أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - أشباح الموت في وطن الطوائف














المزيد.....

أشباح الموت في وطن الطوائف


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8475 - 2025 / 9 / 24 - 18:11
المحور: قضايا ثقافية
    


لم يكن الوطن سوى مقبرةٍ تتنكر في هيئة مدينة، شوارعها مظللة بدموع الغيم، وبيوتها تسكنها الرياح بدل البشر. كل حجر فيه كان يحفظ صرخة قديمة، وكل جدارٍ مهدمٍ يروي خيانة باسم الله، حتى صار الموت هو اللغة الرسمية، وصار الحب جريمة كبرى أشد خطراً من القتل. كانت الأشباح تتجول بين الأزقة لا لتفزع الناس، بل لتذكرهم أن التاريخ لم يدفن ضحاياه بعد، وأن الأرض التي شربت دماءهم ما زالت عطشى لمزيد من الدماء. هناك، حيث تُقسم الطوائف أن لها وحدها طريق الخلاص، صار الله نفسه يتيماً، وصار الحب يتخفى في الظلال مثل عاشقٍ محكوم بالإعدام.كنتُ أمشي في الطرقات حين شعرت بأن الهواء ليس هواءً، بل أنين متواصل، أنفاس مختلطة بمزيج من البكاء والتراتيل، ورأيت أشكالاً غير مكتملة تمشي بجانبي، لا تحمل ملامح وجوه، لكن عيونها تتقد كالجمر، عيون العشاق الذين قُطعت أعناقهم، وعيون الأطفال الذين سقطوا قبل أن يعرفوا أسماءهم. حاولت أن أُغمض عيني، لكن العتمة كانت أشد وضوحاً من النور.تقدمت نحوي امرأة بثوب أبيض ملوث بحمرةٍ داكنة، همست بصوتٍ مكسور: "لماذا لم نُدفن؟ لماذا لم يُنصب لنا شاهدٌ واحد؟ لقد سرقوا حتى أسماءنا، فصرنا ظلالاً بلا تاريخ." ثم اختفت، تاركة خلفها عبيراً يشبه مزيجاً من ياسمينٍ وبارود. أدركت حينها أن الموتى في هذا الوطن ليسوا موتى، بل أسرى معلقون بين عالمين، وأن الطوائف حين قتلتهم أبت أن تمنحهم حتى راحة القبر.كنت أعرف أن الحب هو السر الوحيد الذي يجرؤ على مقاومة هذه الفجيعة. في طرف المدينة العتيقة سمعت حكاية عاشقين ذُبحا في ليلةٍ واحدة لأنهما تجرآ على تفضيل القلب على المذهب، وقيل إنهما تمسكا ببعضهما حتى اللحظة الأخيرة، فامتزج دمهما وصارا شبحاً واحداً يتجول ليلاً على عتبة بيتٍ متهدم. بعض الناس أقسم أنه رآهما يمشيان متشابكي الأيدي، يبتسمان أحياناً، ويذرفان الدموع أحياناً، وأن كل من يمر هناك يسمع نغمةً عذبة تنبعث من فراغ، كأن الحب نفسه يُصرّ على أن يبقى حياً رغم مقصلة الطوائف.
أحياناً كنت أجلس قرب النهر، أراقب الأشباح وهي تنعكس على الماء. لم تكن صورهم كاملة، بل متكسرة مثل مرايا محطمة، لكن الغريب أن انعكاساتهم كانت أجمل من وجوه الأحياء. جاءني شبح رجلٍ مُسن، جلس بقربي وقال: "لقد سرقوا حتى موتنا، نحن نبحث عن اعترافٍ واحد، عن دمعةٍ صادقة، عن وطنٍ يعترف أن القتلى بشرٌ لا أرقام. نحن أشباح لأنهم لم يتركوا لنا قبراً ننام فيه." كانت كلماته تتسرب في قلبي مثل ماءٍ باردٍ يغمر جرحاً ملتهباً.وفي الليالي الأخرى، كنت أرى امرأة اسمها سلمى تجلس وحدها في بيتٍ مظلم على الحافة. كانت تُحادث ظلّ حبيبها الذي رحل قسراً: "أتعرف يا حبيبي؟ لم أعد أخاف الموت، أخاف فقط أن يقتلوا حبنا كما قتلوا كل شيء. سأكتب للحب وصية، ليبقى شاهداً علينا حتى لو تحوّلنا إلى رماد. الحب لا يموت، لكنه يختبئ مثل شبحٍ يراقبهم من بعيد." وكنتُ أرى ظلّ الرجل يبتسم في صمتٍ، ابتسامة تُشبه وطنًا جديدًا يولد من تحت الركام.لكن الطوائف لم تكن تعرف سوى لغة الدم. كلما سالت دمعة في عيون الأحياء، سالت شلالات من الدماء في الشوارع، وكان القتلة يرفعون راياتهم ويقسمون أن السماء معهم. وما دروا أن السماء انطفأت نجومها، وصارت تبكي على الأرض، وأن الأرض صارت تتقيأ أشباحاً أكثر مما تنبت زرعاً.وذات ليلة، اجتمعت كل الأشباح في ساحة المدينة. لم أرَ مشهداً أشد رهبة من ذلك. كانوا يتزاحمون، رجال ونساء، أطفال وشيوخ، يحمل بعضهم قلوبهم في أيديهم كزهورٍ ميتة، وبعضهم يحمل رسائل حبٍ لم تصل أبداً، وآخرون يرفعون كتباً مقدسة ملطخة بالدم. وفي وسطهم وقف العاشقان القديمان، أول الأشباح الذين سكنوا هذا الوطن، وقالا بصوتٍ واحدٍ يهزّ أركان الليل: "لا تصدقوا أن الموت نهاية، ولا أن الحب ضعف. نحن هنا لنثبت أن الروح أقوى من الطوائف، وأن الحب هو الطريق الوحيد إلى الله."
عندها انطفأت المصابيح، وبقيت الساحة مضاءة بوهجٍ غريب يصدر من أجساد الأشباح. الأحياء الذين شاهدوهم ارتجفوا، بعضهم بكى لأول مرة، بعضهم جثا على ركبتيه، وآخرون هربوا مذعورين. لكن الأشباح لم يطاردوا أحداً، كانوا فقط يكتبون في الهواء بضيائهم وصية جديدة لوطنٍ قديم: "لا تجعلوا من الله طريقاً إلى الدم، اجعلوا من الحب طريقاً إلى الله."ومنذ تلك الليلة لم تعد المدينة كما كانت، صار كل من يمر بأزقتها يسمع همساً يلاحقه، يرى ظلالاً تتحرك خلفه، ويشعر بيدٍ باردة تمسك قلبه. كان السؤال يلاحق الجميع: هل هؤلاء موتى لم يجدوا قبورهم، أم عشاق لم يجدوا وطناً لحبهم؟ لم يكن أحد يعرف الجواب، لكن الحقيقة بقيت معلقة في سماءٍ ملبدة: أن الحب والموت توأمان في وطن الطوائف، لا يفترقان، وأن الأشباح ليست سوى ضمير هذا الوطن، تذكّره بأن الدم لا يُمحى بالزمن، وأن الحب وحده هو النجاة الأخيرة في أرضٍ فقدت معنى الحياة.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دول المذهب وعرش الدم
- كارثة الأشباح والعبيد في عراق الهدر
- ملحمة السيوف والنار… ذكرى الرد العراقي على العدوان الإيراني
- -مهرجان بغداد السينمائي… احتفال بالصدى الفارغ-
- مأساة المبدع بين حياةٍ يُغتال فيها وموتٍ يُستثمر فيه
- موازنة 2025… لمن ذهبت؟ بجيب الفأر أم بجيب الجار
- رحيل داود الفرحان… حين يغادر القلم وتبقى الذاكرة
- العراق: عبث الوجود وفلسفة البقاء
- إلى المجهول… حيث تُساق إيران وحدها
- موتٌ واحد بشرف… ولا حياة بألف خيانة
- حين يغتسل التاريخ في طين الذاكرة
- بين النص والسلطة: حرية الأمة ومصير العقل
- يا ربّ، لا أحتملُ عينيها
- -طقوس الجسد وديانة القبلة-
- العراق بين صناديق الموت وأقنعة الخيانة-.
- المحطات المغبرة… دموع على أطلال الحرب
- -النجوم التي تعبت من الحراسة-
- العالم على شفا الحافة.. سردية النار والظل
- -الصمت وطن الأرواح-
- -مجرّتان في عينيها-


المزيد.....




- أسعار السيارات في مصر تواصل هبوطها.. كم بلغت؟
- اللحظات الأولى لحادثة إطلاق النار داخل مركزٍ لشرطة الهجرة ال ...
- لحظة مخيفة.. حفرة عملاقة تبتلع عددًا من السيارات في تايلاند ...
- الأمير هشام العلوي يقاضي اليوتيوبر محمد رضا الطاوجني بعد تصر ...
- ترامب يهدد بمقاضاة -إيه بي سي- بعد إعادة برنامج جيمي كيميل
- فيديو - في طريقه إلى غزة.. -أسطول الصمود- يتعرّض لهجوم بمسيّ ...
- صور أقمار صناعية تكشف: إيران تعيد بناء مواقع صواريخها التي ا ...
- سفينة إنقاذ إيطالية لمرافقة -أسطول الصمود- عقب الإبلاغ عن تع ...
- محتجزة عند الحدود الأمريكية بعد فرارها من إيران... مليكة ماز ...
- ماكرون : أوكرانيا في الخطوط الأمامية لأمننا الجماعي


المزيد.....

- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - أشباح الموت في وطن الطوائف