محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)
الحوار المتمدن-العدد: 8432 - 2025 / 8 / 12 - 11:45
المحور:
القضية الفلسطينية
لم يكن استشهاد أنس الشريف إلا حلقة جديدة في سلسلة طويلة من اغتيال الكلمة، ولم يكن رحيل محمد قريقع إلا فصلاً آخر في معركة مفتوحة ضد الحقيقة.
ومن قبلهم، رحل كثيرون حملوا الكاميرا والقلم والميكروفون كسلاح، في مواجهة آلة الاحتلال التي تدرك أن الصورة الصادقة أفتك من الرصاصة، وأن الكلمة المخلصة أقوى من ألف دبابة.
أنس الشريف، ابن مخيم جباليا، كتب وصيته الأخيرة بدم قلبه قبل أن يخطها بحبره، وأوصى بفلسطين وأهلها وأطفاله، وأوصى أن تبقى الحقيقة حيّة… لكن العالم قرأ وصيته كما يقرأ نشرة الطقس، ثم قلب الصفحة.
أما محمد قريقع، ابن غزة، الذي ملأ السماء بصوره المشرقة للحياة رغم الحصار، فقد صار هو نفسه صورة معلّقة على الجدران، وذكرى حيّة في قلوب من أدركوا أن الحرية لا تُنال إلا بثمن باهظ.
وقبلهم، كان هناك من حملوا الكلمة حتى آخر نفس، فسقطوا وهم ينتزعون صرخة من بين أنياب الصمت، ويشعلون شمعة من بين أصابع الدم.
كتبوا ضد الاحتلال، وضد الإبادة في غزة، والتقطوا الحقيقة قبل أن يبتلعها الغبار، ووثّقوا الجريمة قبل أن تُطمس معالمها.
لكن الضمير الإنساني، الذي كان يُفترض أن ينتفض حين يرى الصحفيين يُقتلون في الميدان، جلس في مقعده صامتاً، يعدّ الضحايا بالأرقام، ويتعامل مع الدماء كإحصائيات باردة.
اليوم، ونحن نودّع أنس ومحمد، ومن سبقهم من فرسان الحقيقة، لا نرثيهم وحدهم، بل نرثي إنسانية عالمٍ ماتت يوم قبلت أن يكون قتل الصحفيين خبراً عابراً في شريط الأخبار.
نرثي مواثيق حرية الصحافة التي تحوّلت إلى أوراق صفراء لا تمنع رصاصة، ولا توقف قصفاً، ولا تحمي حامل الكاميرا من قنّاص يراه هدفاً مشروعاً.
أنس الشريف كان يظن أن صوته سيصل يوماً، ومحمد قريقع كان يعتقد أن الصورة قد تهز الضمير العالمي… لكنهما، وهما في عليائهما الآن، يعلمان أن الضمير الإنساني لم يهتز، وأن صمته يشبه صمت أهل القبور، لا يسمع ولا يجيب.
ومع ذلك، سنظل نكتب كما كتبوا، ونصوّر كما صوّروا، ونصرخ كما صرخوا، لأن الحقيقة لا تموت بموت أصحابها، ولأن دماءهم ستبقى تطارد القاتل، وتفضح الصامت، وتوقظ من بقي فيه ذرة من إنسانية.
[محمود كلّم] كاتبٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنَين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.
#محمود_كلّم (هاشتاغ)
Mahmoud_Kallam#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟