أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد حسب الرسول الطيب - 3. التحول النيوليبرالي في عهد نميري: تفكيك القاعدة المنتجة















المزيد.....

3. التحول النيوليبرالي في عهد نميري: تفكيك القاعدة المنتجة


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8466 - 2025 / 9 / 15 - 00:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


شكّلت فترة حكم جعفر نميري (1969–1985) منعطفاً مصيرياً في المسار التنموي للسودان، حيث تجسدت خلالها التناقضات العميقة لمشروع الدولة الوطنية ما بعد الاستعمار. فبعد أن بدأ النظام بخطاب اشتراكي شعبوي، سرعان ما انكشف تناقضه الجوهري مع تحول تدريجي نحو نيوليبرالية طفيلية قادت إلى تفكيك منهجي للقاعدة الإنتاجية الوطنية. هذا التحول لم يكن مجرد استجابة لضغوط خارجية، بل خياراً طبقياً واعياً عبر عنه تحالف ثلاثي غير مسبوق يجمع بين المؤسسة العسكرية والطائفية التقليدية وتنظيمات الإسلام السياسي، كما يوضح أليكس دي وال في تحليله لتحولات الدولة السودانية (1).

اتسمت التحولات الطبقية في عهد نميري بانزياح تدريجي، لكن حاسم، من التحالف مع القوى التقدمية والوطنية نحو تحالف عضوي مع البرجوازية الطفيلية الناشئة. وجاءت المصالحة الوطنية عام 1977 لتشكل تتويجاً لهذا الانزياح التاريخي، حيث أعادت إدماج القوى الطائفية والإسلاموية في صميم هياكل السلطة والاقتصاد. وفق ما ذكر كريستوفر كلابهام، فإن هذه المصالحة لم تكن مجرد خطوة سياسية لإنهاء عزلة النظام، بل تحوّلاً طبقياً جذرياً سمح بولادة شريحة اجتماعية جديدة استفادت مباشرة من الخصخصة وإعادة توزيع الثروة (2).

دفعت أزمة المديونية الخارجية الحادة النظام إلى تبني وصفات صندوق النقد الدولي بشكل غير نقدي. فقد قفزت الديون الخارجية من ملياري دولار عام 1975 إلى أكثر من تسعة مليارات دولار بحلول 1983، وهو ما يبينه البنك الدولي في تقريره عن آفاق إعادة التأهيل والنمو في السودان (3). جاءت هذه الطفرة في الدين مقرونة بشروط قاسية شملت تحرير الأسعار وإلغاء الدعم عن السلع الأساسية وتخفيض قيمة العملة بشكل متكرر وخصخصة القطاع العام. وحسبما يوضح تيم نيبلك، فإن هذه الإجراءات لم تكن مجرد تدابير تقنية، بل جزء من استراتيجية أوسع لإعادة هيكلة الاقتصاد وفق متطلبات السوق العالمية، مما أدى إلى تآكل استقلالية الدولة التنموية (4).

كان القطاع الزراعي الحلقة الأكثر تضرراً من هذه السياسات، خصوصاً مشروع الجزيرة الذي مثل رمز الدولة التنموية منذ العشرينيات. فقد تحول المشروع تدريجياً من هيئة عامة إلى "هيئة مستقلة" تمهيداً لتفكيكه عبر نظام "الحواشة"، مما أدى إلى انهيار شبه كامل في الإنتاجية. وقد تراجعت مساهمة القطن - الذي كان يمثل 52% من الصادرات في منتصف السبعينيات - إلى أقل من 10% بحلول منتصف الثمانينيات (5). هذا الانهيار لم يكن اقتصادياً فقط، بل طبقياً واجتماعياً أيضاً، إذ جرى تفكيك قاعدة الفلاحين المنتجين وتحويلهم إلى أجراء موسميين أو مهاجرين إلى مدن الداخل والخليج.

وامتد التفكيك ليشمل القطاع الصناعي، حيث أُهملت المصانع الوطنية الاستراتيجية وتعرضت للبيع بأسعار زهيدة لأعضاء التحالف الحاكم. ويوضح دي وال أن هذا التوجه لم يكن عجزاً أو سوء إدارة، بل إعادة توجيه منهجية للاستثمار نحو القطاعات الريعية غير المنتجة (1). ونتيجة لذلك تراجعت مساهمة الصناعة إلى أقل من 8% من الناتج المحلي الإجمالي، مما أفقد الاقتصاد الوطني أي قدرة على التصنيع المستدام.

أدت هذه السياسات إلى كارثة اجتماعية شاملة، إذ قفز معدل التضخم من 20% عام 1978 إلى نحو 80% عام 1984. وتآكلت الأجور الحقيقية للعمال والموظفين، بينما توسعت طبقة طفيلية جديدة مرتبطة بالتحالف الحاكم. وكما يبين محمود ممداني، فقد مثّل الريف الحلقة الأضعف، إذ أُخضع الفلاحون لنظام السُلفيات والاحتكار التجاري، مما دفعهم إلى الهجرة الواسعة نحو المدن أو إلى أسواق العمل الخارجية (6). وهكذا تكشفت أبعاد الانزياح الطبقي: من دولة تنموية ناشئة إلى دولة طفيليّة خاضعة لشروط رأس المال العالمي.

خصوصية الحالة السودانية تكمن في أن هذا التحول لم يكن مجرد استجابة قسرية لوصفات المؤسسات المالية الدولية، بل خياراً طبقياً واعياً من النخبة الحاكمة. فقد تحالف الضباط مع الإسلاميين والطائفيين لتقاسم عوائد النهب، في تكرار - لكن أكثر حدة - لما يسميه سمير أمين "اقتصاد التبعية الطرفية" (7). بذلك، جرى تفكيك إمكانات تراكم وطني مستقل، وتحولت الدولة نفسها إلى آلية لإعادة إنتاج الفقر والتبعية.

إن هذه الأرضية الاقتصادية والطبقية هي التي ورثها نظام الإنقاذ لاحقاً. فالإسلام السياسي لم يبتكر نموذجاً جديداً، بل ورث تحالفاً طبقياً قائماً وآلة نهب جاهزة، لم يكن بحاجة إلا إلى إعادة تشغيلها بأيديولوجيا دينية تبريرية. وكما يلاحظ بيتر وودوارد، فإن النيوليبرالية في السودان لم تكن مجرد سياسة اقتصادية، بل بنية اجتماعية كاملة مهّدت لحروب لاحقة وأشكال غير مسبوقة من التراكم الوحشي (8).

وهكذا يتضح أن الحقبة النميرية لم تكن مجرد مرحلة سياسية عابرة، بل لحظة تأسيسية للتحول النيوليبرالي في السودان. لقد تم فيها تفكيك القاعدة المنتجة، وضُربت الزراعة والصناعة معاً، وأُعيد تشكيل البنية الطبقية لمصلحة تحالف طفيلي-إسلامي-عسكري ارتبط عضوياً بالاقتصاد العالمي. وما زالت آثار هذا التحول تتردد حتى اليوم، حيث يعيش السودان في أسر أزمة بنيوية عميقة لن تنكسر إلا بتحطيم هذا النمط الطفيلي وإعادة بناء اقتصاد إنتاجي مستقل على قاعدة طبقية جديدة.

"إن تاريخ كل مجتمع حتى الآن، هو تاريخ الصراعات الطبقية" - كارل ماركس وفريدريك إنجلز

النضال مستمر،،
--------------------------
المراجع:

1. de Waal, A. (2007). Sudan: What Everyone Needs to Know. Oxford University Press.
2. Clapham, C. (1997). The Sudan: Civil War, Development and Peace. London: Macmillan.
3. World Bank. (1985). Sudan: Prospects for Rehabilitation and Growth. Washington, D.C.
4. Niblock, T. (1987). Class and Power in Sudan: The Dynamics of Sudanese Politics, 1898–1985. Albany: State University of New York Press.
5. Ali, T. M. (1989). The Cultivation of Hunger: State and Agriculture in Sudan. Khartoum University Press.
6. Mamdani, M. (1996). Citizen and Subject: Contemporary Africa and the Legacy of Late Colonialism. Princeton University Press.
7. Amin, S. (1976). Unequal Development: An Essay on the Social Formations of Peripheral Capitalism. Monthly Review Press.
8. Woodward, P. (1990). Sudan, 1898–1989: The Unstable State. Lynne Rienner Publishers.



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 2. التأسيس الطائفي للرأسمالية الطفيلية في السودان (1898–1956 ...
- الأزمة البنيوية للرأسمالية الطفيلية التابعة في السودان
- 12. من الاحتجاج إلى بناء البديل الثوري في السودان
- التحديات والحلول الثورية
- 11. التحديات والحلول الثورية
- 10. الوهم الإصلاحي والواقع الطبقي
- 9. تفكيك إخفاق النماذج الجنينية في الثورة السودانية
- 8. المجالس الطبقية من البناء التنظيمي إلى المعركة الشاملة
- 7. المجالس الطبقية كسلطة بديلة: الطريق الوحيد أمام الثورة ال ...
- 6. السودان بين الثورة والثورة المضادة: السوفييتات أو الهزيمة
- الانتهازية والانعزالية: وجهان لعملة واحدة في أزمة اليسار الث ...
- 5. أشكال بلا مضمون: كيف حوّلت الثورة المضادة أدوات النضال ال ...
- 4. السوفييتات - النموذج التاريخي والضرورة الراهنة
- 3. الجذور التاريخية للثورة: دروس من تجارب الشعوب
- 2. الوهم الإصلاحي ولجان الأحياء: آلية البرجوازية الصغيرة لسر ...
- على خط النار: الثورة السودانية بين الأوهام والسلطة 1. لماذا ...
- 21. إصلاحية مقنّعة، جذرية منهزمة
- 20. المشروع الثوري: طبقية، تنظيم، ممارسة
- 19. المشروع الثوري: طبقية، تنظيم، ممارسة
- 18. من الراديكالية الزائفة إلى الانحراف البيروقراطي


المزيد.....




- مونشنغلادباخ ينهار أمام بريمن في أسوأ بداية له بالدوري منذ 3 ...
- عاجل| صفارات الإنذار تدوي قرب مطار رامون الدولي شمال إيلات إ ...
- آخرها برج -الكوثر-.. الاحتلال يواصل تدمير أبراج غزة وعماراته ...
- شاهد.. احتجاجات إسبانية على مشاركة إسرائيل تلغي سباقا عالميا ...
- انقسام في مواقف الفرقاء السودانيين بشأن خطة -الرباعية- لإنها ...
- أمل في -ناتو عربي- وخوف من -ولادة ميتة-، قمة الدوحة وذكرى ال ...
- ألمانيا.. قفزة كبيرة للشعبويين في انتخابات ولاية شمال الراين ...
- نهائي مثير .. ألمانيا بطلة أوروبا للسلة بعد الفوز على تركيا ...
- قفزة لليمين المتطرف في انتخابات محلية غرب ألمانيا
- طائرة نتنياهو ستسلك طريقا أطول لنيويورك خشية اعتقاله


المزيد.....

- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد حسب الرسول الطيب - 3. التحول النيوليبرالي في عهد نميري: تفكيك القاعدة المنتجة