أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد حسب الرسول الطيب - 5. إمبراطورية العسكر















المزيد.....

5. إمبراطورية العسكر


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8468 - 2025 / 9 / 17 - 03:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لم يعد الجيش السوداني، ومعه بقية الأجهزة الأمنية، مجرد مؤسسة دفاعية وطنية كما يُقدَّم في الخطاب الرسمي، بل صار كتلة طبقية قائمة بذاتها، تملك وتدير إمبراطورية اقتصادية طفيليّة متشعبة، تسيطر على الموارد والثروات وتحتكر التجارة الداخلية والخارجية، وتعيد إنتاج سلطة سياسية تقوم على النهب والريع والقمع. تعتبر هذه الإمبراطورية امتدادًا لتاريخ طويل يبدأ من التكوين الاستعماري، مرورًا بدولة ما بعد الاستقلال، ثم مرحلة جعفر نميري حيث ظهرت لأول مرة "المؤسسة العسكرية الاقتصادية"، وصولاً إلى نظام الإنقاذ الذي طور هذه البنية عبر مشروع "التصنيع الحربي"، ثم مرحلة ما بعد ثورة ديسمبر التي جعلت هذا الواقع مكشوفًا أمام الشعب بأكمله، بعد أن باتت الحقائق حول سيطرة الجيش والأمن على الاقتصاد لا تخفى على أحد (1).

منذ نشأته في العهد الاستعماري، كان الجيش السوداني أداة لحماية خطوط التجارة ومناطق الإنتاج الزراعي المخصص للتصدير لصالح بريطانيا، أي أنه لم يُنشأ كقوة وطنية، بل كجهاز حارس لمصالح الرأسمال الإمبريالي. ومع وصول نميري إلى الحكم، اتخذ الجيش خطوة نوعية بتأسيس "المؤسسة العسكرية الاقتصادية" ليصبح بذلك شريكًا اقتصاديًا مباشرًا في قطاعات الزراعة والتصنيع والخدمات. ثم جاء نظام الإنقاذ ليعزز هذه البنية عبر إنشاء مجمع الصناعات الدفاعية ومشروع "التصنيع الحربي"، الذي مثل مدخلاً لتوسيع شبكات الشركات التابعة للجيش والأمن تحت لافتات مدنية: شركات في مجالات البناء والاتصالات والتعدين والزراعة، تعمل خارج أي رقابة أو محاسبة، وتتمتع بإعفاءات ضريبية وجمركية تجعلها دولة داخل الدولة (2).

هذه الإمبراطورية العسكرية لا تقتصر على الجيش وحده، بل تشمل كل الأجهزة الأمنية: الشرطة وجهاز الأمن والمخابرات ومليشيا الدعم السريع، وكلها تمتلك شركاتها الخاصة أو تستفيد من نصيب في الكارتل العسكري. فقد سيطر الجيش على شركات في مجال الزراعة وتجارة المحاصيل النقدية والثروة الحيوانية، والحبوب والدقيق، بالإضافة إلى مؤسسات مرتبطة بمجمع الصناعات الدفاعية تشمل مصانع أسلحة وذخائر ومعدات هندسية. في قطاع التعدين، تمتد أذرع المؤسسة العسكرية إلى الذهب عبر السيطرة على مربعات إنتاج إستراتيجية، إما بشكل مباشر أو عبر شركات واجهة مدنية. أما جهاز الأمن والمخابرات فقد امتلك شبكة استثمارات ضخمة في العقارات والاتصالات والبنوك، بينما استحوذت مليشيا الدعم السريع على نصيب وافر من عوائد الذهب، خصوصًا في مناجم دارفور وجنوب كردفان، كما أنشأت شركات خاصة للتصدير. هذه الشبكة تجعل المؤسسة العسكرية والأمنية كارتلًا مترابطًا يسيطر على 80% من موارد البلاد، حسبما صرح بذلك وزير المالية المرشح وقتها إبراهيم البدوي عقب سقوط البشير (3).

هذا التمركز الاقتصادي لم يكن يومًا منعزلًا عن الصراع الإقليمي والدولي. فقد شارك الجيش والأجهزة الأمنية في حرب اليمن بآلاف الجنود، محولين دماء السودانيين إلى سلعة في بورصة التحالفات الإقليمية. هنا تتجلى العلاقة المباشرة بين الإمبراطورية الاقتصادية العسكرية وبين السوق الإقليمي للحروب: الأموال القادمة من السعودية والإمارات كانت تذهب مباشرة إلى حسابات الأجهزة الأمنية ومليشياتها، لتعزيز استقلاليتها الاقتصادية عن الدولة المدنية. وفي الداخل، سمحت هذه الموارد بتمويل اقتصاد الحرب والاقتصاد الموازي: تهريب الذهب عبر الحدود إلى الإمارات، تهريب الوقود والسلع المدعومة، وتحويل عائداتها إلى شبكات ضباط وأمراء مليشيات. بهذا المعنى، صارت الحروب نفسها مصدر تراكم اقتصادي، وليست عبئًا على المؤسسة العسكرية (2).

وهنا يقوم اقتصاد الحرب على ثلاثة عناصر مترابطة: أولاً، السيطرة على الموارد الطبيعية (الذهب، الأراضي الزراعية الخصبة، المحاصيل النقدية). ثانيًا، احتكار قطاعات التصدير والتهريب بحيث تصبح قنوات الدولة المدنية مجرد واجهة ثانوية. ثالثًا، توظيف المليشيات كأدوات اقتصادية عبر النهب المباشر في مناطق النزاع أو عبر التحكم في طرق التجارة. وهكذا يصبح الاقتصاد الطفيلي العسكري قائمًا على الحرب بوصفها أداة تراكم، وليس بوصفها استنزافًا (2).

انعكاسات هذه البنية على الاقتصاد الوطني كارثية. فهي تُعطّل المنافسة وتخنق القطاع المدني وتستنزف المالية العامة. إذ أن ما تبقى من الموارد الرسمية (20%) يذهب أغلبه إلى تغطية مرتبات القوات النظامية والقطاع المدني الحكومي، بينما تظل الميزانية العامة عاجزة عن تمويل الخدمات الأساسية أو التنمية. في الوقت نفسه، يستحوذ الجيش وأجهزته على 50% من الوقود الداخل للبلاد، وتستأثر المؤسسات الحكومية الأخرى بـ 35%، فيما يُترك الشعب ليتزاحم على 15% فقط من الوقود في محطات الخدمة (4). هذه الحقيقة، التي لم تعد سرًا، تكشف بجلاء طبيعة الاقتصاد الموازي العسكري بوصفه آلة لامتصاص عرق الشعب وموارده.

والأخطر أن هذه الإمبراطورية العسكرية الاقتصادية مرتبطة بنيويًا بتحالف الطائفية والإسلام السياسي، اللذين وفرا الغطاء الأيديولوجي والشرعية الدينية والسياسية لتوسع الجيش في الاقتصاد، بينما وفر الجيش بدوره أداة القمع لحماية النظام الطفيلي (2). بهذا يتضح أن المؤسسة العسكرية ليست مجرد لاعب اقتصادي، بل جزء عضوي من تحالف طبقي طفيلي يقوم على استغلال الشعب وإعادة إنتاج التبعية للرأسمال الإقليمي والعالمي.

وبذا يتحول الجيش السوداني، ومعه بقية الأجهزة الأمنية، إلى كارتل اقتصادي طفيلي يسيطر على مقدرات البلاد ويفرض نفسه بوصفه العقبة المركزية أمام أي تحول ديمقراطي أو بناء اقتصاد وطني مستقل. النضال ضد هذه الإمبراطورية لا ينفصل عن النضال من أجل التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية، بل هو شرط لهما. ومن هنا فإن فضح الإمبراطورية العسكرية الاقتصادية، بأسمائها وشركاتها وأدوارها الإقليمية، يمثل خطوة ثورية في اتجاه تفكيك بنية الاستغلال والنهب التي تحكم السودان منذ عقود. المقال القادم سيتناول بتفصيل أكثر اقتصاد الحرب، حيث تتحول الحروب الأهلية نفسها إلى مصادر تراكم، بما يكشف الوجه الأشد قتامة للرأسمالية الطفيلية في السودان.

"إن الدولة الحديثة ليست سوى لجنة تدير الشؤون المشتركة للبرجوازية بأسرها." كارل ماركس وإنجلز (1)

النضال مستمر،،
--------------------------
المراجع
1. ماركس، كارل – إنجلز، فريدريك. البيان الشيوعي. 1848.
2. حيدر إبراهيم علي. الإسلام السياسي في السودان: الصعود والهبوط. القاهرة، 1991.
3. إرشيف صحيفة التيار.
4. البنك الدولي. Sudan Economic Monitor. 2020.



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 4. الإنقاذ وتكثيف الطفيلية: من الأيديولوجيا إلى آلة النهب
- 3. التحول النيوليبرالي في عهد نميري: تفكيك القاعدة المنتجة
- 2. التأسيس الطائفي للرأسمالية الطفيلية في السودان (1898–1956 ...
- الأزمة البنيوية للرأسمالية الطفيلية التابعة في السودان
- 12. من الاحتجاج إلى بناء البديل الثوري في السودان
- التحديات والحلول الثورية
- 11. التحديات والحلول الثورية
- 10. الوهم الإصلاحي والواقع الطبقي
- 9. تفكيك إخفاق النماذج الجنينية في الثورة السودانية
- 8. المجالس الطبقية من البناء التنظيمي إلى المعركة الشاملة
- 7. المجالس الطبقية كسلطة بديلة: الطريق الوحيد أمام الثورة ال ...
- 6. السودان بين الثورة والثورة المضادة: السوفييتات أو الهزيمة
- الانتهازية والانعزالية: وجهان لعملة واحدة في أزمة اليسار الث ...
- 5. أشكال بلا مضمون: كيف حوّلت الثورة المضادة أدوات النضال ال ...
- 4. السوفييتات - النموذج التاريخي والضرورة الراهنة
- 3. الجذور التاريخية للثورة: دروس من تجارب الشعوب
- 2. الوهم الإصلاحي ولجان الأحياء: آلية البرجوازية الصغيرة لسر ...
- على خط النار: الثورة السودانية بين الأوهام والسلطة 1. لماذا ...
- 21. إصلاحية مقنّعة، جذرية منهزمة
- 20. المشروع الثوري: طبقية، تنظيم، ممارسة


المزيد.....




- لحظة درامية لفقمة تنجو من حيتان قاتلة بعد قفزها على متن قارب ...
- سرقة بطاقات نادرة بقيمة 10 آلاف دولار من متجر شهير بنيويورك ...
- مقتل شقيق الناشط البيئي أمين كساسي في مرسيليا رميا بالرصاص
- خمس دول أوروبية منضوية في حلف الأطلسي تتعهّد التصدي لتهديدات ...
- مجلس الأمن يصوت الإثنين على خطة ترامب حول غزة والمبعوث الأمر ...
- هل اقتربت الروبوتات من إدارة منازلنا؟
- رئيس فنزويلا للأميركيين: هل تريدون -غزة جديدة- في أميركا الج ...
- الحرس الثوري الإيراني يؤكد احتجاز ناقلة تحمل مواد بتروكيميائ ...
- -هند رجب- تلاحق جنديا إسرائيليا في التشيك
- غارديان: الخطة الأميركية تقسم غزة وتبقي الفلسطينيين بمنطقة ط ...


المزيد.....

- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد حسب الرسول الطيب - 5. إمبراطورية العسكر