عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8472 - 2025 / 9 / 21 - 23:08
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ظل السودان منذ بدايات القرن العشرين، مسرحاً لصراع طبقي محتدم، وإن اتخذ في ظاهره أشكالاً وطنية ضد الاستعمار البريطاني–المصري. فقد جاءت حركة 1924 لتكشف عن إمكانية فعل جماهيري واسع قادر على هز أركان الاستعمار، لكنها في الوقت نفسه فضحت الغياب الكارثي للقيادة الثورية المنظمة. فالمظاهرات الصاخبة للطلاب والجنود، والإضرابات الجزئية للعمال، لم تجد حزباً ثورياً يقودها نحو مشروع اشتراكي تحرري، بل بقيت رهينة النخبة البرجوازية الصغيرة التي تذبذبت بين الاستقلال الشكلي والإصلاح المحدود. وبذلك استطاع الاستعمار إعادة إنتاج سلطته عبر تحالف مع الطائفية والعسكرية، مانعاً تبلور قيادة ثورية حقيقية.
خلال الثلاثينيات والأربعينيات، تزايد نفوذ النقابات العمالية، خصوصاً في السكة حديد والموانئ والمشاريع الزراعية، إلى جانب النشاط الطلابي في كلية غردون وغيرها. لقد كان إضراب عمال السكة حديد عام 1948 علامة فارقة، إذ أبرز قدرة الطبقة العاملة السودانية على شلّ جهاز الدولة الاستعماري، لكنه أيضاً كشف أن الوعي الطبقي المتصاعد لم يجد الأداة التنظيمية القادرة على تحويله إلى سلطة سياسية. فالبرجوازية الوطنية الطامحة في الاستقلال اكتفت باستيعاب هذه القوة العمالية في برنامجها الإصلاحي، فيما بقي العمال والفلاحون محرومين من تمثيل طبقي حقيقي.
مع اقتراب الاستقلال (1956)، تعمّق هذا التناقض. الجماهير الشعبية – من عمال السكة حديد إلى مزارعي الجزيرة – رفعت شعارات التحرر الاقتصادي والاجتماعي، بينما اكتفت القوى البرجوازية الحاكمة بصفقة الاستقلال السياسي دون المساس ببنية الاقتصاد شبه الإقطاعي–الطفيلي. في هذه اللحظة التاريخية، وجد الحزب الشيوعي السوداني نفسه بين خيارين: إما بناء استقلالية طبقية ثورية، أو الدخول في تحالفات مع الطائفية لتعويض ضعف قوته البرلمانية. فاختار الثاني، وهو ما مثّل بداية الانحراف الاستراتيجي.
وهنا تكمن المعضلة الجوهرية: ففي مجتمع تسيطر عليه البنى الطائفية والقبلية، كان رفض أي تفاعل يهدد بالعزلة السياسية والجماهيرية المطلقة، مما دفع اليسار لاختيار التحالف كخيار "عملي". لكن غياب استراتيجية ثورية واضحة لهذا التفاعل حوّله من تكتيك مؤقت إلى شَرَك استراتيجي. فبدلاً من استخدام التحالفات لفضح تناقضات الطائفية وبناء قوى مستقلة من الأسفل، انزلق اليسار إلى تحالفات قمّة طمست هويته الطبقية وأفقدته استقلاليته، ليتحول من قائد محتمل للثورة إلى مجرد شريك هامشي في لعبة النخب، مما أضعف ثقة الجماهير به كممثل حقيقي لمصالحها.
وقد تجلت هذه التحالفات المشبوهة في ثلاثة أشكال رئيسية:
أولها، التحالف مع الطائفية، حيث نجد أنه في فترة ما بعد الاستقلال، دخل الحزب الشيوعي في تحالفات انتخابية وسياسية مع حزب الأمة (الأنصار) والاتحادي الديمقراطي (الختمية)، رغم التناقض الجذري بين الخطاب الطبقي العلماني للحزب ومشاريع هذه القوى الدينية–الإقطاعية. كان الهدف توسيع القاعدة البرلمانية، لكن الثمن كان التخلي عن خطاب الصراع الطبقي وتقديم تنازلات أيديولوجية، مما أفقد الحزب تميزه الثوري.
وثانيها، المساومات مع الإسلامويين، فقد تم في فترات متقطعة، خاصة خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، جرت مفاوضات وتفاهمات بين بعض قيادات اليسار وقادة الجبهة الإسلامية القومية بزعامة حسن الترابي، بدعوى مواجهة الديكتاتورية العسكرية أو البحث عن "أرضية مشتركة". هذه المساومات – وإن كانت تكتيكية – ساهمت في تطبيع الإسلام السياسي كفاعل شرعي في المعادلة السياسية، وسهلت صعوده اللاحق على حساب المشروع العلماني والديمقراطي.
وثالثها، التواطؤ مع العسكر، حيث كان أخطر هذه التحالفات هو المشاركة في حكومات عبود ونميري في فترات مختلفة، تحت شعار "إنجاز المكاسب الجزئية" و"منع الأسوأ". لكن المشاركة في أجهزة دولة قمعية – حتى لو كان بشكل محدود – أفقد اليسار مصداقيته كمعارض جذري للنظام، ورسّخ لدى الجماهير صورة اليسار كجزء من النخبة الحاكمة المنفصلة عن همومها.
كشفت ثورة أكتوبر 1964 حدود هذا المسار. فقد فجّرت الجماهير انتفاضة تاريخية عبر الإضرابات والمواكب، وأثبتت النقابات (المعلمين، الأطباء، المحامين) أنها قادرة على قيادة المواجهة. لكن هذا الصعود الجماهيري الجبّار اصطدم بحدود غياب القيادة الثورية القادرة على تحويل الانتفاضة إلى سلطة بديلة. فالقوى السياسية، بما فيها الحزب الشيوعي، تعاملت مع أكتوبر كأزمة حكم تحتاج إلى تسوية دستورية، لا كفرصة لتغيير جذري في بنية السلطة. وهكذا، بدل أن يتحول النصر الشعبي إلى ثورة اجتماعية، أُعيد تدويره في صفقة مدنية–عسكرية حافظت على جوهر الدولة البرجوازية، ليصبح انتصار أكتوبر بداية مرحلة جديدة من إعادة إنتاج الأزمة ذاتها.
في السبعينيات، ومع صعود جعفر نميري، وجد الحزب الشيوعي نفسه أمام خيار بالغ الخطورة: هل ينضم إلى ما بدا وكأنه "ثورة الضباط الأحرار" شبيهة بالتجربة الناصرية، أم يحافظ على استقلاليته الطبقية؟ اختارت قيادة الحزب الانضمام إلى انقلاب مايو 1969 بدعوى أن الضباط رفعوا شعارات اشتراكية وتحررية. لكن الرهان على ضباط الجيش كحاملين للمشروع الاشتراكي أثبت أنه أخطر أشكال الوهم السياسي. فما أن استقرت السلطة بين أيديهم، حتى كشف نميري عن طابعه الطبقي الحقيقي كجناح برجوازي مسلّح يسعى إلى الهيمنة المطلقة. وكانت النتيجة مأساة تاريخية: تصفيات دموية طالت عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق، وتفكيك النقابات العمالية والطلابية التي كانت قلب الحركة الثورية. مايو لم يكن مجرد خيانة سياسية؛ لقد كان إعلاناً صارخاً أن الجيش، مهما تبنّى من شعارات تقدمية، يظل أداة في يد الطبقة الحاكمة ضد أي استقلالية ثورية للجماهير.
انتفاضة أبريل 1985 أعادت للجماهير ثقتها في سلاحها التاريخي: الإضراب العام والمواكب الجماهيرية. فقد أُغلقت الموانئ وتوقفت السكة حديد وتعطلت الخدمات بفعل الإضرابات، فيما كانت النساء والطلاب يملؤون الشوارع بجرأة نادرة. كان المشهد مهيأً لانتقال السلطة إلى الجماهير المنتفضة. لكن غياب استراتيجية ثورية واضحة للإمساك باللحظة جعل هذا الزخم يتحول إلى انتصار ناقص. فبدلاً من أن تتبلور سلطة جديدة للعمال والفلاحين والطلاب، قفزت النخب المدنية–العسكرية إلى الواجهة لتقدم نفسها بديلاً جاهزاً. وبذلك تحوّل الإضراب العام من أداة لانتزاع السلطة الطبقية إلى مجرد وسيلة ضغط، انتهت بتدوير النظام مع تغييرات سطحية، بينما ظل جوهر البنية الاقتصادية–الاجتماعية دون مساس.
في التسعينيات، ومع صعود الإسلام السياسي إلى السلطة بانقلاب 1989، شهد السودان مرحلة جديدة. الحركة الإسلامية بقيادة حسن الترابي والبشير نجحت في الدمج بين الرأسمالية الطفيلية المستندة إلى جهاز الدولة والفساد، وبين خطاب ديني تعبوي استغل الفقر والجهل لخلق قاعدة اجتماعية. وقد استغلت عزلة اليسار وانقساماته لتفرض هيمنة مطلقة لثلاثة عقود. بعض فصائل اليسار لجأت إلى مساومات مع النظام أو اكتفت بالعمل النقابي الضيق، وهو ما عزز عزلة اليسار وأفقده ثقة الجماهير. في المقابل، استطاعت الحركة الإسلامية بناء شبكات مالية واقتصادية موازية، وخلق جهاز أمني–عسكري متغلغل في كل مفاصل الدولة، وهو ما جعل إسقاطها أكثر تعقيداً.
في العقد الأول من الألفية، بدأت لجان المقاومة في الأحياء الشعبية، إلى جانب حركات الطلاب والنساء، تشكل بديلاً جنينياً للقيادة الثورية المفقودة. لكنها بقيت معزولة عن مشروع سياسي موحد. ومع انفجار ثورة ديسمبر 2018، تحولت العفوية الشعبية إلى طوفان هائل أسقط البشير، لكن القيادة السياسية المرتبطة بتحالفات مع النظام القديم والبرجوازية الدولية حالت دون انتصار الثورة الكامل.
إن تاريخ السودان الحديث – من 1924 إلى ديسمبر 2018 – يثبت أن الأزمة ليست في شجاعة الجماهير، بل في غياب القيادة الثورية الواعية القادرة على تحويل العفوية إلى تنظيم، والغضب إلى سلطة بديلة. جوهر الأزمة هو التحالفات الاستراتيجية المشبوهة التي تذيب الهوية الطبقية لليسار وتحوّله إلى تابع للبرجوازية، بدلاً من أن يقود الجماهير إلى التحرر.
المهمة التاريخية المطروحة اليوم هي تحويل لجان المقاومة من خلايا احتجاجية إلى نواة سلطة شعبية بديلة، وبناء حزب ثوري حقيقي يربط بين المطالب الديمقراطية المباشرة (الحرية، السلام، العدالة) والأهداف الاشتراكية (الملكية العامة لوسائل الإنتاج، إنهاء الاستغلال، بناء دولة العمال والفلاحين). فبدون هذه القيادة، ستظل الجماهير تدفع دماءها لتسليم السلطة في النهاية لنخب قديمة بأقنعة جديدة.
إن لجان المقاومة التي تشكّلت في الأحياء الشعبية منذ العقد الأخير ليست ظاهرة معزولة، بل هي الامتداد التاريخي المباشر لمسار طويل من التنظيم الشعبي الذاتي بدأ مع حركة 1924، وتجد جذوره في إضرابات عمال السكة حديد عام 1948، ثم في النقابات التي قادت انتفاضة أكتوبر 1964، وتجلّى مرة أخرى في الإضراب العام الذي صنع أبريل 1985. كل هذه المحطات تؤكد أن الجماهير السودانية كانت تبتكر، في كل لحظة ثورية، أشكالها الخاصة للتنظيم المستقل الذي يسبق دائماً الأحزاب القائمة. لكن المأساة تكررت في أن هذه الأشكال لم تجد القيادة الثورية التي تطورها إلى سلطة بديلة. إن لجان المقاومة اليوم تحمل في داخلها إمكانيات استكمال ما بدأه عمال 1948 وجماهير أكتوبر وأبريل، أي الانتقال من الاحتجاج إلى بناء السلطة الشعبية المنظمة.
إن انتصار الثورة لا يعتمد على شجاعة الجماهير وحدها، بل على وجود قيادة ثورية واعية قادرة على تحويل الغضب الشعبي إلى سلطة جديدة، وتوحيد القوى الشعبية في إطار تنظيمي مستقل. وكما قال لينين: «من دون نظرية ثورية، لا يمكن أن تكون هناك حركة ثورية.» وهذا ما أثبته تاريخ السودان: من أكتوبر 1964 إلى أبريل 1985 ثم ديسمبر 2018، خرجت الجماهير ببطولة لا نظير لها وكانت دائمًا على قدر التحدي، لكن غياب القيادة الثورية حوّل انتصاراتها إلى هزائم مقنّعة، وأعادها إلى يد الجلاد، بعد أن ارتوت الأرض بدماء الشعب.
النضال مستمر،،
--------------------------
المراجع:
1. Lenin, V.I. – What Is to Be Done?
2. Fanon, Frantz – The Wretched of the Earth
3. Saul, John S. & Arrighi, Giovanni – Class, State and Revolution in Africa
4. Thomas, Peter D. – The Gramscian Moment: Philosophy, Hegemony and Marxism
5. Trotsky, Leon – The Revolution Betrayed
6. Robinson, Cedric J. – Black Marxism: The Making of the Black Radical Tradition
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟