أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد حسب الرسول الطيب - 9. ثورة ديسمبر: انفجار التناقضات الطبقية















المزيد.....

9. ثورة ديسمبر: انفجار التناقضات الطبقية


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8471 - 2025 / 9 / 20 - 23:43
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مثّلت ثورة ديسمبر 2018–2019 لحظة تاريخية فارقة انفجرت فيها التناقضات الطبقية المتراكمة في السودان، إذ لم تكن هذه التناقضات وليدة ظرف سياسي عابر، بل حصيلة تراكم طويل لهيمنة نمط الإنتاج الطفيلي الذي شكّل البنية الاقتصادية–السياسية للبلاد على امتداد عقود طويلة[1]. هذا النمط الطفيلي لم يكن مجرد مظهر اقتصادي منفصل عن السياسة، وإنما هو بنية شاملة ارتكزت على تحالف عضوي بين العسكر والإسلام السياسي والطائفية. هذا التحالف لم يكن تحالفاً سياسياً مؤقتاً، بل شكّل الآلية الأساسية لإعادة إنتاج السلطة عبر النهب المنظم والريع وتهميش الأغلبية الساحقة من المنتجين[2]. وبذلك فإن جذور ديسمبر تعود إلى الصراع حول السيطرة على موارد الإنتاج وإعادة توزيعها في مجتمع تتعايش فيه بقايا علاقات شبه إقطاعية مع الرأسمالية الطفيلية التابعة.

لقد اعتمد العسكر على السيطرة المباشرة على موارد الدولة، لا بوصفهم مؤسسة حامية للوطن كما ادّعوا، بل باعتبارهم طبقة مهيمنة تسعى إلى تراكم الثروة. الذهب، النفط، والزراعة المروية لم تكن مجرد موارد اقتصادية، وإنما تحولت إلى ركائز لإعادة إنتاج سلطة عسكرية–أمنية مترابطة مع السوق العالمية. فمؤسسات مثل «شركة الجنيد» المرتبطة بقوات الدعم السريع جسّدت كيف تتحول الثروات العامة إلى ملكيات خاصة مرتبطة بالبنية العسكرية، بينما مثّلت الاستثمارات الزراعية الخليجية نموذجاً آخر لتسليع الأرض وتحويلها من مصدر عيش للمزارعين إلى أداة تراكم لصالح رأس المال الأجنبي–المحلي[3]. الإسلام السياسي وفّر الغطاء الأيديولوجي لهذا النهب عبر سياسات التمكين وتشريعات الشريعة التي شرعنت الاستيلاء على الموارد العامة باسم الدين، فيما لعبت الطائفية دور الوسيط الزبائني، خصوصاً في الأرياف، حيث أعيد إنتاج الولاءات التقليدية كشبكات دعم للنظام مقابل فتات الريع والسلطة[4].

الأزمة التي فجّرت ديسمبر لم تبدأ في 2018، بل تراكمت مع تفاقم التناقضات بعد انفصال الجنوب عام 2011 وفقدان ثلاثة أرباع عائدات النفط. حينها تعمّق عجز الدولة وانكشفت هشاشة البنية الاقتصادية القائمة على النفط كمورد وحيد تقريباً[5]. بدل أن يتجه النظام نحو إصلاح بنيوي جذري، لجأ إلى سياسات الخصخصة والتقشف استجابةً لإملاءات صندوق النقد الدولي، وهو ما مثّل امتداداً لمنطق التبعية[6]. النتيجة كانت كارثية: انهيار الجنيه السوداني، تسارع التضخم، وتآكل الطبقة الوسطى التي شكلت تاريخياً قاعدة للاستقرار النسبي. ومع ارتفاع نسبة الفقر إلى أكثر من 60% ظل الإنفاق العسكري يبتلع معظم الميزانية، مما أبرز الطابع الطفيلي للنظام الذي يموّل آلة القمع بدلاً من إعادة إنتاج شروط الحياة الاجتماعية[7].

في قلب الثورة لم ينهض مجرد جيل غاضب أو حشود عابرة، بل برزت الطبقات الكادحة في أشكالها الأكثر مباشرة: العمال، المزارعون، الطلاب، والموظفون. وقد حملت النساء والشباب عبء القيادة الفعلية في الصفوف الأمامية، ليس كرمز أو صورة، بل كقوة تنظيمية يومية جسدتها لجان المقاومة[8]. هذه اللجان لم تكن مجرد أدوات احتجاج، بل شكّلت جنيناً لسلطة شعبية بديلة تجاوزت النقابات الرسمية المروّضة وأعادت تعريف العمل السياسي من جديد. فقد جمعت بين النضال الاحتجاجي المباشر وبين توفير الخدمات اليومية –من الأمن الشعبي إلى توزيع الخبز– وهو ما منحها شرعية اجتماعية–سياسية واسعة، لكنها بقيت تعاني من غياب برنامج موحد يربط بين قضايا الريف والمدن، وبين المطالب الاقتصادية والسياسية[9].

الأقاليم المهمشة مثل دارفور، جبال النوبة، والنيل الأزرق لم تكن "هوامش" معزولة، بل مثلت القلب النابض للتناقضات التي انفجرت في ديسمبر. هناك تراكمت الحرب الأهلية مع النهب الاقتصادي: السيطرة على الأراضي بواسطة المليشيات، التهجير الجماعي للسكان، والعنف الجنسي الممنهج كأداة لإعادة تشكيل البنية السكانية على أسس قسرية[10]. في هذا السياق دفعت النساء الثمن الأكبر، إذ فقدن مصادر العيش وتعرضن للاستغلال المزدوج: من جهة العمل غير المدفوع في معسكرات النزوح، ومن جهة أخرى الاستهداف بالعنف الجنسي كوسيلة إذلال جماعي وإخضاع سياسي[11].

على الصعيد الخارجي، لم تكن التدخلات الإقليمية والدولية مجرد "ضغوط" جانبية، بل مثلت آلية لإعادة إنتاج الأزمة في إطار السوق الرأسمالية العالمية. فقد دعمت السعودية والإمارات ومصر المؤسسة العسكرية لضمان مصالحها في الذهب والزراعة والموانئ[12]، بينما استخدم الاتحاد الأوروبي النظام السابق كحارس للحدود عبر اتفاقيات الهجرة التي حوّلت السودان إلى سجن مفتوح للمهاجرين[13]. هذه التدخلات تعبّر عن موقع السودان التابع في النظام الإمبريالي العالمي، حيث تتحكم المصالح الخارجية في إعادة إنتاج السلطة المحلية بما يضمن استمرار التبعية والتخلف[14].

القمع بلغ ذروته في مجزرة فض الاعتصام في يونيو 2019، التي عكست بوضوح طبيعة التحالف الحاكم. العنف لم يكن استثناءً ولا انحرافاً عن القاعدة، بل تجسيداً خالصاً لنمط سلطة يقوم على النهب المسلح والسيطرة عبر الرعب. أما الانقسامات بين الجيش والدعم السريع، أو بين تيارات الإسلام السياسي المختلفة، فلم تكن سوى صراع داخلي على الغنيمة داخل نفس البنية الطبقية المسيطرة[15].

إن درس ديسمبر الأساسي هو أن الثورة ليست لحظة خاطفة أو حدثاً منعزلاً، بل مسار ممتد يعكس توازن القوى الطبقية وتناقضاتها. فإذا لم تتحول الثورة إلى مشروع جذري لإعادة تشكيل علاقات الإنتاج والسلطة لصالح الأغلبية، فإنها ستظل أسيرة صفقات النخب وإعادة إنتاج نفس النظام بأقنعة مختلفة. وكما قال غرامشي: "الثورة ليست حدثاً، بل عملية تاريخية مستمرة".

النضال مستمر،،
--------------------------
المراجع:
[1] de Waal, A. (2007). Sudan: The Politics of War and Peace. Zed Books.
[2] African -union- Commission. (2018). Report of the Commission of Inquiry on South Sudan and Darfur.
[3] World Bank. (2019). Sudan Poverty Assessment.
[4] Human Rights Watch. (2015). Men With No Mercy: Rapid Support Forces Attacks in Darfur, Sudan.
[5] International Crisis Group. (2019). Safeguarding Sudan’s Revolution.
[6] القدال، محمد سعيد. (1992). الإسلام والسياسة في السودان. دار الجيل، بيروت.
[7] Verhoeven, H. (2015). Water, Civilization and Power in Sudan. Cambridge University Press.
[8] Gallopin, J.-B. (2019). A Political Economy of the Sudanese Revolution. Carnegie Endowment.
[9] نقد، محمد إبراهيم. (1993). علاقات الأرض في السودان. دار الثقافة الجديدة، القاهرة.
[10] محجوب، عبد الخالق. (2002). وثيقة حول البرنامج. دار عزة للنشر، الخرطوم.
[11] Berridge, W. J. (2015). Civil Uprisings in Modern Sudan. Bloomsbury Academic.
[12] Mamdani, M. (2009). Saviors and Survivors: Darfur, Politics, and the War on Terror. Pantheon Books.
[13] Tønnessen, L. (2020). Women and the December Revolution in Sudan. CMI Brief.
[14] Baldo, S. (2019). Sudan’s Uprising: The Forces Behind the Revolution. Enough Project.
[15] Flint, J. & de Waal, A. (2008). Darfur: A New History of a Long War. Zed Books.



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 8. الهيمنة الطفيلية: التعليم والإعلام والدين في السودان
- 7. البعد الجندري للأزمة: النساء بين القهر والمقاومة
- 6. استعمار الداخل: الحرب كآلية للنهب المنظم في السودان
- 5. إمبراطورية العسكر
- 4. الإنقاذ وتكثيف الطفيلية: من الأيديولوجيا إلى آلة النهب
- 3. التحول النيوليبرالي في عهد نميري: تفكيك القاعدة المنتجة
- 2. التأسيس الطائفي للرأسمالية الطفيلية في السودان (1898–1956 ...
- الأزمة البنيوية للرأسمالية الطفيلية التابعة في السودان
- 12. من الاحتجاج إلى بناء البديل الثوري في السودان
- التحديات والحلول الثورية
- 11. التحديات والحلول الثورية
- 10. الوهم الإصلاحي والواقع الطبقي
- 9. تفكيك إخفاق النماذج الجنينية في الثورة السودانية
- 8. المجالس الطبقية من البناء التنظيمي إلى المعركة الشاملة
- 7. المجالس الطبقية كسلطة بديلة: الطريق الوحيد أمام الثورة ال ...
- 6. السودان بين الثورة والثورة المضادة: السوفييتات أو الهزيمة
- الانتهازية والانعزالية: وجهان لعملة واحدة في أزمة اليسار الث ...
- 5. أشكال بلا مضمون: كيف حوّلت الثورة المضادة أدوات النضال ال ...
- 4. السوفييتات - النموذج التاريخي والضرورة الراهنة
- 3. الجذور التاريخية للثورة: دروس من تجارب الشعوب


المزيد.....




- ما الهدف من نشر مصر حشودا عسكرية في سيناء ولماذا ترفض إسرائي ...
- إجراءات أمنية استثنائية في نيويورك قبل مؤتمر حل الدولتين
- ما هو مرض لايم الذي تعاني منه العارضة بيلا حديد
- على طرقات الضفة الغربية المحتلة، سراب الدولة الفلسطينية
- بلدة تركية تُحضر أكبر طبق محلي من النقانق والبيض
- لماذا يدافع رئيس وزراء إسبانيا عن غزة بتلك القوة؟
- القاهرة: -عدوان غزة يفرض على الجيش المصري الاستعداد لمواجهة ...
- ما هو نقش سلوان الذي تطالب به إسرائيل وترفض تركيا إعادته؟
- إيران تهدد بتعليق التعاون مع وكالة الطاقة الذرية إذا أعيد فر ...
- قطر تطلب اعتذارا إسرائيليا قبل استئناف -محادثات التهدئة-


المزيد.....

- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد حسب الرسول الطيب - 9. ثورة ديسمبر: انفجار التناقضات الطبقية