عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8451 - 2025 / 8 / 31 - 04:56
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
أوضحنا في الجزء السابق أن حسم الصراع مع البرجوازية الصغيرة داخل الحزب الثوري ليس خياراً تنظيمياً فحسب، بل شرط بقاء الحزب على هويته الطبقية. فالبرجوازية الصغيرة تدخل عبر الانتهازية والتحريفية لتعيد إنتاج الإصلاحية وتكبح المشروع الثوري. وفي هذا الجزء الأخير ننتقل من المستوى النظري إلى التطبيق العملي، عبر تناول تجربة الحزب الشيوعي السوداني، الذي مثل أوضح مثال على العجز عن الحسم مع البرجوازية الصغيرة، ليصبح ـ رغم تاريخه الطويل ـ حزباً إصلاحياً لا جذرياً.
الجذرية في الفهم الماركسي ليست مجرد شعارات يسارية أو إعلان العداء للرأسمالية، بل هي القدرة على الذهاب إلى الجذور: تفكيك الأساس الطبقي للنظام البرجوازي وبناء بديل سلطوي ثوري يقوده العمال والفلاحون. بهذا المعيار لا يمكن اعتبار الحزب الشيوعي السوداني جذرياً، لأن خطه ظل يتأرجح بين الإصلاحية والتحالفات المرحلية، دون أن يحسم لصالح الثورة الاجتماعية.
يحدد معنى الجذرية في المنهج الماركسي بقدرة الحزب على اقتلاع السبب الطبقي للاستغلال لا بارتفاع النبرة الخطابية. الجذرية تعني تحطيم جهاز الدولة البرجوازية، وإلغاء ملكية وسائل الإنتاج الاستراتيجية، وبناء سلطة العمال والفلاحين عبر مجالسهم الثورية. الحزب الذي يتخلّى عن هذا الطريق يتحول إلى جهاز ضغط إصلاحي داخل النظام. تجربة الحزب الشيوعي السوداني تقدم برهاناً متصلاً على هذا التحول: اسم شيوعي وممارسة ديمقراطية-ليبرالية، شعارات يسارية وبرنامج يراوح داخل حدود الرأسمالية.
حسم الصراع مع البرجوازية الصغيرة داخل الحزب الثوري شرط بقاء الهوية الطبقية. هذه الشريحة تدخل عبر الانتهازية والتحريفية وتدفع إلى التسويات باسم “الواقعية” و“التحالفات الواسعة”، فتعيد إنتاج الإصلاحية وتكبح المشروع الثوري. الهيمنة الفكرية والتنظيمية للبرجوازية الصغيرة على قيادة الحزب الشيوعي السوداني تفسر انتقاله من حزب بروليتاري الهوى إلى قوة إصلاحية تفصل بين النظرية والممارسة، وتستبدل استراتيجية تحطيم جهاز الدولة بمنطق “تحسينه” وتلطيفه.
المعيار الماركسي لتقييم أي حزب واضح: خط سياسي يحدد العدو الطبقي دون مواربة؛ تحالفات تقودها الطبقة العاملة لا تحل فيها؛ موقف من الدولة يؤكد أنها أداة قمع طبقي لا ساحة حياد مؤسسي؛ برنامج اقتصادي يقطع مع قانون القيمة والربح؛ أدوات تنظيم ثوري تبني سلطة بديلة من أسفل. الاسم والشعار بلا قيمة إذا خالفهما السلوك السياسي والتنظيمي. عند إخضاع تجربة الحزب الشيوعي السوداني لهذه المعايير تتبدى النتيجة: إصلاحية مغلفة بمفردات ماركسية.
تاريخ السودان بعد 1964 يقدم شواهد حاسمة. خلال ثورة أكتوبر انخرط الحزب في جبهة الهيئات واكتفى ببرنامج ديمقراطي يراوح داخل إطار الدولة البرجوازية، بينما ظهرت إمكانات مجالس شعبية قادرة على التطور إلى نواة سلطة بديلة. التفضيل وقع لصالح “انتقال آمن” يضعف المبادرة الجماهيرية ويبقي جهاز الدولة قائماً. في 1969 دعم الحزب انقلاب مايو تحت راية “ثورة وطنية ديمقراطية”، فانبنى رهانٌ على سلطوية بيروقراطية للبرجوازية الصغيرة انتهت إلى مجزرة 1971 وقمع الحزب نفسه. الدرس الطبقي كان جلياً: كل اعتماد على البرجوازية الصغيرة يتطور إلى خيانة للطبقة العاملة، وكل استبدال للسلطة العمالية بسلطة فوقية يفضي إلى سحق التنظيم الثوري.
انتفاضة أبريل 1985 أعادت إنتاج الدائرة ذاتها. جرى الاندماج في ترتيبات إصلاحية لم تمس جهاز الدولة، فاستعاد النظام قدرته على إعادة التموضع وصولاً إلى انقلاب 1989. طوال حكم الإنقاذ تمحورت معارضة الحزب حول شعارات الحريات ووقف الحرب دون طرح استراتيجية بناء سلطة جماهيرية مضادة. موقع “المعارضة الوطنية” رسّخ الدور الإصلاحي: نقد أخلاقي للنظام وتجنب للصدام مع بنيته الطبقية.
لحظة ديسمبر 2018 كشفت المأزق بصورة قاطعة. لجان المقاومة قدمت الشكل الجنيني لسلطة شعبية: تمثيل مباشر، شرعية ميدانية، قدرة على إدارة الحياة اليومية. الاتجاه الثوري كان تحويل هذه اللجان إلى مجالس عمالية وفلاحية تتسع للمصانع والأحياء والريف، فتجسد ثنائية السلطة وتفتح الطريق لتحطيم الدولة القديمة. الخط الذي تبناه الحزب بقي أسير مفردات “الانتقال الديمقراطي” و“الشراكة” و“التسليم والتسلم”، وانسحابه من التحالفات السياسية لم يصدر عن تموضع ثوري يبني السلطة البديلة، بل عن خلاف داخل أفق إصلاحي واحد.
اندلاع حرب 2023 قدم اختباراً حاسماً للموقف الطبقي. الحرب صراع بين كتلتين من البرجوازية الطفيلية المرتبطة بالإمبريالية، وكل كتلة تسعى لوراثة جهاز الدولة وخزائنه. المطلوب كان تحليل هذه الحقيقة بوضوح، تعبئة الطبقة العاملة والفلاحين النازحين، تحويل شبكات التضامن الشعبي إلى مجالس إدارة للموارد والمعيشة والأمن المجتمعي، وطرح برنامج استيلاء جماهيري على منافذ التوزيع والإنتاج لحماية الحياة من اقتصاد الحرب. الخلاصة التي قدمها الحزب توقفت عند بيانات “وقف الحرب” و“المؤتمر الدستوري” و“الحل السياسي” من داخل أفق الدولة ذاتها، أي إعادة تدوير الإصلاحية على أنقاض المدن والقرى.
يتبدى الانحراف أيضاً في الخطاب حول الاقتصاد. الحديث عن “اقتصاد وطني مستقل” و“عدالة اجتماعية” لا يمسّ التناقض البنيوي بين العمل ورأس المال. رأسمالي “وطني” يمارس الاستغلال نفسه ويدمج قواه بالسوق العالمية كطرف أدنى في سلسلة القيمة. البرنامج الماركسي الواضح يبدأ بتأميم وسائل الإنتاج والبنوك والتجارة الخارجية، ووضعها تحت سيطرة مجالس العمال والفلاحين، وتأسيس تخطيط اجتماعي موجه للحاجات لا للربح، مع تحويل فائض القيمة إلى استثمار اجتماعي في الصحة والتعليم والسكن والبنية التحتية. كل ما عدا ذلك تجميل لمعادلة الاستغلال.
تضاف إلى ذلك أوهام “الدولة المدنية الديمقراطية” بوصفها أفقاً نهائياً. الدولة جهاز طبقي تاريخي التشكل، والجيش والشرطة والقضاء وبيروقراطيتها الاقتصادية تشكيلة منتجة للهيمنة. أي برنامج “تحسين” يبقي الجهاز ويعدل سلوكه يفضي إلى إعادة تركيب الهيمنة لا إلى إلغائها. الطريق الثوري يمر عبر تحطيم آلة الدولة القديمة وبناء سلطة جديدة من نوع جديد: مجالس منتخبة في مواقع العمل والسكن والريف، قابلة للعزل الفوري، تتولى التشريع والتنفيذ والرقابة في آن، وتربط الأجر والإدارة بالانتخاب والمحاسبة.
يطرح الحزب شعار “سودنة المشروع الماركسي” و“العمل وفق الواقع السوداني” بوصفهما تبريراً لخطه. الماركسية منهج علمي كوني في تحليل أنماط الإنتاج وصراع الطبقات، وتطبيقها المشخص على واقع محدد ضرورة لا ذريعة. “التوطين” يكتسب مشروعيته حين يحافظ على المنهج والغاية: تموضع طبقيّ للبروليتاريا، برنامج استيلاء على السلطة والثروة، وأداة تنظيم تبني سلطة بديلة. يتحول “التوطين” إلى تحريف حين يجري استبدال التناقض الطبقي بثنائيات فضفاضة من نوع “وطني/أجنبي” أو “مدني/عسكري”، وحين يُستدعى “الخصوصي” لتبرير التحالف مع البرجوازية الصغيرة أو طمس المهام الاشتراكية تحت غلالة “مهام وطنية ديمقراطية” بلا نهاية. تجارب كثيرة قدمت دروساً سلبية حين رُفعت راية “الخصوصية” لتسويغ التعايش مع قانون القيمة والسوق والملكية الخاصة، فكانت المحصلة رأسمالية بطابع محلي لا اشتراكية ذات خصوصية.
العمل وفق الواقع السوداني يعني البدء من تركيب الطبقات الحقيقي: عمال في القطاعات النظامية وشبه النظامية، فلاحون صغار ومتوسطون، نساء عاملات يتعرضن لأقسى أشكال الاستغلال في اقتصاد الحرب والهشاشة، نازحون ولاجئون يشكلون كتلة اجتماعية تعيد تركيب سوق العمل والمدينة، برجوازية طفيلية مرتبطة بالتجارة الريعية ودواليب الدولة، رأسمال خارجي يتغذى على الخصخصة والديون. من هذا الواقع تنبع المهام العاجلة: تنظيم العمال في المصانع والمخازن والمرافئ وسلاسل التوريد على شكل مجالس تُمسك بقرارات الإنتاج والأجور والسلامة؛ تنظيم الفلاحين حول الأرض والمياه والبذور والتسويق التعاوني؛ تحويل لجان الأحياء إلى مجالس إدارة للخدمات والتوزيع والأمن المجتمعي؛ فتح دفاتر المحاسبة في المؤسسات الكبيرة، ونزع السرية المصرفية، وربط الأجر بالأسعار ربطاً متحركاً؛ مصادرة شركات الحرب والاحتكار ووضعها تحت سيطرة مباشرة للمجالس. هذا هو معنى “الواقع السوداني” في المنظور الماركسي: تصنيع البرنامج الاشتراكي بأدوات سودانية وموضوعات سودانية وقيادة طبقية سودانية، من غير تنازل عن الهدف أو المنهج.
يتصل بذلك نقد مفهوم “الجبهة الواسعة” حين تتحول إلى غطاء لذوبان الطبقة العاملة داخل كتل تتزعمها البرجوازية الصغيرة. التحالفات التكتيكية مشروعة متى خضعت لقيادة برنامج بروليتاري وحدود طبقية صارمة، ومتى خدمت تمدد المجالس لا تمدد الصفقات. أما حين تُمحى الحدود الطبقية تحت لافتات “قوى الحرية” و“القوى الوطنية”، فالنتيجة إعادة إنتاج نخبة توزع الغنائم داخل جهاز الدولة ذاته. الهيمنة في معنى غرامشي تبنى من موقع قيادة طبقية تنتج كتلة تاريخية حول مصالح العمال والفلاحين، لا من موقع تبعية لبرنامج برجوازي تُضاف إليه مفردات مساواتية.
قضية التنظيم تكمل الصورة. الحزب الثوري ليس نادياً فكرياً ولا مكتباً تفاوضياً. الانضباط البروليتاري والديمقراطية الداخلية المركزية وسلطة اللجان القاعدية على القيادة، آليات منع الانزلاق الإصلاحي. تدخل البرجوازية الصغيرة يواجه بالتثقيف الماركسي الممنهج، وبتصعيد الكوادر من مواقع الإنتاج والكفاح الاجتماعي، وبنظام محاسبة عملي يربط صحة الخط بميزان القوى في مواقع العمل والسكن لا في منابر الصحافة والسياسة البرلمانية. “حزب جديد أو إعادة تأسيس” ليس شعاراً بل مساراً: فرز طبقي، برنامج استيلاء على السلطة، جهاز تنظيمي ينسج السلطة البديلة تحت النار.
المهام العملية تتلخص في تحويل اللجان إلى مجالس، تحويل التضامن إلى إدارة، تحويل الغضب إلى سلطة. مصانع السكر والمطاحن والموانئ والمناطق اللوجستية عقد أعصاب الاقتصاد، من يمسك بها يمسك بإيقاع الحياة اليومية. الريف خزان الغذاء والأرض، ومن ينظم الفلاحين حول المياه والبذور والتسويق يضرب قلب الريع الطفيلي. المدن مسرح الصراع على السكن والخدمات، ومن يدير التوزيع والرقابة الشعبية ويصون سلامة النساء في الفضاء العام يراكم شرعيةً سلطوية مضادة. كل خطوة من هذا النوع تفتح ثغرة في جهاز الدولة وتبني جهازاً آخر مكانه.
الحزب الشيوعي السوداني في وضعه الراهن حزب إصلاحي لا جذري. الاسم لا يغير الجوهر، والواجهة لا تخفي المضمون. الطريق إلى الاشتراكية يمر عبر سلطة العمال والفلاحين لا عبر تحسين الدولة البرجوازية. المهلة انتهت، والجماهير تدفع كلفة الحرب والغلاء والتهجير بينما تدار السياسة كإدارة أزمة داخل مؤسسات النظام. المطلوب أداة ثورية تعلن القطيعة مع الإصلاحية، تصوغ برنامج الاستيلاء على السلطة والثروة، وتحول طاقة اللجان إلى مجالس حكم فعلي.
“لا توجد حركة ثورية بدون نظرية ثورية.”
فلاديمير إليتش لينين.
بهذا تنتهي هذه السلسلة غير أن الصراع الطبقي لم ينتهِ، ولن ينتهي ما دامت علاقات الاستغلال قائمة وما دامت البرجوازية الصغيرة والبرجوازية الكبيرة تتناوبان على خنق الجماهير الكادحة. إن نقد التجربة الإصلاحية للحزب الشيوعي ليس إغلاقًا لملف، بل فتحٌ لمرحلة جديدة من التفكير والممارسة، حيث يطرح السؤال نفسه بحدة: من يحمل الراية الجذرية لطبقتنا العاملة؟ ومن يبني أداتها الثورية المستقلة؟ إن ما كتبناه ليس خاتمةً، بل بداية لعمل تنظيمي ونظري أعمق، يهدف إلى إعادة ربط الماركسية بجذرها الحقيقي، أي بالطبقة العاملة والكادحين، لا بالتحالفات الفوقية ولا بالأوهام الديمقراطية الليبرالية. إن ما انتهى هو الوهم، أما النضال فباقٍ ما بقي الاستغلال.
النضال مستمر،،
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟