أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد حسب الرسول الطيب - 6. استعمار الداخل: الحرب كآلية للنهب المنظم في السودان















المزيد.....

6. استعمار الداخل: الحرب كآلية للنهب المنظم في السودان


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8469 - 2025 / 9 / 18 - 00:07
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تمثل الحروب في أطراف السودان نموذجاً متقدماً للرأسمالية الطفيلية التي تستخدم العنف المنظم كآلية أساسية للتراكم، حيث لم تكن نزاعات دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق مجرد صراعات سياسية أو هوياتية، بل تشكلت كأدوات اقتصادية ممنهجة في يد النخبة الطفيلية المركزية لتحقيق التراكم عبر النهب المباشر[1]. لقد تحولت الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية إلى أدوات لخلق اقتصاد حرب دائم يعيد إنتاج التهميش والاستغلال، مستفيداً من التراث الاستعماري الذي قسم السودان إلى مركز مهيمن وهامش مُستَغَل.

تاريخياً، ورثت النخب الطائفية بعد الاستقلال جهاز الدولة الاستعماري وأعادت توظيفه لخدمة مصالحها. استخدمت الطائفية السياسية جهاز الدولة لتكريس التهميش الاقتصادي لمناطق الأطراف، حيث حولت الريف السوداني إلى مخزون بشري واقتصادي يخضع للنهب المنظم. مع انقلاب 1989، ورث الإسلام السياسي هذا الجهاز وأعاد تشغيله بطريقة أكثر عنفاً وتركيزاً، حيث أسس لاقتصاد سوق طفيلي متوحش توسع بشكل كبير في شركات الجيش والأمن[2]. حولت حكومة الإنقاذ المؤسسات العسكرية والأمنية إلى وحدات اقتصادية مستقلة، مستخدمةً العنف الممنهج لخلق أسواق جديدة وفرض سيطرة شاملة على موارد الأطراف.

تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن حوالي 50% من إنتاج الذهب السوداني يهرب عبر قنوات غير رسمية، حيث تتحكم الميليشيات المسلحة في عمليات الاستخراج والنقل[3]. لم يعد الذهب في دارفور وجنوب كردفان ثروة وطنية، بل تحول إلى ريع يغذي آلة الحرب، وتتم هذه العمليات عبر شبكات معقدة تربط قادة الميليشيات برجال الأعمال المرتبطين بالنظام، وتستفيد من البنية التحتية الرسمية للدولة في بعض الأحيان. كما شهدت الأراضي الزراعية الخصبة في النيل الأزرق عمليات مصادرة منهجية بعد تهجير السكان القسري، حيث توثق تقارير البنك الدولي كيف أدت النزاعات المسلحة إلى تهجير أكثر من 3 ملايين شخص، مما فتح المجال أمام مشاريع استثمارية زراعية وحيوانية كبرى تتبع لشركات مرتبطة بالنخبة الحاكمة[4]. أصبحت الثروة الحيوانية، التي كانت عماد الاقتصاد التقليدي، مصدراً للعملة الصعبة عبر شبكات التهريب التي تتحكم فيها الأجهزة الأمنية.

طبقياً، لم تنتج هذه الحروب فقط شبكة نهب بين المركز والهامش، بل أعادت إنتاج طبقات طفيلية محلية في الأطراف[5]. نشأت طبقة من قادة الميليشيات والوسطاء المحليين الذين ربطتهم بالمركز علاقة تبعية مزدوجة، حيث أصبحوا وكلاء محليين لعملية النهب. شكل هؤلاء الوسطاء حلقة وصل حيوية بين النخبة الطفيلية في المركز ومصادر الثروة في الأطراف، مما خلق نظاماً طبقياً معقداً يقوم على التبعية المتبادلة والمصالح المشتركة في استمرار اقتصاد الحرب.

تطورت الميليشيات المسلحة من مجموعات قبلية إلى كيانات اقتصادية مستقلة، حيث تمثل قوات الدعم السريع النموذج الأكثر وضوحاً لهذا التحول، فتحولت من ميليشيا إلى إمبراطورية اقتصادية تسيطر على مناجم الذهب وطرق التهريب العابرة للحدود[6]. أنشأت هذه القوات شبكات اقتصادية معقدة تربطها بأسواق الذهب في دبي وأبوظبي، وبشبكات الجريمة المنظمة الإقليمية. وقد نشأت تحالفات عضوية بين هذه الكيانات المسلحة والمؤسسة العسكرية الرسمية، حيث خلق تحالف المصالح هذا اقتصاداً حربياً يعيد تمويل نفسه ذاتياً، فلم تعد الحرب تحتاج إلى تمويل من المركز، بل أصبحت هي نفسها أداة التمويل والتراكم.

دمرت الحرب البنى الاجتماعية والاقتصادية التقليدية في الأطراف، حيث تحولت المجتمعات المنتجة إلى وقود لاقتصاد النهب، إما كلاجئين أو كمقاتلين في صراعات لا تخدم مصالحهم[7]. كان التهجير القسري للملايين استراتيجية ممنهجة لتفريغ الأرض من سكانها والسطو على مواردها. وقد وثق البنك الدولي كيف أدت النزاعات المسلحة إلى إضعاف القطاعات المنتجة وزيادة اعتماد الاقتصاد على الموارد الريعية، حيث دمر القطاع الزراعي والرعوي التقليدي لصالح اقتصاد النهب، فتحولت الأراضي الخصبة إلى مزارع كبيرة تتبع للنخبة الطفيلية، بينما تحول السكان إلى عمالة رخيصة أو مقاتلين في صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

استفادت من هذه الحرب شبكة معقدة من المصالح المتشابكة، حيث استفادت في المركز النخبة الطفيلية المتحالفة مع الدولة من تدفق الموارد الرخيصة من الأطراف، بينما برز في الهامش وسطاء محليون وقادة جماعات مسلحة تحولوا إلى طبقة طفيلية تابعة[8]. وقد خدمت الأيديولوجيا كغطاء لهذه المصالح الاقتصادية، حيث تمت تغطية الصراع الطبقي بغلاف صراع هوياتي. وكشفت وثائق ويكيليكس كيف تحالفت النخب الاقتصادية مع قادة الميليشيات لإنشاء شبكات تهرب عائدات الذهب والأراضي، حيث عملت هذه الشبكات تحت غطاء أيديولوجي، فاستخدم خطاب العروبة والإسلام من قبل المركز، بينما استخدم خطاب الأفريقانية والمظلومية من قبل قادة الهامش، لكن الجميع كانوا شركاء في عملية النهب.

أعاد هذا النمط إنتاج الاستعمار الداخلي، حيث أن الدولة الوطنية لم تقطع مع سياسات الاستعمار البريطاني بل أعادت إنتاجها بشكل جديد[9]. فإذا كان الاستعمار قد قسم السودان إلى مركز مهيمن وهامش تابع، فإن النخب ما بعد الاستقلال استخدمت نفس الآليات لخدمة مصالحها الطبقية. وتحولت الدولة من أداة للتحرر الوطني إلى أداة للاستعمار الداخلي، حيث تستخدم مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والقانونية لفرض نمط التراكم الطفيلي على الهامش، ويكشف هذا الاستمرار التاريخي أن مشكلة السودان ليست في غياب الدولة، بل في طبيعتها الطبقية التي تجعلها أداة للنهب بدلاً أن تكون أداة للتنمية.

بهذه الرؤية، لم تكن حروب الهامش انحرافاً عن مسار الدولة بل كانت نتيجة حتمية لطبيعتها الطبقية، حيث كانت الأدوات الأكثر عنفاً وفعالية في ترسانة الرأسمالية الطفيلية التابعة، لضمان تدفق الثروة من الأطراف المهمشة إلى المركز المهيمن. وتمثل هذه الحروب تجسيداً لمقولة أن الحرب في السودان أصبحت استمراراً للاقتصاد بوسائل عنيفة، حيث أنها تعبير عن أزمة النموذج الرأسمالي الطفيلي التابع الذي يعجز عن تحقيق التراكم عبر الإنتاج، فيلجأ إلى النهب المباشر عبر العنف المنظم. ورغم هذا المشهد القاتم، فإن مقاومة هذه الآليات مستمرة عبر أشكال التنظيم الشعبي التي تطرح بدائلَ تنمويةً حقيقيةً لقهر المركز واستغلاله.

إذا كانت الحرب عند كلاوزفيتز استمراراً للسياسة بوسائل أخرى، فإنها في السودان تجسدت كأداة وحشية لاستيلاء النخب على الثروة وتكريس تبعية الهامش للمركز.

النضال مستمر،،
--------------------------
المراجع:
[1] African Development Bank. Illicit Financial Flows from Sudan’s Mining Sector, 2022.
[2] de Waal, A. Military Business in Sudan, Rift Valley Institute, 2019.
[3] UN Panel of Experts. Sudan Final Report, UNSC Resolution 2524, 2020.
[4] World Bank. Sudan – Forced Displacement & Agricultural Investment, 2018.
[5] Sudanese Archives. Oral History: Darfur & South Kordofan, 2019.
[6] African Development Bank. Gold Smuggling from Sudan, 2022.
[7] World Bank. Sudan Economic Monitor, 2020.
[8] WikiLeaks. Sudan Cablegate, 2010-2016.
[9] Marx, K. Capital, Vol. I, Moore & Aveling (Trans.), 1867.



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 5. إمبراطورية العسكر
- 4. الإنقاذ وتكثيف الطفيلية: من الأيديولوجيا إلى آلة النهب
- 3. التحول النيوليبرالي في عهد نميري: تفكيك القاعدة المنتجة
- 2. التأسيس الطائفي للرأسمالية الطفيلية في السودان (1898–1956 ...
- الأزمة البنيوية للرأسمالية الطفيلية التابعة في السودان
- 12. من الاحتجاج إلى بناء البديل الثوري في السودان
- التحديات والحلول الثورية
- 11. التحديات والحلول الثورية
- 10. الوهم الإصلاحي والواقع الطبقي
- 9. تفكيك إخفاق النماذج الجنينية في الثورة السودانية
- 8. المجالس الطبقية من البناء التنظيمي إلى المعركة الشاملة
- 7. المجالس الطبقية كسلطة بديلة: الطريق الوحيد أمام الثورة ال ...
- 6. السودان بين الثورة والثورة المضادة: السوفييتات أو الهزيمة
- الانتهازية والانعزالية: وجهان لعملة واحدة في أزمة اليسار الث ...
- 5. أشكال بلا مضمون: كيف حوّلت الثورة المضادة أدوات النضال ال ...
- 4. السوفييتات - النموذج التاريخي والضرورة الراهنة
- 3. الجذور التاريخية للثورة: دروس من تجارب الشعوب
- 2. الوهم الإصلاحي ولجان الأحياء: آلية البرجوازية الصغيرة لسر ...
- على خط النار: الثورة السودانية بين الأوهام والسلطة 1. لماذا ...
- 21. إصلاحية مقنّعة، جذرية منهزمة


المزيد.....




- حادث غريب يفضح سائقًا ويورطه مع الشرطة.. والصدمة مما وجدوه ف ...
- برج جديد في دبي بكلفة 1.6 مليار دولار يجسد الطموح العقاري نح ...
- هل تتحدث أثناء نومك ولا تعرف ما الأسباب؟
- بعد وقف برنامج جيمي كيميل.. ترامب يقول إن شبكات البث تخاطر ب ...
- هيندل يؤسس حزب -الاحتياط- في إسرائيل: خدمة إلزامية ولجنة تحق ...
- المتظاهرون يتجمعون في القدس مطالبين بإنهاء الهجوم على غزة
- المتظاهرون يتجمعون خارج استوديو جيمي كيميل بعد تعليق العرض
- توقيف مشتبه به في هجوم باريس 1982.. وماكرون يشيد بتعاون السل ...
- برلين تجدد عزمها -إصلاح- دولة الرفاه وسط صعود المعارضة الشعب ...
- ماكرون: الاعتراف بدولة فلسطينية هو -أفضل طريقة لعزل حماس-


المزيد.....

- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد حسب الرسول الطيب - 6. استعمار الداخل: الحرب كآلية للنهب المنظم في السودان