عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8469 - 2025 / 9 / 18 - 23:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تتجلى الأزمة السودانية في بعدها الجندري كتجسيد عميق للتداخل بين الاستغلال الطبقي وإعادة إنتاج النظام الأبوي. النساء لم يكنّ ضحايا ثانويات لتحالف الطائفية والإسلام السياسي والعسكر، بل شكّلن موقعًا مركزيًا في مشروع السيطرة، حيث اعتمد هذا التحالف على إخضاع النساء اقتصاديًا واجتماعيًا وقانونيًا ليؤمّن استدامة تراكمه الطفيلي ونهبه للموارد. بهذا المعنى، يصبح جسد المرأة وعرقها وعملها غير المدفوع أدوات مباشرة في الصراع الطبقي، ويغدو تحررها شرطًا لا يمكن تجاوزه في أي مشروع ثوري [1].
هذا الموقع التاريخي للنساء في الأزمة السودانية هو امتداد لمسار طويل منذ الحقبة الاستعمارية. فقد تحالف البريطانيون مع الزعامات الطائفية لترسيخ البنى التقليدية بهدف تثبيت السيطرة على الأرض وعزل النساء عن وسائل الإنتاج عبر قوانين الأحوال الشخصية والقانون العرفي. هذا الترتيب أبعد النساء عن التملك والإرث، وجعل من تبعيتهنّ شرطًا لاستقرار النظام الاستعماري. ومع الاستقلال، لم تفكك النخب الطائفية هذا الإرث بل عمّقته، فتحوّلت الطائفة إلى جهاز اقتصادي–سياسي يجعل من النساء أدوات للولاء ومصدرًا للعمل الرخيص، في الوقت الذي ظل فيه خطاب الدين والطاعة يبرّر استمرار هذا التهميش. وفي عهد نميري، جرى توظيف الخطاب "الاشتراكي" لتمرير قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية، مما قنّن التمييز الجندري بشكل جديد وأبقى النساء خارج دائرة القرار والثروة [2].
ومع صعود الإسلام السياسي، تحوّل جسد المرأة إلى ساحة مركزية للصراع الأيديولوجي. لم تكن قوانين النظام العام مجرد قيود أخلاقية، بل أدوات للسيطرة على قوة العمل النسائية وتنظيمها، واستُخدمت لضمان بقاء النساء، خصوصًا من الطبقات الشعبية، في حالة خضوع دائم. وفي الأطراف، جاء دور العسكر ليكمل الدائرة بالعنف الجنسي كسلاح حرب. ففي دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، شكّل الاغتصاب الجماعي والترويع أداة لإعادة رسم الخريطة السكانية ولفتح الأرض أمام مشاريع النهب الطفيلي. وهكذا تحوّل القهر الجندري إلى سياسة اقتصادية قائمة بذاتها، تجعل من إخضاع النساء شرطًا للسيطرة على الموارد. وتشير تقديرات بعثة الاتحاد الأفريقي إلى أن أكثر من سبعين في المئة من النازحات في دارفور تعرضن لأشكال من العنف الجنسي الممنهج المرتبط بالسيطرة على الأرض والموارد [3].
ساعدت النيوليبرالية على إعادة إنتاج هذا القمع بوسائل أكثر "حداثة". فخطاب "تمكين المرأة" الذي روّجت له المؤسسات الدولية جاء متزامنًا مع الخصخصة والتقشف. فُرضت على النساء برامج التمويل الأصغر والعمل المنزلي المنتج، في الوقت الذي دُمِّرت فيه قطاعات الصحة والتعليم والخدمات العامة، أي القطاعات التي كانت النساء يعتمدن عليها في البقاء. ما بدا "تمكينًا" كان في الواقع إعادة إنتاج لتهميش النساء عبر تحميلهن عبء الفقر والعمل غير المدفوع. وتشير تقارير البنك الدولي نفسه إلى أن أكثر من 85% من النساء في السودان يعملن في القطاع غير الرسمي، من دون أي حماية قانونية أو اجتماعية، بينما استأثرت النخب الطائفية–الإسلاموية–العسكرية بالعوائد عبر شبكاتها الزبائنية [4].
ومع تفاقم الأزمة في العقدين الأخيرين، لعب اقتصاد الذهب والنفط دورًا محوريًا في تكثيف الاستغلال الجندري. فقد أزاحت مشاريع التنقيب الأهلي التي تمددت في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق آلاف النساء من أراضيهن الزراعية، وحولتهن إلى عمالة هامشية في أسواق الذهب أو إلى معيلات لأسر هجّرت بفعل النزاعات. كما أدى التوسع في قطاع النفط إلى تهجير واسع للسكان، وكانت النساء فيه الحلقة الأضعف: فقد فقدن مواردهنّ التقليدية من الأرض والمياه، وتعرضن للاستغلال في أعمال غير نظامية مرتبطة بخدمات المعسكرات ومراكز الاستخراج. لم يكن اقتصاد الذهب والنفط مجرد رافعة للطفيلية العسكرية–الطائفية، بل أداة مباشرة لإعادة إنتاج القهر الجندري، حيث تحولت النساء إلى ضحايا مزدوجات بالاقتلاع من مواردهن ثم إلقائهن في هوامش اقتصاد غير مستقر يرسخ تبعيتهن للنخب المسيطرة [5].
هذه الممارسات لم تقف عند حدود الاقتصاد أو القانون، بل صنعت بيئة متكاملة يستحيل فصلها عن النقاش العام حول تحالف الطائفية والإسلام السياسي والعسكر. فهذا التحالف لا يستمد بقاءه من السيطرة على الموارد وحدها، بل من إعادة إنتاج التراتبية الجندرية كآلية للهيمنة الطبقية. النساء هنا يتحولن إلى "ضمانة اجتماعية" للفقر: يُحرمن من الأرض والميراث، يُقمعن باسم الشرف والدين، يُهجّرن بالعنف الجنسي، ويُستخدمن كعمالة غير مدفوعة لتخفيف آثار الأزمة على الطبقات الشعبية، بينما تبقى الطفيلية مسيطرة [6].
غير أنّ النساء في السودان لم يكنّ مجرد ضحايا، بل فاعلات في المقاومة منذ البدايات. ففي ثورة 1924 ضد الاستعمار، لعبن دورًا حاسمًا في نقل الرسائل وإخفاء الثوار وتقديم الدعم اللوجستي، في وقت كان النظام الاستعماري يضع قيودًا صارمة على مشاركتهن في المجال العام. وفي ستينيات القرن الماضي، شكّلت الحركة النسوية الحديثة بقيادة الاتحاد النسائي السوداني علامة فارقة في النضال، إذ ربطت بين قضايا التحرر الوطني والعدالة الجندرية، وطالبت بالحقوق السياسية والاقتصادية في زمن كانت فيه أغلبية النساء مهمشات. الاتحاد النسائي، برموزه التاريخية مثل فاطمة أحمد إبراهيم وسعاد إبراهيم أحمد، وضع الأساس لربط تحرر المرأة بالتحرر الوطني والطبقي. وفي انتفاضة أبريل 1985 كما في ديسمبر 2018، لم يغب حضور النساء عن قيادة الشارع، حيث صرن "الكنداكات" أيقونة للمقاومة، يجمعن بين الشعارات الجذرية والتنظيم الميداني [7].
كانت ثورة ديسمبر حصيلة لتراكم طويل من هذا النضال النسوي. قيادة النساء للمواكب، تنظيم الإضرابات، وإبداع أشكال جديدة من التضامن الجماعي، كلها عكست إدراكًا بأن تحرر النساء لا ينفصل عن إسقاط النظام الطائفي–العسكري–الإسلاموي. التعاونيات النسوية التي تأسست في الأطراف بعد الحرب شكلت بدائل عملية، مقاومة لاقتصاد النهب والتهجير، ومقدمة لاقتصاد منتج قائم على العدالة. هنا تتجسد المقاومة النسوية كقوة تغيير جذري، لا كتفصيل ثانوي [8].
إن أي نقاش حول الأزمة السودانية يبقى ناقصًا إذا تجاهل هذا البعد الجندري. فالقهر ضد النساء ليس عَرَضًا جانبيًا، بل هو شرط بنيوي لبقاء النظام القائم. وبذا يصبح تحرير المرأة جزءًا لا يتجزأ من معركة تفكيك تحالف الطائفية والإسلام السياسي والعسكر. لا يمكن بناء بديل وطني ديمقراطي من دون تفكيك التراتبية الجندرية التي تحولت إلى أداة للنهب والسيطرة. إن أجندة التحرر الجندري في السودان يجب أن تشمل إلغاء القوانين التمييزية، وضمان حق النساء في الأرض والميراث، وحماية العاملات في القطاع غير الرسمي، ومساءلة مرتكبي العنف الجنسي كجزء من العدالة الانتقالية. كما يجب أن يُعاد بناء الاقتصاد على أسس منتجة تعترف بالعمل غير المدفوع وتوزع الثروة بعدالة، بحيث لا يبقى عبء الفقر مسندًا إلى النساء. هذه ليست إضافات ثانوية، بل هي قلب الصراع الطبقي والوطني معًا.
"لا تحرر للشعب بدون تحرر المرأة، ولا تحرر للمرأة بدون تحرر الشعب."
كلارا زيتكن
النضال مستمر،،
--------------------------
مراجع:
[1] Ibrahim, F. (2020). Women and the Political Economy of Sudan. Sudanese Studies Center.
[2] Sharkey, H. (2003). Living with Colonialism: Nationalism and Culture in the Anglo-Egyptian Sudan. University of California Press.
[3] African -union- Commission. (2019). Economic Dimensions of Sexual Violence in Darfur. Addis Ababa.
[4] World Bank. (2015). Women, Business and the Law: Discriminatory Regulations in Sudan. Washington D.C.
[5] Ali, N. (2017). Gendering the Sudanese State: From Colonialism to Islamism. Routledge.
[6] Sudanese Women s -union-. (2021). Neoliberalism and the Betrayal of Women s Empowerment. Khartoum.
[7] Sudanese Feminist Collective. (2023). Revolutionary Alternatives: Women s Cooperatives in Sudan s Peripheries. Khartoum.
[8] Ibid.
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟