عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8442 - 2025 / 8 / 22 - 11:34
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
من يدفع للزمار يحدد النغمة. هذه المقولة البليغة تختزل قانوناً طبقياً صارماً: فمن يتحكم في خزينة الحزب يتحكم في قراره، ويوجه سياسته، ويشكل هويته. الخزينة الحزبية ليست سجلاً محايداً للمدخلات والمخرجات، بل هي مرآة عاكسة للبنية الطبقية الكامنة، ووثيقة تكشف عن هوية السيد الحقيقي للتنظيم. فالسؤال المصيري ليس عن حجم الموارد المادية، بل عن مصدرها واتجاه تدفقها: أي أيادٍ تملأ الخزينة؟ وبأي ثمن سياسي وطبقي؟ وكيف تشتري هذه الأموال الضمير الثوري للحزب، ثم تعيد تشكيله تدريجياً ليصبح نسخة طبق الأصل عن مموليه؟
كل قرش يدخل خزينة الحزب يحمل بصمة طبقية واضحة، ويشير إلى من يملك القوة الحقيقية داخل التنظيم. الاشتراكات العضوية للعمال، على الرغم من قيمتها الرمزية الكبيرة، غالبًا ما تكون محدودة الحجم المادي. هذه الضآلة المالية ليست مجرد مسألة تقنية، بل هي عَرَض لضعف التواجد البروليتاري العضوي. العامل الذي يناضل يوميًا لتأمين قوت أسرته لا يستطيع سوى المساهمة برمزية مالية، مما يترك الساحة فارغة أمام من يملك فائضًا ماليًا لشراء النفوذ والتأثير.
تبرعات "أصدقاء الحزب" تمثل القلب النابض للإشكالية. هؤلاء "الأصدقاء" هم غالبًا برجوازيون صغار: محامون، أطباء، أكاديميون، أو برجوازيون ليبراليون يبحثون عن واجهة "تقدمية" تغسل صورة استغلالهم. تبرعاتهم ليست تضامنًا نقيًا، بل هي استثمار سياسي مدروس. إنها القنطرة التي تعبر عبرها مصالح طبقتهم وتصوراتهم الإصلاحية إلى داخل جسم الحزب، حاملة معها ثمنًا خفيًا: "لا تزعجوا استقرارنا، لا تهددوا مصالحنا".
التمويل الخارجي يمثل القيد الذهبي الحديث الذي يكبّل الأحزاب الثورية. منح مؤسسات "دعم الديمقراطية" الغربية أو "هبات" من أحزاب أجنبية توجه عمل الحزب كما يوجه الراعي قطيعه. فجأة، تتحول "القدرة على كتابة التقارير بلغة المانح" إلى مهارة قيادية، وتصبح ورش عمل "بناء القدرات" بديلاً عن تنظيم الإضرابات، وتتحول قضية التحرر الجذري إلى مشروع "حوكمة" و"إدارة تنموية" يخدم في النهاية اندماج النخبة التابعة في النظام الرأسمالي العالمي. هذا ما حدث مرارًا مع بعض الأحزاب الشيوعية في إفريقيا وآسيا التي اعتمدت على المنح الغربية أو السوفييتية: ففي الأولى تحولت إلى أذرع إصلاحية ليبرالية، وفي الثانية صارت رهينة لسياسات الكرملين، بعيدة عن استقلالية قرار الطبقة العاملة المحلية.
اقتصاد السوق الصغير داخل الحزب، من بيع المنشورات إلى إقامة الحفلات لجمع التبرعات، يحول النشاط الثوري إلى نشاط تسويقي. يتم مكافأة من يجمع الأموال وليس من ينظم المقاومة ويقود النضالات، مما يعزز قيادة "رجال المبيعات" و"جالبي التبرعات" على حساب قيادة "منظمي الجماهير" و"قادة المعارك الطبقية".
المال يشتري الهيكل التنظيمي نفسه عبر آليات دقيقة ومعقدة. الاحتكار الوظيفي للعمل الحزبي يظهر مع بروز طبقة من "المحترفين الحزبيين" الذين تحولت الثورة عندهم من رسالة إلى وظيفة. هؤلاء الكوادر، المنحدرون غالبًا من خلفيات برجوازية صغيرة، يصبحون حريصين على "إدارة" الصراع بدلاً من تصعيده، خائفين من أي مواجهة جذرية قد تعرض "مكاسبهم" الوظيفية للخطر. إن مصلحتهم المادية المباشرة في الحفاظ على الوضع القائم تفوق التزامهم النظري بالثورة.
الرقابة عبر الميزانية تمثل أداة قمع ناعمة لكنها فعالة. تُوجه الأموال بوفرة نحو الندوات الفاخرة وإصدار المجلات وحملات التواصل الاجتماعي التي تخاطب النخبة، بينما يهمل العمل النقابي والعمل في الأحياء العمالية بحجة "عدم وجود ميزانية". وهكذا، يتم تجويع التيار البروليتاري داخلياً وإخماده دون حاجة إلى قرارات صريحة. وكما قال غرامشي: "الهيمنة ليست مجرد سيطرة مباشرة، بل هيمنة على ما يمكن التفكير فيه وما يمكن فعله." وهنا يصبح المال أداة لتحديد سقف الممكن داخل الحزب دون إعلان صريح.
شبكة الامتنان غير المرئية تخلق دوائر ولاء غير مكتوبة لكنها قوية التأثير. يصبح من العسير على القيادة أن تواجه نقدًا لاذعًا للمانح الكبير، أو أن تتبنى سياسة جذرية تصطدم بمصالح الطبقة التي تمولها. يصبح "الاعتدال" و"الواقعية" شروطًا غير مكتوبة للتمويل المستمر، وشروطًا خفية للبقاء في مواقع القيادة.
آلية الصفقة والابتزاز المالي تعمل كأداة ضغط مباشرة ومكشوفة أحيانًا. يُقدَّم الدعم المالي بشكل مشروط، بشكل صريح في بعض الأحيان ("نحن ندعم مشروع التوعية الانتخابية، وليس مشروع تنظيم العمال") أو بشكل ضمني عبر توجيه الأموال لأنشطة "مقبولة" و"غير مثيرة للجدل". هذه الآلية تحول المانح من داعم إلى شريك غير رسمي في صنع القرار، ومن متبرع إلى متحكم.
تحت وطأة هذه الهيمنة المالية، يحدث تحول كارثي في الجوهر والهوية. النضال يتحول من حركة جماهيرية إلى "مشروع" له موازنة ومؤشرات أداء. يُختزل الحلم الثوري إلى "خطة عمل" ذات "مؤشرات أداء" قابلة للقياس الكمي: عدد النشطاء المُدرَبين، عدد التقارير المنشورة، وعدد ورش العمل المعقودة. تصبح الغاية هي تنفيذ المشروع بنجاح والحصول على التمويل للجولة القادمة، وليس قلب موازين القوى الطبقية.
الثورة تتحول من هدف استراتيجي إلى "علامة تجارية" تُسوَّق في سوق الأفكار. يُسوَّق الخطاب الثوري ليصبح "منتجًا" جذابًا للممولين والمناصرين من الطبقات الوسطى. يتم تنميق الشعارات وتفريغها من مضمونها الطبقي المقلق، وتصفيها من عنفها الثوري، لتصبح صالحة للاستهلاك في صالونات البرجوازية الصغيرة وقاعات المؤتمرات الفاخرة.
السعي للشرعية يتحول من تكتيك إلى غاية استراتيجية. الهدف الأسمى يصبح ليس الاستيلاء على السلطة، بل كسب "الاعتراف" و"المصداقية" و"الشرعية" من قبل المؤسسات الدولية والنخب المحلية. يصبح الحزب يسعى لأن يكون "شريكًا" في الحوار، و"لاعبًا" في المشهد السياسي، وليس ممثلاً لقوة طبقية معادية تهدف إلى قلب الطاولة.
تتولد هوة ثلاثية الأبعاد تفصل الحزب عن واقعه الطبقي: أولاً، هوة سياسية حيث تنفصل أجندة النخبة الممولة عن هموم الجماهير اليومية (الخبز، السكن، الاستغلال). ثانيًا، هوة تنظيمية عبر إعادة إنتاج هرمية طبقية داخلية تضع جالبى التبرعات في القمة و العمال الصامتين في القاعدة. وأخيرًا، هوة استراتيجية تجعل الخطاب متأرجحًا بين راديكالية شكلية لإرضاء القاعدة وإصلاحية عملية لإرضاء الممولين، مما يحول الحزب إلى سجين تناقضاته.
المواجهة تتطلب قلب معادلة التمويل رأساً على عقب وبناء نمط تمويلي جديد يعيد الحزب إلى جذوره الطبقية. مبدأ القطع مع التمويل المشبوه يجب أن يكون حجر الزاوية. رفض أي مال يأتي بشروط، صريحة أو مضمرة، من أي مصدر غير بروليتاري. النقاء المالي ليس رفاهية، بل هو شرط أساسي للنقاء السياسي والاستقلالية الثورية. لا يمكن للحزب أن يكون أداة للثورة وهو يعيش على فتات موائد الطبقات المستغِلة.
تفعيل الاشتراكات العضوية يجب أن يكون أكثر من مجرد إجراء شكلي. يجب أن تكون العضوية الفاعلة مرتبطة بمساهمة مالية منتظمة، ولو كانت رمزية. هذا ليس بهدف جمع المال، بل لبناء ثقافة الالتزام والمسؤولية، وضمان أن القيادة تشعر بأنها مسؤولة أمام القاعدة التي تمولها.
التمويل الذاتي القاعدي الإبداعي يمثل مجالاً خصبًا. الاعتماد على إبداعات القاعدة نفسها: عمل تعاوني، إنتاج بضائع تحمل شعارات الحزب، حفلات شعبية زهيدة الثمن، ومشاريع إنتاجية صغيرة. هذا النشاط ليس جمعًا للمال فحسب، بل هو عملية تنظيمية وتثقيفية بحد ذاتها، تبني روح الجماعة والتضامن والاعتماد على الذات.
الشفافية المطلقة يجب أن تكون السلاح الذي يحمي الحزب من الانحراف. يجب أن يكون كل قرش في خزينة الحزب معروض للجميع، وخاضع للمراجعة والمساءلة الدائمة من قبل القاعدة. الشفافية هي الدرع الذي يمنع تحول الخزينة إلى أداة للفساد والهيمنة الطبقية.
ليست المعركة ضد هيمنة البرجوازية الصغيرة معركة أفكار مجردة فحسب. إنها، في أحد جوانبها الحاسمة، معركة مادية خالصة على التحكم في الموارد، على من يملك المال وبالتالي من يملك القرار. لا يمكن لأي حزب أن يدعي تمثيله للبروليتاريا وهو يمد يده إلى جيوب خصومها الطبقيين. استقلالية القرار تبدأ باستقلالية الخزينة، والحرية السياسية تقوم على التحرر من التبعية المالية. إن تحرير الحزب من تبعية التمويل البرجوازي الصغير هو الخطوة الأولى العملية نحو تحريره من سجن الإصلاحية والتوفيق، وإعادته إلى مهمته التاريخية الحقيقية: تنظيم قوة الطبقة العاملة وقيادتها في مهمة تحطيم جهاز الدولة البرجوازية وبناء سلطة العمال. إن خزينة الحزب ليست مجرد دفتر حسابات، بل هي ساحة صراع طبقي داخلي، وأداة تتسلل عبرها البرجوازية الصغيرة لتفرض هيمنتها على الحركة الثورية. وكما حذر لينين من أن "الانتهازية تتسلل عبر أصغر الثغرات المادية"، فإن تحليلنا يؤكد أن التمويل المشبوه هو أوسع هذه الثغرات. فالحزب الذي يفقد استقلاله المادي يفقد، حتمًا، استقلاله السياسي والأخلاقي، ويصبح أدة طيعة في يد من يمولونه.
النضال مستمر،،
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟