أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد حسب الرسول الطيب - 3. مأزق السلام الليبرالي














المزيد.....

3. مأزق السلام الليبرالي


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8480 - 2025 / 9 / 29 - 18:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تُقدَّم اتفاقيات السلام الليبرالي في الخطاب الدولي والسوداني كحل سحري للصراعات الممتدة، وكأن التناقضات البنيوية العميقة يمكن حلها بتوقيع بروتوكول أو تشكيل لجنة تفاوض. لكن التحليل الماركسي يكشف أن هذا "السلام" ليس مجرد غياب للحرب، بل أداة طبقية بالغة التطور لإعادة إنتاج هيمنة النخب الطفيلية والبرجوازية التابعة، حيث تُختزل معاناة الجماهير إلى مجرد مشكلة إنسانية يمكن إدارتها عبر المؤتمرات والمساعدات. فالسلام الليبرالي يمثل استمراراً للصراع الطبقي بوسائل أخرى — أقل كلفة على الطبقات السائدة وأكثر دهاءً في إدارة الأزمات، مع الحفاظ على الهياكل الأساسية للاستغلال الطبقي [1].

ينطلق المنهج الماركسي في تحليل اتفاقيات السلام من حقيقة أساسية: كل اتفاقية سلام ليست محايدة، بل تعكس موازين القوى الطبقية في لحظة تاريخية محددة. فاتفاقية نيفاشا (2005) لم تكن مجرد وسيلة لإنهاء الحرب، بل تجسيد لتحالف مصالح بين البرجوازية الطفيلية في الشمال والنخبة الجنوبية الناشئة، حيث تم تبادل السلطة السياسية مقابل الحفاظ على علاقات الإنتاج القائمة. وبينما حصلت النخبة الجنوبية على حصص في الحكومة والموارد، ظل الريف تحت علاقات الاستغلال الإقطاعية، مما ضمن استمرار تدفق الفائض الاقتصادي إلى المراكز الرأسمالية [2].

وفي دارفور والجنوب، تبرز المعاناة اليومية للفلاحين والمزارعين الذين ظلوا محرومين من الملكية الإنتاجية؛ ففي النيل الأزرق وجنوب كردفان انخفضت نسبة الأسر المالكّة للأرض من 65% إلى أقل من 40% خلال عشر سنوات، بينما تحكمت النخب الحاكمة بعوائد النفط والعائدات الاقتصادية، ما عزز هيمنتها على الجماهير المنتجة. وتؤكد هذه المعطيات ما وصفه ماركس بـ "التراكم البدائي"، حيث يتم فصل المنتجين المباشرين عن وسائل إنتاجهم بشكل منهجي [3].

ويمتد هذا النمط من إعادة إنتاج السيطرة الطبقية عبر اتفاقيات السلام ليشمل تجارب دولية مشابهة. ففي ليبيا بعد 2011، حولت عملية السلام إلى أداة لإعادة إنتاج هيمنة البرجوازية النفطية والمافيات المسلحة، بتوزيع المناصب والموارد بين النخب المتحاربة، بينما عانت الجماهير من انهيار الخدمات الأساسية. وفي أفغانستان، أعادت اتفاقيات السلام مع طالبان ترتيب التحالفات الطبقية لضمان استمرار تدفق المساعدات الدولية وتحقيق مصالح الشركات العابرة للقوميات [4].

وفي إطار الوضع السوداني، تؤكد اتفاقية أبوجا (2006) لدارفور هذا المنطق ذاته، حيث تم توزيع المناصب الوزارية والمقاعد التشريعية بين زعماء الحركات، بينما استمرت الأزمة الهيكلية لجماهير دارفور. ركزت المشاريع الاقتصادية بعد الاتفاقية على الخدمات الإغاثية قصيرة الأمد، بينما ظلّت ملكية الأرض ووسائل الإنتاج بيد النخب التقليدية والجديدة، وفي الفاشر خلق تدفق المساعدات اقتصادًا ريعيًا مرتبطًا بالإغاثة، وانخفضت نسبة المزارعين المنتجين من 72% إلى 38% خلال خمس سنوات فقط [5].

يتضح إذًا أن السلام الليبرالي يعيد إنتاج ما أسماه إنجلز "القوة الاقتصادية كقوة سياسية". الاتفاقيات لا تلغي الصراع الطبقي، بل تنقله إلى مستوى جديد، حيث تتحول الدولة إلى ساحة للتنافس بين الكتل الطبقية على تقسيم الفائض الاقتصادي. في السودان، جسدت اتفاقية جوبا (2020) ذروة هذا المنطق، إذ استخدمت لتوزيع المغانم بين النخب العسكرية والمدنية والمسلحة، بينما تم تأجيل المطالب الجوهرية للجماهير إلى أجل غير مسمى [6].

ولا يمكن فهم هذا النموذج بمعزل عن الدور الوظيفي للمؤسسات الدولية في النظام الرأسمالي العالمي. فالأمم المتحدة تعمل كأداة لشرعنة التدخلات الدولية تحت غطاء "المسؤولية عن الحماية"، بينما يكرس الاتحاد الأفريقي نموذج "الديمقراطية الليبرالية" كشرط للاستقرار الإقليمي، والإيقاد يعمل كوسيط تقني يحوّل الصراعات الطبقية إلى خلافات سياسية قابلة للإدارة [7].

في مواجهة هذا المشروع، ظهرت بعد ثورة ديسمبر 2019 مبادرات شعبية لتنظيم الأحياء والمزارع، حيث بدأت لجان محلية في إدارة الموارد الأساسية وتوزيع الغذاء والدواء بشكل مستقل عن المؤسسات الرسمية. هذه التجارب توفر نموذجًا عمليًا لكيفية تحويل الطاقة الثورية إلى قوة مادية حقيقية، قادرة على مواجهة نموذج السلام الليبرالي وإعادة بناء سلطة الجماهير المنتجة. فهذه ليست مجرد نظرية، بل ممارسة يومية للجماهير في إدارة شؤونها وإنتاج مقومات حياتها.

ويتبلور الدرس المادي للجماهير السودانية في أن السلام الحقيقي لن يتحقق عبر اتفاقيات توزع السلطة بين النخب أو مشاريع إغاثية قصيرة الأمد، بل يبدأ من تحطيم آلة الدولة البورجوازية القديمة، وتشكيل مجالس شعبية للعمال والفلاحين، وإعادة توزيع الأرض والثروة بشكل جذري. السلام الدائم يتطلب تنظيمًا شعبيًا قادرًا على إدارة الموارد المحلية وتحويل المساعدات من أداة تبعية إلى رافعة للإنتاج. عبر هذه القطيعة الثورية مع نموذج السلام الليبرالي فقط يمكن تحويل الطاقة الثورية للجماهير إلى قوة مادية قادرة على بناء سلام دائم.

"ليس السلام في العالم غياباً للنضال، بل هو تغيير في أشكاله. السلام الحقيقي هو انتصار العدالة الاجتماعية."
هوشي منه.

النضال مستمر،،
--------------------------
المراجع:
[1] Galtung, J. (1969). Violence, Peace, and Peace Research. Journal of Peace Research.
[2] Johnson, D. (2011). The Root Causes of Sudan s Civil Wars. James Currey.
[3] Marx, K. (1867). Capital: Volume I. Penguin Classics.
[4] Robinson, W. (2014). Global Capitalism and the Crisis of Humanity. Cambridge University Press.
[5] De Waal, A. (2007). War in Darfur and the Search for Peace. Harvard University Press.
[6] Berridge, W. (2015). Civil Uprisings in Modern Sudan. Bloomsbury.
[7] Chandler, D. (2006). Empire in Denial: The Politics of State-building. Pluto Press.



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 2. من حماية الأرواح إلى احتواء الثورة: تفكيك ماركسي لشعار ال ...
- 1. السلام، الحياة، الانتقال: مدخل ماركسي لفهم أوهام الإصلاح ...
- 14. الخاتمة: نحو بديل ثوري
- بيان المكتب السياسي: شعارات عامة بلا تحليل طبقي ملموس
- الحدود كجهاز قمع طبقي في عصر الإمبريالية
- 13. المهام الطبقية للثورة السودانية: من الوطني إلى الاشتراكي
- 12. مقاومة الهامش: الحركات الاجتماعية البديلة خارج الأطر الت ...
- 11. استراتيجيات المواجهة - تفكيك الطائفية والإسلام السياسي و ...
- 10. معضلة القيادة الثورية: أزمة اليسار والتحالفات المشبوهة
- 9. ثورة ديسمبر: انفجار التناقضات الطبقية
- 8. الهيمنة الطفيلية: التعليم والإعلام والدين في السودان
- 7. البعد الجندري للأزمة: النساء بين القهر والمقاومة
- 6. استعمار الداخل: الحرب كآلية للنهب المنظم في السودان
- 5. إمبراطورية العسكر
- 4. الإنقاذ وتكثيف الطفيلية: من الأيديولوجيا إلى آلة النهب
- 3. التحول النيوليبرالي في عهد نميري: تفكيك القاعدة المنتجة
- 2. التأسيس الطائفي للرأسمالية الطفيلية في السودان (1898–1956 ...
- الأزمة البنيوية للرأسمالية الطفيلية التابعة في السودان
- 12. من الاحتجاج إلى بناء البديل الثوري في السودان
- التحديات والحلول الثورية


المزيد.....




- حادثة هزت حيًا بأمريكا.. إليكم تفاصيل إطلاق نار مميت داخل كا ...
- اختفت دون أثر.. قصة المعلمة غادة رباح التي يُخشى مقتلها تحت ...
- صور متداولة لـ-فيضانات بالسودان بعد فتح بوابات سد النهضة-.. ...
- إدارة ترامب أمام أكبر موجة استقالات في البلاد: 100 ألف شخص ي ...
- اتهامات بالتلاعب بنتائج انتخابات مولدافيا
- فرنسا.. تهديدات بالقتل تطال رئيسة المحكمة التي دانت ساركوزي ...
- قبيل لقاء ترامب ونتانياهو...البيت الأبيض يقول إن إسرائيل وحم ...
- مصر: ما أسباب الحملة الأمنية على صناع المحتوى؟
- المغرب: سعاد البراهمة تؤكد أن -عنفا كبيرا مورس على المحتجين ...
- حرب المسيرات مشتعلة بين روسيا وأوكرانيا.. تصعيد من جديد


المزيد.....

- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد حسب الرسول الطيب - 3. مأزق السلام الليبرالي