عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8476 - 2025 / 9 / 25 - 12:20
المحور:
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
الموت في عرض البحر، الأجساد المكدسة في معسكرات الاحتجاز، الطائرات التي تعيد المهاجرين مكبّلين إلى بلدان دمرتها الحروب — كل ذلك يمثل التعبير الأكثر صفاءً عن منطق الإمبريالية الرأسمالية في عصرها الراهن، حيث لا تكون الحدود خطوطًا تحمي السيادة، بل أجهزة قمع طبقي تُدار بها حركة البشر، فيُسمح لبعض الأجساد بالعبور، ويُلقى بالبعض الآخر إلى مصائر الفناء [1].
فقه القانون الليبرالي يصف بعض المناطق بـ"مناطق استثناء"، لكن هذا التوصيف يخفي جوهر الدولة الحديثة في مرحلتها الإمبريالية. فحالات الغرق في البحر المتوسط، ومعسكرات الاحتجاز على الحدود الأميركية المكسيكية، ليست انحرافات أو خللا إداريا، وإنما نتاج مباشر للعلاقات الطبقية العالمية [2]. الفقر في الجنوب والثروة في الشمال ليسا معطيين طبيعيين، بل حصيلة عملية تراكم رأسمالي تقوم على إنتاج فائض بشري يُقصى حين لا يكون ضروريا ويُستدعى للاستغلال حين تحتاجه السوق. تصنيف هؤلاء البشر كـ"حيوات عارية" ليس مسألة قانونية، بل ضرورة اقتصادية لإدامة الرأسمالية.
ماركس شرح بوضوح أن الرأسمالية تحتاج باستمرار إلى "جيش احتياطي صناعي" من العاطلين والمهاجرين، حاضر دوما ليُستغل أو يُترك للفناء [3]. ما نشهده في الحدود الأوروبية تجسيد جديد لهذه الحقيقة: كتلة بشرية ضخمة من العمال القادمين من أفريقيا والشرق الأوسط تُستعمل لخفض الأجور وتمزيق التضامن العمالي، بينما تُحاصر بأنظمة قمعية وحدود دامية تمنعها من نيل الحقوق السياسية.
التاريخ الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية يقدم دليلا ماديا على ذلك. فقد جرى استقدام مئات الآلاف من العمال من تركيا والمغرب والجزائر ويوغسلافيا إلى ألمانيا وفرنسا وسويسرا. هؤلاء لم يُعاملوا كمواطنين بل كأجساد عاملة مؤقتة، بلا حقوق سياسية، محشورين في مساكن معزولة، يُستدعون لتشغيل المصانع ثم يُقصون عند أول أزمة اقتصادية. التجربة الألمانية مع العمال الضيوف توضح سياسة واضحة: تجريد المهاجر من إنسانيته السياسية وتحويله إلى أداة إنتاج قابلة للاستبدال.
هذه السياسة امتداد مباشر للاستعمار. فالهجرة الواسعة من الجزائر وتونس والمغرب إلى فرنسا في ستينيات القرن الماضي كانت نتيجة قرن من النهب الاستعماري الذي دمّر البنى الاقتصادية لشمال أفريقيا. وفي بريطانيا، أدى إخضاع شبه القارة الهندية إلى تشابك اقتصادي جعل وجود العمال الهنود والباكستانيين والبنغاليين في لندن وبرمنغهام استمرارًا للاستغلال الاستعماري داخل المركز نفسه [4].
الحدود في زمن الإمبريالية ليست خطوطا جغرافية بل أجهزة قمع طبقي. السوداني الذي يُطارد في ليبيا أو يُحتجز في معسكر يوناني ليس ضحية ظرف عابر، بل امتداد لتاريخ التبعية الاقتصادية التي ربطت السودان بمراكز الرأسمالية. سياسات صندوق النقد الدولي وتفكيك الزراعة المحلية أجبرت الملايين على الهجرة، ثم استُقبلوا كـ"تهديد أمني" على أبواب أوروبا. الحدود في هذا المعنى وسيلة لإدارة الفائض البشري الذي تخلقه الرأسمالية العالمية نفسها.
حتى الخطاب الإنساني المرافق لهذه السياسات جزء من الآلية الإمبريالية. الاتحاد الأوروبي يرفع شعار "إنقاذ الأرواح في البحر" بينما يمول خفر السواحل الليبي ليعيد القوارب إلى مراكز اعتقال تمارس فيها أبشع أشكال التعذيب. هذه ليست ازدواجية وإنما إستراتيجية منظمة: إنتاج صورة إنسانية لتغطية عنف منظم. لينين وصف الإمبريالية بأنها أعلى مراحل الرأسمالية، حيث يُعاد تقسيم العالم بين القوى الاحتكارية. الحدود الدامية اليوم تعيد إنتاج هذا التقسيم، فاصلة بين حياة تستحق الحماية وحياة محكومة بالفناء [5].
هذا الوجه الإنساني المزيّف ليس سوى مدخل لتعزيز الوجه الآخر للحدود: تحويلها إلى مختبر دائم لإعادة إنتاج عنف الدولة القومية. كل أزمة هجرة تُحوَّل إلى فرصة لتعزيز الأجهزة الأمنية والعسكرية، وتمويل الصناعات المرتبطة بالمراقبة، وتوسيع سلطات الشرطة. الحدود تصبح مختبرا لإجراءات استثنائية سرعان ما تُعمم على الداخل. تقنيات المراقبة التي تُطبَّق على المهاجر تُجرَّب لاحقا على المواطن، لتتحول الدولة القومية إلى جهاز دائم من الطوارئ الأمنية. بهذا المعنى، الهجرة ليست فقط أداة لإدارة فائض العمالة، بل وسيلة لإعادة شرعنة الاستبداد الداخلي باسم "حماية الأمة".
التحالف بين الرأسمالية الرقمية والبنية الحدودية يمثل وجها جديدا للعنف. شركات التكنولوجيا الكبرى توفر أنظمة التعرف على الوجه، وتحليل البيانات البيومترية، وتتبع الهواتف المحمولة، لتتحول الحدود إلى شبكة مراقبة رقمية شاملة. هذه الشركات تحقق أرباحا هائلة من عقودها مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ما يجعل قمع المهاجرين جزءا من دورة تراكم رقمية مرتبطة بالصناعة الأمنية. الحدود هنا ليست مجرد أسلاك وجدران، بل خوارزميات وسجلات بيانات، تدير أجساد المهاجرين كأرقام قابلة للتصنيف والاستبعاد.
المسألة لا تُفهم إلا بالانتقال من حقل الفلسفة القانونية إلى ميدان الاقتصاد السياسي. السؤال ليس "من يُمنح الحق في الحياة؟" بل "من يملك وسائل العيش؟ من يُنتج الثروة؟ ومن يُقصى عن ثمارها؟". الاستثناء القانوني ليس سوى غطاء للعنف الطبقي الذي يفصل بين العمال المحميين داخل الحدود والعمال المهاجرين خارجها.
نقد سياسات الاستثناء يفتح الطريق نحو تجاوز الدولة القومية البرجوازية ذاتها. الرأسمالية في عصرها الإمبريالي تنتج الهجرة بوصفها أزمة بنيوية، ولا تُحل إلا بمشروع أممي يربط نضال العمال في المركز بالمضطهدين في الأطراف. الاشتراكية العالمية وحدها قادرة على تحويل هذا الفائض البشري إلى قوة ثورية تُسقط الحدود وتفتح أفقا جديدا للبشرية، حيث "إما الاشتراكية أو البربرية" كما تقول روزا لوكسمبورغ.
الواقع السوداني يوضح هذه الجدلية. موجات الهجرة عبر ليبيا وتشاد والنيجر نحو المتوسط ليست حركة فردية، بل نتيجة مباشرة لانهيار الاقتصاد بفعل النيوليبرالية وصراعات البرجوازية العسكرية. ملايين الشباب السودانيين صاروا وقودا لمغامرة خطيرة عبر الصحراء، حيث الميليشيات تبيعهم في أسواق الاتجار بالبشر قبل أن تدفعهم إلى قوارب الموت نحو أوروبا. العنف يبدأ في الخرطوم قبل أن يبلغ أثينا أو روما.
وما يزيد وضوح هذا الترابط هو الدور الذي لعبته الخرطوم في العقد الماضي كمخبر للسياسات الأوروبية. فقد استُخدم السودان ضمن ما سُمّي بـ"عملية الخرطوم" التي أطلقها الاتحاد الأوروبي لتنسيق مراقبة الهجرة، بحيث تحولت أجهزة الأمن السودانية إلى ذراع حدودية بالوكالة. الخرطوم صارت نقطة فرز أولي للمهاجرين، حيث تُحتجز الأجساد وتُدار كمواد تفاوضية مقابل المعونات والتمويل. هذه التجربة تكشف أن السودان لم يكن مجرد مصدّر للمهاجرين، بل حلقة ضمن البنية الإمبريالية الأوسع لإدارة الحدود.
الاتحاد الأوروبي يدّعي محاربة "الهجرة غير الشرعية"، لكنه في الواقع يمول أنظمة قمعية في ليبيا والسودان لتعمل كحراس بالوكالة. هذا استعمار جديد يربط بين بروكسل وباريس وبرلين وبين أجهزة القمع المحلية التي تُحوّل أجساد المهاجرين السودانيين إلى رهائن سياسية واقتصادية. بذلك يُعاد إنتاج الانقسام الطبقي على مستوى عالمي: عامل أوروبي يتمتع بالحقوق، وعامل سوداني يُجرّد من كل حق.
مسؤولية الثوريين السودانيين أن يربطوا بين معركة التحرر الوطني والاجتماعي في الداخل، ومعركة المهاجرين السودانيين عبر الحدود. فالهجرة ليست هروبا فرديا بل انعكاسا لأزمة طبقية شاملة. حلها الإنساني والسياسي لا يوجد إلا في سياق ثورة تحطم التبعية الإمبريالية وتفتح أفقا للعدالة. فالنضال أممي، كما أورد جيفارا، حيثما وُجد ظلم.
وفي هذا السياق لا يمكن إغفال البعد الغذائي كجزء من منظومة الحدود الإمبريالية. التحكم في سلاسل الحبوب والذرة والزيوت النباتية يُستخدم اليوم كسلاح سياسي، حيث تُفرض سياسات "الأمن الغذائي العالمي" بما يخدم مراكز الرأسمالية ويجعل بلدان الجنوب رهينة للاستيراد والتقلبات السعرية. كل موجة ارتفاع في أسعار الغذاء تولد موجة هجرة جديدة، فيتضح بذلك أن الحدود لا تُدار فقط بالجيوش والشرطة، بل أيضًا عبر التحكم في الخبز والقمح، أي في أبسط شروط البقاء.
النضال مستمر،،
--------------------------
المراجع
[1] Mezzadra, S., & Neilson, B. (2013). Border as Method, or, the Multiplication of Labor. Duke University Press.
[2] De Genova, N. (2017). The Borders of “Europe”: Autonomy of Migration, Tactics of Bordering. Duke University Press.
[3] Marx, K. (1867). Capital: Volume I. Penguin Classics edition (1990).
[4] Balibar, É. (2004). We, the People of Europe? Reflections on Transnational Citizenship. Princeton University Press.
[5] Anderson, B. (2019). New -dir-ections in Migration Studies: Borders, Mobilities, and Integration. Routledge.
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟