محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)
الحوار المتمدن-العدد: 8465 - 2025 / 9 / 14 - 16:10
المحور:
القضية الفلسطينية
غزة، تلك البقعة الضيقة من الأرض، باتت اليوم مسرحاً لفاجعة لا يشبهها تاريخ. مدينة تُقصف من السماء، وتُحاصر من البحر، وتُستنزف من البر، حتى غدت خرائطها رماداً، وأزقتها أنهاراً من دماء الأبرياء.
في غزة، لم يعد الأطفال يلهون وراء أحلامهم الصغيرة؛ بل صاروا أرقاماً تُتلى على عجل في نشرات الأخبار. والنساء اللواتي أنجبن الحياة، يحملن الآن موتاً مضاعفاً في قلوبهن، كأن الأرحام التي كانت تنبض بالأمل قد تحولت إلى مدافن مبكرة.
لكن المأساة لا تقتصر على آلة الحرب وحدها؛ فخلف كل صاروخٍ يسقط يدٌ أمريكية تزوّد القاتل بأدوات الموت، ومالٌ عربي – بوعي أو بغفلة – يتسرب إلى خزائن المذبحة.
وحين صافح حكّام الخليج الرئيس الأمريكي ترامب بابتساماتٍ عريضة، توهّموا أنهم يشترون أمانهم، بينما كانوا في الحقيقة يوقّعون شيكاً مفتوحاً لذبح إخوتهم في فلسطين.
إنها لحظة انكشاف، لحظة يسقط فيها القناع عن عالمٍ يدّعي الإنسانية. أيُّ عدلٍ هذا الذي يُبيح إبادة شعبٍ لأنه أراد الحياة؟ وأيُّ حضارةٍ هذه التي تكتفي بمشاهدة المذابح كأنها مجرد مشاهد عابرة على الشاشات؟
غزة لا تموت بالقصف فقط، بل تموت أيضاً بصمت من كان يُفترض أن يكون سندها، وبنسيان أجيالٍ قد تُربّى على روايةٍ مزوّرة تخلو من الحقيقة والوجع.
علّموا أبناءكم أن ما يحدث في غزة ليس حرباً بين طرفين متكافئين، بل إبادة بطيئة لشعبٍ أعزل محاصر. أخبروهم أن الدم الفلسطيني لم يكن رخيصاً، بل كان ثمنه يُدفع من خزائن الأغنياء العرب، وأن مفاتيح الخيانة سُلّمت إلى الأعداء طوعاً. أخبروهم أن غزة لم تنهزم، وإنما تُركت وحيدة في وجه نارٍ تفوق طاقتها، ومع ذلك قاومت وصمدت لتبقى الشاهد الأخير على أن الكرامة لا تُشترى.
سجّلوا للتاريخ: أن غزة أُبيدت أمام مرأى العالم ومسمعه، وأن الرصاص الذي اخترق صدور أطفالها جاء بأيدٍ متحكِّمة، وبأموالٍ قريبة نسباً ودماً. ولا تتركوا للرواة المزوّرين فرصةً أن يكتبوا للتاريخ حكايةً بلا ألمٍ أو حقيقة.
غزة ليست خبراً عابراً يطويه النسيان. غزة جرحٌ مفتوح في قلب الأمة، وصوتٌ يعلو على صمت الخيانة، وصرخةٌ باقية مهما طال ليل الإبادة.
غزة تُودِّع أبناءها كل يوم، لكن العالم يشيّع إنسانيته معها في صمتٍ مخزٍ لا يُغتفر.
وكأن الليل نفسه يبكيها، فيغدو القمر شاهداً على جرحٍ لم يندمل، وصرخةٍ لن تنطفئ.
وما أبشع عالماً يرى الإبادة رأي العين، ثم يواصل يومه وكأن شيئاً لم يكن.
[محمود كلّم] كاتبٌ فلسطيني، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.
#محمود_كلّم (هاشتاغ)
Mahmoud_Kallam#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟