياق لآخر.
يترافق الاحتكار المؤسسي مع احتكار لغوي: تُحوَّل الماركسية إلى "علم مغلق"، وتتحول مفاهيمها إلى طلاسم، تُستورد قاموسية غائمة—"الابستمولوجيا"، "الانزياحية"، "ما بعد الكولونيالية"—لتزيح لغة "الأجر"، "الفائض"، "الاستغلال"، "الإضراب" و"تحطيم الدولة"، ما كان أداة تفكيك للعالم يصبح شفرة نخبوية تحرس نفسها بنفسها، ويُستخدم التعقيد اللغوي كسياج يمنع الجماهير من امتلاك أدوات التحليل النظري.
ويأتي الاحتكار الرمزي ليكمل الحلقة: تُفصل الرموز الثورية عن سياقها الطبقي وتُصقل لتلائم واجهات الصالونات، يتحول تشي غيفارا إلى تيشيرت، وغرامشي إلى بورتريه حزين في أمسية ثقافية، الشعار الذي صيغ ليقود العمال إلى المصانع والميادين يُعاد تدويره لقيادة المستمعين إلى تصفيق مهذب، فتتم عملية إفراغ الرموز من مضمونها الطبقي وتحويلها إلى مجرد ديكورات ثقافية.
لقد رأينا ذلك حين تحولت أغنية المقاومة نفسها إلى سلعة تُباع في منصات تجارية، وحين صار الشعار الجماهيري الذي كُتب بدماء الشهداء يُستخدم في حملات تسويقية لمنظمات مرتبطة بالتمويل الدولي، هنا يتجلى كيف تنتزع البرجوازية الصغيرة الخطاب من جذره الجماهيري لتعيد تسويقه منزوع المخالب، وهكذا تتحول الدماء إلى ديكور، والهتاف إلى بضاعة، والرمز إلى ماركة مسجلة في سوق المنظمات، حيث تفقد الثورة حدتها وتتحول إلى مجرد منتج استهلاكي.
من هنا يبدأ التحريف الممنهج للمضامين، في أمريكا اللاتينية انزلقت شعارات "التغيير الجذري" إلى "الإصلاح الديمقراطي"، فتُركت بنية السلطة واقفة بينما تغيّرت الوجوه، وفي السودان تُرجم "تغيير النظام" إلى ترتيب مقاعد في نفس الدولة، لا إلى صراع لإسقاط جهازها الطبقي، فأصبحت الثورة مجرد عملية تداول سلطوي ضمن نفس البنية القائمة.
تتحول مفردة "الصراع الطبقي" إلى مفردات "التوافق" و"الحوار الوطني" و"المواطنة" بوصفها سقفاً نهائياً لا خطوة تكتيكية، ما كان موعداً مع السلطة يصبح موعداً على منصة، تُدار التناقضات الحادة كخلافات عائلية يُفصل فيها حكماء الصالونات، فتتم إعادة إنتاج النظام تحت شعارات التغيير.
تُسحب القضايا "المقبولة" إلى الصدارة: البيئة بلا ذكر للمناجم التي تقتل العمّال، الجندر بلا ذكر لساعات العمل المزدوجة والمطاردة في خطوط الإنتاج، الحريات الفردية بلا ذكر لحرية التنظيم والإضراب، تُعزل القضايا عن شروطها المادية لتدخل قاعات الممولين بلا ضجيج، فتصبح هذه القضايا مجرد بطاقات دخول إلى صالونات التمويل الدولي.
هكذا يُعاد تشكيل الحزب نفسه: خطاب أقرب إلى قاعة محاضرة من بيان إضراب، نبرة تَستعرض ولا تُعبّئ، لغة تُطمئن لا تُهدّد، العامل في خطوط "جياد" أو الفلاح في كردفان لا يجد اسمه ولا همّه ولا يومه في هذا الكلام، فيدير ظهره، لا لأن وعيه "قاصر"، بل لأن اللغة خانته، ولأن الخطاب لم يعد يعبر عنه أو عن واقعه.
حين تغيب مفردات الصراع، تغيب الاستراتيجيا، ما لا يُقال لا يُفعل، ما لا يُسمّى لا يُستهدف، في موجات يسارية عربية عديدة، مسح اختفاء "الاستيلاء على السلطة" من القاموس أي أفق لتحطيم الدولة البرجوازية، واكتفت الأحزاب بتمارين الضغط الأخلاقي، مما أفقدها القدرة على قيادة التغيير الحقيقي.
وتتسرب النخبوية إلى العلاقات الداخلية: مثقف برجوازي صغير يوزع شهادات الصلاحية الفكرية ويمنح صكوك الكلام، وعضو عامل يُستدعى لسمع "محاضرة توعوية"، هذه العلاقة تعيد إنتاج تبعية داخل الحزب تحاكي تبعية المصنع، وتُعطل إمكان ولادة مثقفين عضويين من قلب الطبقة، مما يحول الحزب من أداة تحرر إلى أداة هيمنة جديدة.
لا يحدث كل ذلك في الفراغ، التمويل ينسج سقف اللغة ويحدد مفرداتها، تُغدق الأموال على الكتب الثقيلة والندوات الفندقية والدورات التي يُدعى لها "خبراء"، بينما تُجفف الصحف الجدارية، وحلقات التثقيف في الأحياء، وميزانيات الورش، وأجور المنظمين الميدانيين، يصبح الخطاب سلعة: كلما زادت هندسته اللفظية زادت مقبوليته في سوق المنح، فيتحول النشاط الثوري إلى سوق تتنافس فيه الخطابات على الجوائز والتمويل.
هذه الآليات نفسها تعمل في احتكار الجغرافيا، فكما تُحتكر الكلمات، يُحتكر المكان، يتركز النشاط الحزبي في العواصم والمدن الكبرى، بينما يُهمش الريف الذي يُنتج الثروة ويُستَغل أبناؤه، تُقام الندوات في قاعات فنادق الخرطوم والقاهرة وتونس، بينما تفتقر القرى والأرياف لأبسط أشكال التنظيم، مما يعكس فصلًا جغرافيًا يوازي الفصل الطبقي.
هذا التمركز الحضري ليس بريئاً، بل يعكس أولويات طبقية، فالبرجوازية الصغيرة الحضرية تفضل العمل في بيئة مألوفة، مع أن الريف هو حيث تتجلى أشد أشكال الاستغلال، وحيث يمكن للثورة أن تجد وقودها الحقيقي، إهمال الريف يعني إهمال أغلبية الشعب الساحقة في معظم البلدان العربية، وتخلياً عن القاعدة الجماهيرية الأوسع للثورة.
في السودان، نرى كيف تُهمش مناطق كردفان ودارفور والجزيرة، رغم أنها سلة الغذاء ومصدر الثروة، في مصر، يُترك الفلاحون لمصيرهم في وجه استغلال كبار الملاك والشركات الرأسمالية، في المغرب وتونس، تتركز الأحزاب اليسارية في المدن الساحلية بينما تُهمش المناطق الداخلية، مما يكرس التهميش المزدوج للريف ولقضاياه.
هذا الإقصاء الجغرافي له آثار سياسية خطيرة، فبدلاً من بناء تحالف عمالي-فلاحي، تتحول الأحزاب إلى نوادٍ حضرية تناقش قضايا النخبة، بدلاً من تنظيم الفلاحين ضد الإقطاع والرأسمالية الزراعية، تُختزل القضية الفلاحية في ندوات عن "التنمية الريفية"، مما يفقد الثورة تحالفها الاستراتيجي الرئيسي.
التمويل أيضاً يلعب دوراً هنا، حيث توجه معظم المنح إلى مشاريع في المدن، وتُهمل المشاريع الريفية الأصعب والأكثر تحدياً، يصبح من الأسهل تنظيم ندوة في فندق عن "تمكين المرأة" بدلاً من تنظيم نساء الريف ضد استغلال الشركات الزراعية، فيتحول التمويل من أداة دعم للنضال إلى أداة لتحريف مساره.
إن المعركة على الخطاب ليست مسألة "نظرية" مجردة، الكلمات تحدد من يقود ومن يُقاد، من يُرى ومن يُمحى، ومن يربح معركة الكلمات يفتح الطريق لربح معركة السلطة، لذلك، فإن التنازل هنا ليس مجرد خطأ بل خيانة لدماء الشهداء، وتخلياً عن أهم أسلحة الثورة.
غدا الجزء الثاني.
النضال مستمر،،
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟