عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8481 - 2025 / 9 / 30 - 20:39
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يُقدَّم "الانتقال المدني الديمقراطي" في الخطاب السياسي السائد كمخرج وحيد من الأزمة السودانية، لكن التحليل الماركسي يكشف كيف يتحول هذا المشروع إلى أداة لتفريغ الثورة من مضمونها الطبقي وإعادة إنتاج النظام القديم بأقنعة جديدة [1]. فالثورة الحقيقية ليست مجرد تغيير للوجوه في قصر الرئاسة، بل هي تحويل جذري لعلاقات القوة والملكية في المجتمع. الانتقال المدني كما تروجه النخب الليبرالية والبرجوازية الطفيلية هو عملية إدارة مضبوطة للتمرد الشعبي، تهدف إلى احتوائه ضمن حدود النظام الرأسمالي التابع وتحويل الطاقة الثورية إلى مجرد انتخابات وحكومة تكنوقراط ووثائق دستورية تكرس هيمنة الطبقات المستغِلة.
يُرفع شعار "الانتقال المدني الديمقراطي" في السودان اليوم بوصفه المخرج من أزمات الحرب، والانهيار السياسي، والديكتاتوريات العسكرية المتعاقبة. وهو شعار يبدو في ظاهره جذاباً، لأنه يرتبط بمطلب شعبي طويل الأمد لإنهاء عسكرة الدولة وبسط الحريات. غير أن الماركسية تكشف أن هذا الخطاب ليس بريئاً ولا محايداً، بل يمثل أداة سياسية لإعادة إنتاج سلطة الطبقة السائدة تحت غطاء مدني [2]. فبدلاً من معالجة جذور الأزمة المتمثلة في علاقات الاستغلال البنيوية، يجري تسويق "الانتقال" كإصلاح مؤسسي فوقي يهدف إلى إعادة تدوير سلطة البرجوازية الطفيلية والنخب الليبرالية، مع إخفاء الصراع الطبقي خلف شعارات عامة.
ينتج عن هذا الفهم المُزيّف للانتقال أن شعار "الحكم المدني" في السياق السوداني، كما في غيره من السياقات الثورية، يعمل كآلية لطمس التناقض الطبقي المركزي. فالمدنية هنا لا تعني سلطة الجماهير، بل تعني سلطة البرجوازية والبيروقراطية المدنية التي تختلف عن العسكر في الشكل لكنها تلتقي معهم في الجوهر: الحفاظ على علاقات الإنتاج القائمة [3]. إنها مدنية تهدف إلى إعادة إنتاج الدولة البورجوازية بجهازها القمعي والإيديولوجي، لا إلى تفكيكها. الانتقال المدني هنا يتحول إلى إصلاح تجميلي، يستبدل البزة العسكرية بالبزة المدنية، لكنه يبقي على بنية القمع عبر سلطة الرأسمال.
تقدم التجربة السودانية بعد ديسمبر 2019 نموذجاً صارخاً لهذا المسار الإصلاحي الفاشل، حيث تم اختزال الثورة في مفاوضات مع المجلس العسكري أنتجت شراكة دموية تلطخت أيادي قادتها بدماء الجماهير، بينما كانت أرجلهم تغوص في وحل المصالح الطبقية للبرجوازية الطفيلية [4]. وقد أدى هذا المسار إلى الحفاظ على نفوذ الجيش والأجهزة الأمنية الاقتصادي والسياسي، بينما تم تحويل الحراك الثوري إلى مظاهرات مسموح بها واعتصامات يمكن تفكيكها حين تشكل تهديداً حقيقياً. ولم يكن هذا المسار حتمياً، بل كان نتاجاً لغياب البديل الثوري المنظم القادر على تحويل لحظة الغليان الشعبي إلى أداة لاستيلاء الطبقات الشعبية على السلطة.
وتمتد جذور هذا الإشكال إلى التجارب التاريخية في السودان التي تكشف طبيعة هذا الوهم. ففي أكتوبر 1964، لم يذهب الانتقال بعد الإطاحة بدكتاتورية عبود أبعد من إعادة السلطة إلى الأحزاب التقليدية التي مثلت مصالح البرجوازية الصغيرة والطبقات الوسطى المرتبطة بالسوق الرأسمالي [5]. وبقي جهاز الدولة الاستعماري–العسكري كما هو، وظل الريف المهمش خاضعاً للاستغلال، مما أدى إلى عودة الديكتاتورية بعد سنوات قليلة. ثم أعادت انتفاضة أبريل 1985 المشهد نفسه، حيث أسلم "الانتقال الديمقراطي" السلطة لمجلس عسكري مع واجهة مدنية عاجزة، لينتهي بانقلاب 1989. وتكررت الحلقة في ديسمبر 2018، عندما قيدت القيادة الإصلاحية الثورة بشعار "الانتقال الديمقراطي"، لتوقع على شراكة مع العسكر وتجهض سلطة اللجان الثورية، مما أدى إلى حرب شاملة وانهيار شامل نتيجة عدم معالجة التناقضات الطبقية جذرياً.
ويتجلى هذا النمط بشكل أوسع في التجارب التاريخية المماثلة، حيث تشكل حالات مصر 2011 وشيلي بعد أليندي حلقات مترابطة في سلسلة واحدة من الإستراتيجية الإمبريالية لضبط الثورات وإفراغها من محتواها الطبقي. ففي مصر، مثل "الانتقال الديمقراطي" واجهة لاستعادة تحالف العسكر والبرجوازية التابعة تحت غطاء الشرعية الدولية [6]. أما في شيلي، فكان "الانتقال المدني" بعد الديكتاتورية الآلية التي ضمنت استمرار الهيمنة النيوليبرالية عبر إدارة محكمة للتغيير الشكلي [7]. وهذه النماذج ليست مجرد مقارنات تاريخية، بل تعبير عن منهجية إمبريالية موحدة في مواجهة المد الثوري العالمي.
وتؤكد هذه الدروس أن "الانتقال المدني الديمقراطي" ليس جسراً نحو التغيير الثوري، بل أداة لإعادة إنتاج سلطة الطبقة الحاكمة بوسائل جديدة، حيث تسعى القوى التي تتبنى هذا الشعار إلى دمج الجماهير في مشروع إصلاحي يعيد الاستقرار للرأسمالية التابعة [8]. وبذا تهدف إلى نقل الصراع من الشارع إلى صناديق الاقتراع، ومن المواجهة المباشرة مع الاستغلال إلى تنافس ليبرالي محدود داخل مؤسسات الدولة.
تكشف الماركسية أن الديمقراطية ليست شكلاً إجرائياً محايداً، بل يتحدد مضمونها بطبيعة السلطة الطبقية التي تمارسها. فما يسمى في السودان "الانتقال المدني" هو في الحقيقة إعادة توزيع للسلطة بين أجنحة البرجوازية، دون إشراك العمال والفلاحين كطبقات ثورية مستقلة. وحتى حين يرفع شعار "الحكم المدني"، فإن القوى الإصلاحية تعني به حكومة تكنوقراط مدنية مقيدة ببرامج البنك الدولي وصندوق النقد، لا سلطة الجماهير المنظمة في مجالسها ولجانها الشعبية [9]. وهكذا يتحول الشعار إلى قناع يخفي استمرار السيطرة الإمبريالية عبر مؤسسات التمويل الدولي، وإعادة إنتاج الاستغلال المحلي عبر الرأسمالية الطفيلية.
وتمثل القوى الدولية الداعمة لـ "الانتقال الديمقراطي" في السودان امتداداً لهذا المنطق، حيث لا تنطلق من إيمان مجرد بالديمقراطية، بل من حاجة إستراتيجية لاستقرار النظام الرأسمالي العالمي. فالديمقراطية الليبرالية في البلدان التابعة هي الشكل الأمثل لإدارة الاستغلال، حيث تضمن تدفقاً مستقراً للثروات وتوفر غطاءً شرعياً لنهب الموارد [10]. وبالتالي فإن الانتقال المدني في السودان يعني، من منظور هذه القوى، إعادة إنتاج نظام يمكن التعامل معه، يحكمه برجوازية طفيلية متعلمة تتقن لغة العصر، بدلاً من نظام عسكري فج يهدد بانهيار كامل.
في حين ان البديل الماركسي يقتضي فضح هذا الوهم عبر تفكيك محتوى "المدنية" الطبقي، حيث لا تعني المدنية الحقيقية حكم المحامين والأطباء، بل سيطرة الجماهير على مصيرها عبر مجالس شعبية. فالإنتقال الثوري ليس مرحلة بين نظامين بورجوازيين، بل عملية تفكيك متواصلة لجهاز الدولة القديم وبناء جهاز جديد يعبر عن ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين.
خطورة هذا الوهم تكمن في أنه يسلخ الثورة عن مضمونها الطبقي، مقدماً وعوداً بالحرية مع الإبقاء على أسس الاستغلال. فهو يزرع الأمل الكاذب في أن الديمقراطية الشكلية كافية لتحقيق العدالة، بينما تظل أي ديمقراطية تُبنى فوق أسس التبعية للرأسمالية ناقصة وخاضعة لإرادة الطبقة المالكة.
وبهذا تخدم أوهام الانتقال المدني الديمقراطي إعادة إنتاج النظام الرأسمالي العالمي، حيث تنشغل الجماهير بالاستفتاءات والانتخابات بينما تستمر آلات الاستغلال في الدوران. وتقتضي المواجهة الثورية تحطيم جهاز الدولة البورجوازي وبناء سلطة جديدة على أساس التنظيم الثوري للطبقة العاملة والفلاحين، حيث لا يمكن فصل الديمقراطية الحقيقية عن الاشتراكية والقطيعة مع التبعية الإمبريالية.
"إن نظرية الشيوعيين يمكن أن تلخص في جملة واحدة: إلغاء الملكية الخاصة."
كارل ماركس وفريدريك إنجلز.
النضال مستمر،،
--------------------------
المراجع:
[1] Marx, K. (1852). The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte.
[2]Lenin, V.I. (1917). The State and Revolution.
[3]Poulantzas, N. (1978). State, Power, Socialism.
[4]Berridge, W. (2015). Civil Uprisings in Modern Sudan.
[5]Niblock, T. (1987). Class and Power in Sudan.
[6]Achcar, G. (2013). The People Want: A Radical Exploration of the Arab Uprising.
[7]Klein, N. (2007). The Shock Doctrine: The Rise of Disaster Capitalism.
[8]Amin, S. (1976). Unequal Development: An Essay on the Social Formations of Peripheral Capitalism.
[9]Harvey, D. (2005). A Brief History of Neoliberalism.
[10]Robinson, W.I. (2004). A Theory of Global Capitalism: Production, Class, and State in a Transnational World.
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟