أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - بغداد حين تعيد للعتمة صوتها.. مسرح الطيب على ضفاف دجلة














المزيد.....

بغداد حين تعيد للعتمة صوتها.. مسرح الطيب على ضفاف دجلة


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8478 - 2025 / 9 / 27 - 09:33
المحور: قضايا ثقافية
    


في الليالي التي تثقل بغدادَ بالحنين، حين ينام النهر على خاصرة المدينة مثل شيخٍ متعب، ينهض الفن ليقول إن هذه الأرض لم تُخلق للصمت. في ضوءٍ خافتٍ ينعكس على صفحة دجلة، وقف سعدون جابر ليعلن أن البيت يمكن أن يكون مسرحاً، وأن الجدران تستطيع أن تتحول إلى ذاكرة للأمة. لقد أعاد إلينا شيئاً من الزمن الذي كدنا نظنه قد غاب، حيث الأغنية العراقية لم تكن مجرد لحن، بل كانت قدراً يشبه قدَر دجلة حين يواصل جريانه مهما اعترضته الجسور.الأغنية العراقية ولدت منذ قرون وهي تحمل نكهة المقام، ذلك البكاء المتسامي الذي يذيب الحجر. من يوسف عمر إلى ناظم الغزالي، ومن داخل حسن إلى زهور حسين، تفتحت حدائق الغناء في بغداد كأنها ثمارٌ من نخيلٍ لا يعرف الموت. وفي الستينيات والسبعينيات، صارت بغداد عاصمة للألحان، تخرج منها أصوات تهز العواصم العربية وتمنح المستمعين لغة أخرى للحب والاغتراب. لكن العواصف التي مرت بالعراق بعد الاحتلال أطفأت المصابيح، وترك الغناء مكانه لعواصف الضجيج، حتى هبطت الأغنية من عليائها، وصرنا نرى بدل المقام العالي صدىً واهناً لا يشبه ذاكرة بغداد.وسط هذا الغبار، يجيء سعدون جابر، ليس فقط بصوته الذي ظلّ يرافقنا عقوداً، بل بروحه التي تصرّ على أن للفن رسالة تتجاوز حدود المسامع. فتح بيته على ضفاف دجلة، وحوّله إلى مسرح الطيب، وكأنه أراد أن يقول: "الفن بيتنا الأخير، والذاكرة التي نحتمي بها". على تلك الخشبة، اجتمع العشاق والغرباء والعائلات، ليتذكروا أن بغداد ما زالت قادرة على أن تُغني، حتى لو كان جرحها مفتوحاً.
في ليلة الافتتاح، ارتفعت الأصوات كأنها صلاة جماعية. وحين صعد رضا الخياط، عائداً من غيابه الطويل بسبب المرض، رفض الكرسي الذي وُضع له. أراد أن يقف. أراد أن يواجه العالم واقفاً. وصدح بصوتٍ يقطر حزناً ووفاءً، بموالٍ لبغداد وأهلها، حتى بدا وكأن دجلة قد توقف ليستمع. ثم أهدانا أغنيته التي لا تشيخ: طير الحمام. في تلك اللحظة، شعر الحاضرون أن الزمن قد عاد بهم إلى الوراء، إلى أيام كانت فيها بغداد تُغني لا لتتسلى، بل لتبقى حيّة.ولم يكن وحيد علي بأقل حماسة، فقد أشعل بصوته الحفل، مذكراً الناس بسنوات ظهوره الأولى، حين كان الغناء يخرج من القلب لا من حسابات السوق. ظل يغني أكثر من ساعة، كأنه أراد أن يثبت أن الأصالة لا تخضع لعمر، وأن الصوت الصادق يظل يطرق وجدان الناس مهما تغيرت الأزمنة.سعدون جابر لم يكتفِ بالصوت، بل أراد للمكان أن يحمل ذاكرة العراق كله. علّق على الجدران صوراً لرجالٍ ونساءٍ صاغوا وجدان هذا البلد: أنستاس الكرملي، فائق حسن، مصطفى جواد، الجواهري، علي الوردي، وغيرهم من حراس الثقافة. كأن الجدران ذاتها صارت تغني، وكأن الحضور لم يكونوا في بيت شخصي، بل في متحف حيّ، في مزارٍ لروح بغداد.أيها العراقيون، كم نحن بحاجة إلى مثل هذه المبادرات! في زمنٍ جُرّد فيه الفن من قدسيته، يأتي سعدون جابر ليعيد إلينا يقيناً بأن الأغنية العراقية لم تمت، وأنها قادرة على النهوض من تحت الركام. مسرح الطيب ليس مجرد مسرح، إنه وعدٌ بأن بغداد لن تنكسر، وأن البيت إذا فُتح للحب والغناء يمكن أن يصبح وطناً كاملاً.لقد هبط الغناء العراقي حين تكسرت البلاد على صخور الاحتلال، لكنه لا بد أن يصعد من جديد. وما فعله سعدون جابر هو بذرة لهذا الصعود، دعوة إلى أن نستعيد أصواتنا، وأن نجعل من الغناء جسراً آخر يربطنا ببغداد، تماماً كما يربط دجلة بين ضفتيه.سلام على سعدون جابر وهو يمنح الليل العراقي لمسة أمل. سلام على رضا الخياط الذي عاد واقفاً كأنه يتحدى الألم. سلام على وحيد علي وهو يعيدنا إلى أيام النقاء. وسلام على بغداد التي، رغم جراحها، تظلّ قادرة على أن ترفع رأسها وتغني.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البؤس العربي وفقدان الحياء: صرخة في وجه الرذيلة
- -بين دم الأرض وحديد السماء: تأملات في صراع القوى ومآل الإنسا ...
- نهداكِ… حين يغنّي البنفسج
- تراتيل الرماد فوق معبد اليورانيوم المكسور
- أشباح الموت في وطن الطوائف
- دول المذهب وعرش الدم
- كارثة الأشباح والعبيد في عراق الهدر
- ملحمة السيوف والنار… ذكرى الرد العراقي على العدوان الإيراني
- -مهرجان بغداد السينمائي… احتفال بالصدى الفارغ-
- مأساة المبدع بين حياةٍ يُغتال فيها وموتٍ يُستثمر فيه
- موازنة 2025… لمن ذهبت؟ بجيب الفأر أم بجيب الجار
- رحيل داود الفرحان… حين يغادر القلم وتبقى الذاكرة
- العراق: عبث الوجود وفلسفة البقاء
- إلى المجهول… حيث تُساق إيران وحدها
- موتٌ واحد بشرف… ولا حياة بألف خيانة
- حين يغتسل التاريخ في طين الذاكرة
- بين النص والسلطة: حرية الأمة ومصير العقل
- يا ربّ، لا أحتملُ عينيها
- -طقوس الجسد وديانة القبلة-
- العراق بين صناديق الموت وأقنعة الخيانة-.


المزيد.....




- دب خلف مقود السيارة.. إطلاق بوق بطريقة غير معتادة يكشف مفاجأ ...
- فرنسا: مقتل صوماليتين أثناء محاولة عبور المانش إلى بريطانيا ...
- عاجل | مصدر دبلوماسي مطلع للجزيرة: حماس لم تتلق أي مقترح جدي ...
- ما آلية الزناد التي ينتظر تفعيلها من قبل الأطراف الأوروبية ض ...
- مجزرة حمام الشط 1985.. عدوان إسرائيلي على تونس لاغتيال قادة ...
- لماذا يخشى الصحفيون في غزة من ارتداء السترات الواقية؟
- رئيس كولومبيا يتظاهر بنيويورك ويدعو لإنشاء جيش لتحرير فلسطين ...
- عاجل | زيلينسكي: أوكرانيا تسلمت منظومتي باتريوت من إسرائيل و ...
- روسيا تعلن السيطرة على 3 قرى شرق أوكرانيا
- يوم دام جديد بغزة وخروج 3 مستشفيات عن الخدمة


المزيد.....

- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - بغداد حين تعيد للعتمة صوتها.. مسرح الطيب على ضفاف دجلة