أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حين يغتسل التاريخ في طين الذاكرة














المزيد.....

حين يغتسل التاريخ في طين الذاكرة


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8470 - 2025 / 9 / 19 - 08:03
المحور: قضايا ثقافية
    


ما أشدّ دهشتنا حين نعيد النظر في دفاتر الماضي! نكتشف أن التاريخ، الذي نُقدَّم له كأنه صورة نقية لرحلة الإنسان، ليس سوى مرآة غائمة، تتناوب عليها الأيدي فتزيدها عكراً بدل أن تجلوها. كُتب التاريخ لا تخلو من ومضات نور، لكنها في الغالب محاطة بظلال كثيفة من التزوير، والانتقاء، والإخفاء المتعمد. إنه ليس مجرّد سجلٍّ محايد للأحداث، بل بناءٌ مملوء بالطين والدمع والعرق، وقد شُيّد على ركامٍ من الصراعات البشرية التي أراد لها الأقوياء أن تُخلَّد بأبهى صورة، فيما تُرك للضعفاء أن يغرقوا في النسيان.التاريخ، إذاً، ليس بريئاً. هو ابن السلطة، ووريث الغلبة، ومسرحٌ تتبدّل فيه الأدوار بين الطاغية والبطل، بين المخلّص والجلاد. فما أكثر الذين وُصفوا بأنهم منارات للعدل، بينما كانت أياديهم غارقة في دماء الأبرياء! وما أكثر الذين صُوِّروا لنا على أنهم رموز النقاء، بينما كانوا يصنعون أمجادهم على أنين المقهورين! تلك هي قذارته الكبرى: أنه يتعطر بدماء المظلومين، ويغتسل بدموع الجياع، ثم يخرج إلينا في حلّة من البطولة المزيّفة.لكن، ما علاقة كل هذا بالتقوى؟التقوى ـ في جوهرها ـ خيط رفيع بين الروح وخالقها، سرٌّ صامت لا يُرى ولا يُباع. غير أنّ الإنسان، منذ أن عرف الطمع في الدنيا والرهبة من المجهول، حوّلها إلى أداة. صارت التقوى بطاقة عبور إلى السلطة، وصكّ غفران يوزّع على العامة، وراية ترفع في وجه الخصوم. لقد أُفرغت من جوهرها الروحي لتُملأ بمصالح السياسة والاجتماع، حتى تحولت أحياناً إلى قناع يُخفي وراءه الإنسان عهراً من نوع آخر: عهر التزلف، عهر الرياء، عهر الوجوه المتعددة التي تلبس ثوب الطهر لتخفي عفن الداخل.
وهنا يلتقي التاريخ بالتقوى في مفترقٍ خطير: كلاهما استُخدم عبر العصور ليُخدّر العقول ويُقيد الإرادة. فالتاريخ يُصاغ على مقاس المنتصر، والتقوى تُؤوَّل بما يخدم السائد. وإذا اجتمع الاثنان، صرنا أمام نصٍّ يُروى باسم الماضي، ويُقدَّم باسم الطهر، لكن جوهره ليس سوى مزيجٍ من القذارة والعهر، يقدَّم للناس في كأس مقدس.وليس المقصود من هذا القول إنكار النماذج المضيئة أو الشواهد الطاهرة التي حفلت بها الأزمنة، فقد وُجد في التاريخ أنقياء حقيقيون، ووجد في التقوى صادقون مخلصون. لكن المشكلة تكمن في "التمثيل الجمعي"، أي في الصورة الكبرى التي تتسلّط على الوعي العام. إن التاريخ الرسمي يلتقط من الوقائع ما يخدم البناء السلطوي، ويُخفي ما يكشف عريه. وكذلك التقوى الرسمية، تلتقط من الروحانيات ما يجمّل الخطاب، وتُهمل ما يحرّر الإنسان من عبودية الأوثان البشرية.حين نتمعن في هذا المشهد، ندرك أن الخطر ليس في "الماضي ذاته"، ولا في "التقوى بذاتها"، بل في الطريقة التي يُعاد بها إنتاجهما. فالتاريخ ليس حدثاً وقع وانتهى، بل رواية تُحكى في الحاضر وتُستخدم لبناء المستقبل. والتقوى ليست شعوراً دفيناً فحسب، بل خطابٌ اجتماعي وسياسي يتجدد عبر الألسنة والمنابر. ولهذا فإن قذارتهما وعهرهما لا ينتميان إلى الماضي وحده، بل ينعكسان في حاضرنا، ويتسرّبان إلى وعينا اليومي.فانظر، مثلاً، كيف تُستحضر الحكايات القديمة لتبرير واقعٍ مأزوم! وكيف يُستعار خطاب الطهر لشرعنة صراعات الأرض! وانظر كيف يُقالب معنى التقوى ليصبح أداةً للطاعة العمياء، لا باباً للحرية الروحية! في هذه اللحظة بالذات ندرك أننا لسنا مجرد قرّاء للتاريخ، بل أسرى له. ولسنا مجرد عابدين لله، بل مستعبَدين باسم الله.لكن، هل نحن محكومون بالبقاء في هذا الوحل؟
ليس بالضرورة. فكما أن الطين يمكن أن يُشكَّل لبناء قِلاعٍ راسخة، كذلك يمكن أن يكون ساحة للغرق. وكما أن الماء يمكن أن يُطهّر، يمكن أن يُغرق. إن التاريخ، إذا ما قُرئ بوعي ناقد، قد يتحول من قذارة إلى درس، ومن عهر إلى عبرة. والتقوى، إذا ما عادت إلى جوهرها الأول، قد تتحول من سلعة إلى قيمة، ومن مظهر إلى حقيقة.إن الحاجة اليوم ليست إلى تمجيد الماضي ولا إلى شتمه، ولا إلى رفع شعارات التقوى ولا إلى هدمها، بل إلى "تحرير المعنى". علينا أن نعيد النظر في ما نعتبره مقدساً، وفي ما نرويه عن أنفسنا. علينا أن نميّز بين التاريخ كوقائع، والتاريخ كخطاب؛ وبين التقوى كحالة روحية، والتقوى كوسيلة اجتماعية. عندها فقط نتحرر من دوامة العهر المقنّع بالقداسة.
لقد آن الأوان لأن نسأل أنفسنا: هل نريد أن نظل نُعيد إنتاج قذارة التاريخ وعهر التقوى في أثواب جديدة؟ أم نجرؤ على أن نكسر هذه الحلقة، لنكتب رواية أخرى، ونعيش تقوى أخرى؟ إن الجواب لن يأتي من السطور القديمة ولا من الأصوات الصاخبة، بل من لحظة صدق نادرة بين الإنسان وضميره، حين يدرك أن الحرية أعظم من أي طين، وأن الطهر أوسع من أي قناع.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين النص والسلطة: حرية الأمة ومصير العقل
- يا ربّ، لا أحتملُ عينيها
- -طقوس الجسد وديانة القبلة-
- العراق بين صناديق الموت وأقنعة الخيانة-.
- المحطات المغبرة… دموع على أطلال الحرب
- -النجوم التي تعبت من الحراسة-
- العالم على شفا الحافة.. سردية النار والظل
- -الصمت وطن الأرواح-
- -مجرّتان في عينيها-
- نوافذ العدم
- العراق بين سُمّ المخدّرات وسوق الأعضاء
- بين الشكّ والوفاء
- سَنا العيون
- يتيم
- السينما الموءودة
- التفاهة والسفاهة: السرطان الذي يأكل الأدب العربي في القرن ال ...
- المال والسعادة.. جدل الإنسان بين وفرة الجيب وفراغ القلب
- الندم الكبير وضياع السيادة في زمن الضربات المتقاطعة...
- غبار المنافي المنقّحة
- حين يغدو البعد معبدًا للحب


المزيد.....




- لا إقامة دائمة قبل 20 عامًا.. بريطانيا تُعلن عن -أهم- تغيير ...
- حصريا لـCNN.. مسؤول إيراني: -البرنامج النووي قائم- رغم ما دم ...
- مصر.. سيدتان مسيحيتان تفوزان بجائزة عمرة.. وهذا ما فعلته وزي ...
- بركان ساكوراجيما في اليابان يثور مُطلِقاً أعمدة رماد كثيفة ف ...
- وزير الخارجية الفرنسية: صنصال سيعود إلى باريس قريبا
- هل تحطمت 3 طائرات للقوات الجوية الهندية في يوم واحد؟
- لماذا أقدمت الدانمارك على التجنيد الإجباري للفتيات؟
- تأخرت 10 دقائق.. تلميذة تفارق الحياة إثر -عقوبة- بدنية في مد ...
- الأول خارج أميركا.. -سيكس فلاغز- تعلن موعد افتتاح منتزهها ال ...
- رسائل إبستين تُسلط الضوء على العلاقات بين الصحفيين والمصادر ...


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حين يغتسل التاريخ في طين الذاكرة