أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - نوافذ العدم














المزيد.....

نوافذ العدم


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8465 - 2025 / 9 / 14 - 09:25
المحور: قضايا ثقافية
    


في مدينةٍ يلفّها الغبار من كل الجهات وتخنقها أصوات المارة والباعة وضجيج العابرين، كان سالم يستيقظ كل صباحٍ وهو يجرّ جسده كمن يجرّ ظلّاً مثقلاً، يمشي إلى الأرشيف العتيق حيث يعمل بين ملفات صفراء تشيخ أكثر من أصحابها. لم يكن له من شغفٍ سوى كتابة جملٍ مبعثرة على هوامش الأوراق، كلمات غامضة لا يقرؤها أحد، أشبه برسائل إلى الفراغ. كان يشعر أن وجوده في الدنيا ليس أكثر من هامش طويل لا ينتبه إليه أحد.وفي الليل، حين يهدأ الشارع ويصمت الحيّ، يجلس أمام نافذته التي تطلّ على حائط متآكل، بلا منظر ولا أفق. لكنه كان يرى في ذلك الحائط ذاكرة كاملة، ملامح الطفولة في القرية البعيدة، موت أمه على سرير بارد، وصرخة أبيه الأخيرة التي حفرت في روحه ندبة لا تندمل: "العالم يا ولدي حفرة، لا تقترب من حافتها." وكان يتساءل كلما أطبق الليل على قلبه: هل خُلق الإنسان ليعيش أم ليحمل وزر الموت المؤجّل الذي يلاحقه منذ ولادته؟
وذات مساءٍ، جلس في مقهى عند أطراف المدينة، حيث الروائح تختلط بدخان السجائر، وهناك رآها لأول مرة. ليلى، امرأة في منتصف الثلاثين، بملامح منهكة وعينين تشبهان نجوماً مطفأة. كانت ترسم في دفتر صغير وجوهاً بلا ملامح، ملامح مبتورة تتناثر مثل شظايا مرايا. سأَلها بصوت خافت وهو يرمق خطوطها المرتجفة: "أترسمين موتى أم أحياء؟" فابتسمت كمن يتكلم مع نفسه وأجابت: "أرسم ما لا وجود له، ربما أشباحنا." فأجابها دون أن يدري: "وأنا أيضاً أكتب ما لا وجود له." ومنذ تلك اللحظة صار بينهما خيط رفيع يربط روحين ضائعتين في عالم بلا مرفأ.المدينة لم تهدأ، كانت تغلي من الداخل. مظاهرات تعبر الشوارع، هتافات تخرق السماء، وأحلام تتفتت كزجاج تحت أقدام العساكر. كان سالم وليلى يجلسان على الرصيف يتأملان المشهد. قالت وهي تشدّ على دفترها: "ما جدوى كل هذا؟" فرد وهو يتأمل الوجوه الممزقة: "ربما نحاول أن نهزم العدم بالصوت، ولو للحظة." لكن الليل ابتلع كل الأصوات، وأعاد المدينة إلى صمتٍ خانق كأن شيئاً لم يكن.
في أحد أيام عمله، وبينما كان يتفحّص الملفات القديمة، وجد مخطوطة بلا عنوان ولا اسم كاتب، لكنها حملت على غلافها المتهالك جملة وحيدة: "نوافذ العدم." فتحها وبدأ يقرأ. ارتجف حين وجد السطور تصف حياته وكأنها مكتوبة عنه: "من يفتح نافذة في قلبه، سيرى أن الفراغ أكبر من كل امتلاء." ازدادت دهشته كلما توغل، حتى لم يعد يعرف إن كان يعيش نصاً قديماً أم أن النص هو الذي يعيش فيه.
بعد أيام قليلة، اختفت ليلى. لم يترك غيابها أثراً إلا دفترها الصغير على طاولة المقهى. قلب صفحاته فرأى وجهاً يشبهه مرسوماً بلا ملامح، وتحت الرسم جملة قصيرة بخط مرتجف: "ستفهم حين تُغلق النافذة." ومنذ تلك اللحظة صار يهيم في الشوارع مثل غريب لا يعرف أين ينتمي، يحمل في يده المخطوطة الغامضة ودفترها الصغير، كأنهما وصيتان من عالمين لم يلتقيا.وحين جاء الليل الماطر، عاد سالم إلى بيته. جلس أمام نافذته الأخيرة، فتح الكتاب على الصفحة البيضاء في نهايته، ومد يده وكتب ببطء: "أنا أيضاً فتحت نافذتي، فرأيت العدم يبتسم." أغلق الكتاب، أغلق النافذة، ثم غاب.
وفي الصباح، حين فتح الجيران نوافذهم على ضوء النهار، وجدوا نافذته مشرعة على الهواء، والغرفة فارغة تماماً، بلا أثر لسالم. كأنما ابتلعه الفراغ الذي كان يكتب عنه طيلة حياته. بقي الكتاب على الطاولة مفتوحاً على تلك الجملة الأخيرة، يقرؤها كل من يجرؤ أن يطلّ على نوافذ العدم، ويدرك متأخراً أن العدم لم يكن بعيداً قط، بل يسكن فينا منذ اللحظة الأولى، يتربص بابتسامة لا يراها إلا من أغلق نافذته على نفسه.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق بين سُمّ المخدّرات وسوق الأعضاء
- بين الشكّ والوفاء
- سَنا العيون
- يتيم
- السينما الموءودة
- التفاهة والسفاهة: السرطان الذي يأكل الأدب العربي في القرن ال ...
- المال والسعادة.. جدل الإنسان بين وفرة الجيب وفراغ القلب
- الندم الكبير وضياع السيادة في زمن الضربات المتقاطعة...
- غبار المنافي المنقّحة
- حين يغدو البعد معبدًا للحب
- الوطن يختنق بخوفنا
- البعد
- ريما حمزة.. أنثى الوتر ومرآة البازلت
- حامد الضبياني: شاعر وفيلسوف الكلمة العربية المعاصرة بقلم فرح ...
- أوتار بابل ونايات الرافدين: الموسيقى في الحضارة العراقية وأص ...
- ميلاد النور
- الضبياني… مراثي الطاعة وأغاني الحرية
- اتركوا بهرز لأهلها
- أول من نطق العربية: بين الأسطورة والتاريخ
- حين تُصبح السيولة سراباً.. المتقاعد بين جدار الجوع وجدار الس ...


المزيد.....




- من أين أتى؟ علماء يكشفون معلومة صادمة عن تمثال أسد أثري بإيط ...
- طوله 12 قدمًا.. صائد تماسيح يصاب بالدهشة بعد تمكنه من أضخم ت ...
- قطر والتلويح بضربها مجددا.. وزير الخارجية الأمريكي يعلق
- حرب غزة في يومها 709: قتلى في قصف إسرائيلي منذ الفجر وعمليات ...
- هانوفر .. مركز الجالية السودانية وقلبها النابض في ألمانيا
- الأرق ليس مجرد تعب.. دراسة تربطه بزيادة خطر الخرف
- وزير الخارجية الأمريكي في إسرائيل مؤكدا دعم بلاده رغم الضربا ...
- بكين تجري دوريات في بحر جنوب الصين وتحذر الفلبين من الاستفزا ...
- شقيقة زعيم كوريا الشمالية تحذر جيرانها من -استعراض متهور للق ...
- توقيف رئيس بلدية معارض بإسطنبول بتهم فساد وابتزاز


المزيد.....

- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - نوافذ العدم