|
ضياع
رانية مرجية
الحوار المتمدن-العدد: 8457 - 2025 / 9 / 6 - 22:06
المحور:
الادب والفن
كان يمشي كأنه يجرُّ ظلًّا أثقل من جسده. المدينةُ تعصف بأصواتها: صفيرُ مكيفات، صفاراتُ إسعاف، قطاراتٌ تُصفِّد الحديد بالحديد. كلُّ شيء يتحرّك إلا قلبه؛ واقفٌ عند إشارة لا تغيّر لونها. واجهاتُ المحالّ تُبدِّل العروض في كل مساء، والوجوه تُبدِّل الأقنعة أسرع مما يُبدِّل الناسُ أحذيتَهم. كان يلتقط من هذا الكرنفال شذراتٍ مبعثرة: زاويةَ عين، سنًّا ذهبياً، كفًّا تُربّت على كتفٍ مجهول. أما اسمه، فكان أبعد من أن تطاله يداه. مدَّ يده إلى جيبه، فوجد قصاصةً ممزّقة: «الممرّ 12 – المقعد د». لا يتذكّر قاعةً ولا رحلةً. بعض الأصوات تلاحقه كأذيال أثواب قديمة: امرأةٌ تنادي «يا…» ثم ينقطع حبلُ النداء، ضحكُ رجالٍ لا يعرف سببَه، بكاءٌ مكتومٌ ينهض من مصعدٍ حين يُفتح على طابقٍ فارغ. كان يمدّ يده إلى هذه الأصوات كأنها حبالُ نجاة، فإذا بها تنكمش كخيوط دخان. عند بائعةِ الزعتر في الزاوية، كبّلته عينان عميقتان. قالت بصوتٍ يخرج من بئرٍ قديمة في صدرها: «تأخّرت». كاد يقول «أنا…» لكن الكلمة علقت في حلقه كسنٍّ مكسورة. عبرَ ومضى، وصدى الكلمة يطنُّ فيه: تأخّرت عن ماذا؟ عن حياةٍ أخرى؟ عن نفسه؟ كانت الساعةُ في الميدان متوقّفة على السابعة واثنتين وعشرين. والمدينةُ، على عجلتها، بدت معلّقة عند تلك الدقيقة. في مرآةِ واجهةٍ لامعة رأى وجهًا سُحبت منه الأسماء وبقيت فيه تفاصيل باردة: حاجبٌ أثقل من الآخر، ندبةٌ رفيعة تحت الذقن. قال لنفسه: «ربما كنتُ يومًا شخصًا ما»، ثم صحَّح: «ربما كنتُ يومًا أنا». رنّ الهاتف. لم يعرف النغمة ولا الرقم. رفعَه. صوّتٌ نسائيّ مباشر، بلا مقدمات: «أخيرًا… وجدتك». انقطع الخط. أعاد الاتصال؛ واجهه الصوتُ القاسي للآلة: «الرقم غير متاح». ظلَّ السؤالُ أشرس من الإجابة: كيف يجدك أحدٌ وأنت لم تجد نفسَك بعد؟ عند نهاية الشارع، ظهرت لافتةٌ لا يذكر أنه رآها من قبل: مقهى الباب السادس. بابٌ خشبيّ داكن تتوسّطه دائرةٌ زجاجية تُريك أكثر مما تريد أن تُرى. من الداخل نورٌ أصفر لا يتباهى. وضع كفّه على الخشب. كان دافئًا كأن يدًا سبقتْه بثوانٍ. همس: «إن لم أُسمِّ نفسي الآن فلن أفعل أبدًا». قال الحرف الأول: «أ…» وانفتح الباب. هواءٌ لا يشبه الشارع. رائحةُ بنٍّ محمّص تختلط بخشبٍ قديم وكتبٍ مهملة. كأن المكان لا يبيع القهوة فقط، بل يبيع ذاكرةً مركونة. الإضاءةُ وديعةٌ مائلة، والزمنُ يتردّد قبل أن يدخل. رجلٌ يقرأ جريدةً قديمة تتحدث عن زلزال وقع قبل عشر سنين. امرأةٌ شابّة تتأمّل فنجانًا فارغًا كأنه مرآة. نادلٌ نحيلُ الوجه، عيناه رماديتان لا تلمعان، قال بلا سؤال: «الزاوية لك». لم ينتظر اختيارَه، بل قاده بإشارةٍ ثابتة. جلس. الطاولةُ مستديرةٌ مخدوشةٌ بأظافرَ كثيرةٍ مرّت هنا. فوقها دَفترٌ جلديّ، كأنه في انتظاره منذ دهر. فتح النادلُ دفتَر الطلبات: «ماذا تشرب؟» أجاب بلا وعي: «قهوة سوداء». ابتسم النادل: «القهوة تأتي وحدها… أما الدفتر فلك». وحده مع الدفتر. وضع كفَّه عليه؛ حرارته غريبة، كأنّ فيه نبضًا. فتح الصفحة الأولى: كلمةٌ واحدة بحبرٍ باهت: أنا. التقط القلمَ المعدني الذي كان وجدَه عند بائع الأرصفة. أراد أن يكمل الجملة، لكن القلم لم يكتب. جافّ؟ أم أن الكلمات نفسها رفضت الخروج؟ بدا له أن الدفتر لا يريد أن يُكتب، بل يريد أن يُقرأ.
صوتٌ رقيقٌ خلفه. التفت. المرأة الشابّة اقتربت خطوةً، قالت وهي تنظر إلى الدفتر ثم إليه: «هذا ليس لك وحدك. كلُّ من جلس هنا كتب… وترك شيئًا من ضياعه». ابتسمتْ ابتسامةً حزينة وعادت إلى مكانها؛ كان فنجانُها ممتلئًا بعد أن كان قبل لحظةٍ فارغًا. عاد النادل ووضع فنجانَه. البخارُ يتصاعد في دوائر. لمح في سطح القهوة انعكاسَ وجهٍ لا يشبهه تمامًا، يبتسم له كأنه يعرفه. قبل أن يلمس الكوب، انقلبت صفحةٌ وحدها؛ مكتوبٌ فيها بخطّ واضح: كلُّ من جلس هنا كتب اسمَه… ثم نسيه. ارتجف. المقهى ليس استراحة؛ إنّه مصيدةُ ذاكرة. أغلق الدفتر. سمع خربشةً خفيفة تحت كفّه، ففتحه ثانيةً. صفحةٌ جديدة كُتِب عليها الآن: حين تُحاول أن تخرج، سيتأخّر الباب دقيقةً واحدة. لا تهلع. حدّق في العبارة طويلًا. رفع رأسه؛ عقربُ ساعةٍ معلّقةٍ خلف البار متوقّفٌ على السابعة واثنتين وعشرين. دخلت المرأةُ العجوز. لم يسمع وقعَ خطوها، لكنه شمَّ رغيفَ زعترٍ خارجًا تواً من فرنٍ بعيد. جلست قُبالته دون استئذان. تفرّسَت فيه كما تُحصي الأمُّ أصابع طفلٍ يعود من اللعب. همسَت: «كنتُ أعرف أنك ستأتي إلى الباب السادس. هنا يتركون أسماءهم». سألها: «أتعرفينني؟» قالت: «أعرف ما ضيّعتَ، لا من تكون». مدّت يدها إلى الدفتر. فتحتهُ على صفحةٍ في الوسط. كلمةٌ واحدة محفورة هذه المرّة بضغطٍ عميق: بيت. انزلقت الكلمةُ في صدره كحجرٍ يُرمى في بئر. رأى بابًا قديمًا مخلوعًا، لمسةَ يدٍ على كتفِه، ضحكةً تنكسر عند أقصى المطبخ، ظلَّ امرأةٍ تهتف باسمه الصغير الذي لم يعد يتذكّره. تراجع المشهدُ حين رفع عينيه؛ المقهى مكانه، والمرأةُ تنظر إليه والصمتُ بينهما أثقل من الكلام. قالت وهي تنهض: «تأخّرتَ بما يكفي كي لا يعودَ شيءٌ كما كان. ومع ذلك… كلُّ مَنْ يعثر على نفسه هنا، يعثر فقط على أثَرِها». ومضت كما دخلت: بلا ضجيج، تاركةً خلفها ظلَّ رائحةِ الزعتر. أعاد القلمَ إلى الدفتر. كتب تحت «أنا»: «أبحث عنّي». لم يجفَّ الحبر. ابتسم بحذر. انفتلتْ الصفحةُ التالية وحدها: ابحثْ بيدٍ لا ترتجف. رفع يده، فوجدها ثابتة. كانت هذه أوّل معجزةٍ صغيرة يشعر بها منذ زمن. كتب: «ما اسمي؟» توقّف القلمُ لحظةً، ثم عاد يكتب وحدهُ بحروفٍ تشبه خطَّه ولا تشبهه: اسمُك ما تقدر أن تنقذه من الحريق. أيُّ حريق؟ حاول أن يتذكّر. ومضةُ لهبٍ في بيتٍ قديم؟ حريقُ مدينةٍ أم حريقُ قلب؟ لا فرق. كلُّ حرائق الذاكرة تتّحد في لونٍ واحد. أراد أن يخرج. نهض. تُمسك يدُه المقبض. تذكّر التحذير: دقيقةٌ واحدة. عدّها مع نبضه. كان البابُ ثقيلًا، لا يفتح. في الثانيةِ الستين استجاب. خرج إلى الشارع. المطرُ خفيف. الساعةُ في الميدان لا تزالُ على السابعة واثنتين وعشرين. استدار ليتأكّد من اللافتة؛ كانت هناك: مقهى الباب السادس، لكن الباب مغلقٌ بسلسلةٍ صدئة ولوحٍ كتب عليه: «مغلق منذ سنوات». عاد قلبُه إلى صدره ثم سقط. التفتَ يسارًا. الزوايا نفسها، الضوء نفسه، لكن شيئًا غير مرئيّ تبدّل؛ كأن المدينة انزلقت نصفَ درجة عن محورها. عاد إلى الباب. طرق. لا شيء. وضع جبينَه على الزجاج الدائري. رأى ظلالًا في الداخل: طاولةً مستديرة، دفترًا جلديًا، فنجانًا يتصاعدُ منه بخارٌ خفيف. تبخَّر البخار فجأةً كأن شخصًا أطفأ شمعة. تراجع خطوةً، فاستقرّ ظلّه على الخشب كختمٍ أسود. مشى بلا اتجاه. المدينةُ دائرةٌ كبيرةٌ بوسطٍ لا يُمس. كلَّما حاول أن يبتعد عاد إلى الميدان نفسه. رأى النادل يقف على الرصيف المقابل، بلا مئزرٍ هذه المرّة، يضع يديه في جيبيه وينظر إلى السماء. عبر إليه. سأله: «المقهى مغلق… لكنّني كنت داخله قبل قليل». ابتسم النادل بثقةٍ باردة: «الناسُ يدخلونه حين يقرّر البابُ أن يتذكّر». قال بلا صبر: «ومتى يتذكّر؟» هزَّ كتفيه: «حين تكتب شيئًا يستحقّ أن يُقرأ». عاد إلى الكُرّاس في جيبه. لم يتذكّر أنه حمله معه، لكنه كان هناك. فتحه. الصفحةُ الأخيرة تلمع. مكتوبٌ فيها بخطّه: إلى مَنْ يجد هذه الأوراق: لقد ضعتُ منذ زمنٍ بعيد، وما تقرؤونه ليس كلماتي… بل كلمات رجلٍ جلس هنا بالأمس. ارتجف. «بالأمس؟» أيُّ أمس؟ ومن هو الرجل؟ صوتُ الهاتف مرةً ثانية. الرقم مجهول. «أخيرًا… وجدتك». قال بسرعةٍ كالغريق: «من أنت؟» أجاب الصوت: «التي تركتُ لك الزعترَ على الطاولة». التفتَ حوله؛ لا طاولة. «أين أنتِ؟» قالت: «في المكان الذي لا يفتحُ إلا لمن ضيّعَ اسمَه». وانقطع الخط. رجع إلى الباب. السلسلةُ صدئةٌ كما هي، واللوحُ كما هو. لكنّ الدائرة الزجاجية صارت مرآةً تُعيدُ إليه وجهًا آخر. وضع أنفاسَه فوقها. ضبابةٌ خفيفة. كَتَبَ عليها بإصبعه: أنا هنا. مسحَ الزجاجُ العبارةَ كما تمسح الريحُ آثارَ الطيور. في الليل، حين نامت الأرصفة، جلس تحت مظلّة موقف حافلاتٍ فارغ. فتح الدفتر. كتب صفحاتٍ طويلة عن المدينة، عن الساعة المتوقّفة، عن امرأة الزعتر، عن النادل، عن القهوة التي تعكس وجوهًا لا يعرفها. كتب حتى هدأت يده. أغلق الدفتر ووضعه تحت خدّه كوسادة. حلمَ ببيتٍ له بابٌ سليم، وأمٍّ تقول له اسمه. صحا على أوّل قطرة مطر. فتح الدفتر. كانت الصفحات بيضاء. لا أثرَ لكلماته. فقط في الطرف السفلي لسطرٍ ناءٍ كلمةٌ صغيرة: اكتبْ كأنك لا تريد أن تتذكّر. عاد الصباحُ إلى المدينة لا مبالياً. كلُّ صباحٍ هنا يشبه اعتذارًا متأخرًا. جرَّ نفسه إلى الساحة. الساعةُ لا تزال على السابعة واثنتين وعشرين. ابتسم على يأسه. في هذه اللحظة، مرَّ طفلٌ يحمل طبشورًا أبيض. رسم دائرةً على الأرض ووقف داخلها. تذكّره من الأمس. اقترب منه. سأله: «لماذا ترسم دائرةً وتدخلها؟» قال الطفل: «كي لا يضيع اسمي». سأل: «وما اسمك؟» أجاب بثقة: «اسمي يختلف كلَّ يومٍ لكنّي لا أنساه داخل الدائرة». قال: «وماذا عن أمس؟» هزَّ كتفيه: «أمسُك أنتَ». لم يعد يحتمل ألغازَ الأشياء. عاد إلى النادل. وجده يمسحُ طاولةً أمام بابٍ مغلق لمطعمٍ آخر. «تعال معي»، قال له النادل دون أن يلتفت. تبعهُ إلى زقاقٍ ضيقٍ تنبتُ فيه نباتاتٌ في علبِ طلاءٍ فارغة. في نهايته بابٌ خشبيّ بلا لافتة. فتحهُ النادل بمفتاحٍ صدئ. كان الداخلُ غرفةً صغيرةً بكرسيٍّ منفردٍ وطاولةٍ خالية. «اجلس»، قال. «هنا تكتب مرّةً واحدةً ما لن تُعيد كتابته. إنْ أصبتَ الفكرةَ، فتح البابُ السادس وحده. وإن أخطأتَ… بقيتَ تدور». ابتلع ريقه. «وما الفكرة؟» قال النادل: «أن تقول الحقيقة حين تكون آخرَ مَنْ يسمعها». جلس. أمامه ورقةٌ واحدة وقلمٌ مماثلٌ لذاك المعدنيّ، محفورٌ عليه حرفٌ وحيد. وضع طرف القلم على الورقة. سمع في رأسه أصواتًا كثيرةً تتزاحم: «أنا ابنُ بيتٍ لم يبقَ منه غيرُ الباب»، «أنا اسمٌ يتيمٌ في سجلٍّ ضاع»، «أنا ظلٌّ يبحثُ عن صاحبه»، «أنا…» رفعتْ عبارةٌ واحدة رأسَها بين العبارات: أنا من كتبني الآخرون. كتبها. لم يُفكِّر. ولمّا رفع القلم، شعر أن الغرفةَ تُزيحُ جدارًا غير مرئيّ. فتح النادل البابَ بلا مفتاح. قال وهو يبتسم للمرة الأولى: «الآن يمكن أن تتذكّرك». خرج. الممرُّ يفضي، بلا التفات، إلى مقهى الباب السادس مفتوحًا وناصعَ الضوء. دخل. في الزاوية طاولته. على سطحها الدفترُ الجلديّ. فتحه. الكلمةُ الأولى كما هي: أنا. تحتها جملةٌ بخطِّه الذي كتبه قبل قليل في الغرفة: أنا من كتبني الآخرون. انفلتت ثالثةٌ مثل خيطٍ طالَ شدُّه: وأنا الآن أكتب مَنْ سيأتي. أحسَّ أن شيئًا يتحرّر في صدره. ليس اسمًا كاملاً، ولكن حرفًا يُفتح من الداخل. كتب حرفًا واحدًا تحت «أنا». بدا واضحًا، طفلًا خرجَ لتوّه إلى الضوء. نهض. لم يطلب قهوةً، ومع ذلك وجد الفنجانَ أمامه. في سطحه انعكاسُ وجهٍ يشبهه أكثر من أيِّ مرّة. رفعه. قبل أن يشرب، سمع بابَ المقهى يُفتح. دخل رجلٌ يجرُّ ظلًّا أثقل من جسده. نظر إليه، فابتسم له بلا سبب. ذهب الرجلُ إلى الزاوية الأخرى. جلس. وضع النادلُ أمامه دفترًا شبيهًا. همسَ لنفسه: «هكذا تبدأ الحكايات التي لا تنتهي».أراد أن يجرّب الباب وهو من الداخل. نهض. عند العتبة، لمح على الجدار لوحًا صغيرًا من الخشب محفورًا عليه: الكرسيّ القريب من النافذة محجوزٌ لمن فُقدوا ولم يُعثر عليهم. التفت إلى كرسيّه. النافذةُ تُشرِّعُ الضوء فوقه. ابتسم بسخريةٍ مريرة: «إذًا كنتُ أجلسُ في المكان الخطأ من العالم». خرج إلى الشارع. الساعةُ في الساحة تتحرّك الآن إلى السابعة وثلاثٍ وعشرين. أحسَّ أن الدقيقةَ الإضافية سُلِّمَت إليه هديةً صغيرة. كان يريد أن يضحك. سمع الهاتف للمرة الثالثة. «أخيرًا… وجدتك». قال بثبات: «وأنتِ؟» أجابت: «أنا من كانت تقول لك: تأخّرت». قال: «أعرف الآن». صمتتْ، ثم قالت: «تعال إذا شئت. الباب مفتوح». «أيُّ باب؟» قالت: «بابٌ ليس من خشب. بابٌ يُفتح حين تترك صورةَ وجهك على صفحةٍ لا تريدُ أن تحتفظ بك». عاد إلى المقهى ليشكر النادل، لكنّه لم يجد أحدًا. الطاولاتُ خاليةٌ إلا من غبارٍ رقيقٍ يلمعُ على الضوء. الكُرّاس الجلديّ ليس على الطاولة. اقترب. على الخشب، كلمةٌ محفورةٌ بعمقٍ لم يره من قبل: ضياع. وضع كفَّه فوقها. كانت باردةً فيما الهواءُ دافئ. اتّجه إلى البار. خلفه مرآةٌ طويلةٌ تعكس القاعةَ كلَّها. لم يظهر فيها انعكاس جسده. تراجع خطوةً، فخطت المرآةُ خطوةً معه. مدَّ إصبعه إلى الزجاج. لم يلمس صلابة. لمس ماء. غاص طرفُ إصبعه ثم عاد مبتلًّا. مرَّر كفَّه بحذرٍ؛ انشقّت المرآةُ مثل سطح بحيرةٍ في ليل. رأى داخلها الطاولةَ التي كان يجلس إليها منذ لحظات، الدفترَ مفتوحًا، والقلمَ فوق الصفحة. كانت الصفحةُ التي تُرى في عمق الزجاج تحمل جملةً طازجة الحبر: إلى من يجد هذه الأوراق… لقد ضعتُ منذ زمنٍ بعيد، وما تقرؤونه ليس كلماتي، بل كلماتُ رجلٍ سيقرأها الآن. نظر حوله. لا أحد. نظر إلى المرآة. رأى النادل يدخل القاعة التي داخل الزجاج، يتقدّم إلى الطاولة، يلمس الدفتر، يقلب الصفحة. رأى نفسه – نعم، نفسَه – يقف حيث يقف الآن، ينظر كما ينظر الآن. رفع النادل رأسَه من داخل الزجاج وحدّق فيه مباشرةً. ثم كتب النادل جملةً أخرى في الصفحة: إذا قلبتَ هذه الورقة الآن… ستختفي. لم يمدّ يده. كان يعرف أن في الاختفاء نوعًا من العدالة المتأخرة. لكنه أراد أن يجرّب الحقيقة حين يكون آخر من يسمعها. مدَّ يده. قلب الورقةُ التي في الداخل؛ ارتجَّ الهواءُ. أُطفئت المصابيحُ دفعةً واحدة. سمع في أذنه دقّةً واحدةً للساعة، ليست في الساحة هذه المرّة، بل قريبةٌ كنبضة. ثم سكون. حين دخلت المرأةُ الشابةُ بعد دقائق، وجدت المقهى فارغًا. مسحت بيدها الغبارَ عن الطاولة القريبة من النافذة. وجدت دفترًا جلديًا. فتحته. كانت الصفحةُ الأولى تحمل كلمةً واحدة: أنا. تحتها حرفٌ طفلٌ يبتسم. ابتسمت له وردّت القلمَ إلى مكانه. سمعت من الشارع بائعةَ الزعتر تقول بصوتٍ هادئٍ كدعاء: «لا يموتُ مَنْ ضاع… إنما يزهر في مكانٍ آخر». جاء النادلُ من الباب الخلفي، كأنه أتى من حلمٍ لم يُحكَ. نظر إلى الكرسيّ المحجوز. كان عليه طبقةُ غبارٍ أسمك من أيِّ وقت. هزَّ رأسه. مرَّر كفَّه على اللوح الخشبيّ فوق الجدار. لمس الكلمةَ المحفورة: ضياع. خُيِّل إليه لوهلةٍ أن الكلمةَ صارت أدفأ. ابتسم ابتسامةً لا تشبه الوقائع. ثم علّق لافتةً صغيرةً عند الباب: مفتوح لمن يكتب اسمه مرةً أخيرة. في الخارج، تحرّكت الساعةُ إلى السابعة وأربعٍ وعشرين. مرَّ الطفلُ بدائرةٍ طبشوريةٍ جديدة. كتب داخلها اسماً لم يره أحد. رفَع رأسَه إلى النافذة. كان هناك ظلٌّ يلوّح له. ابتسم ومدَّ يده عبر الهواء. لم يلمس شيئًا؛ لمس شيئًا. واصل المشي. في اليوم التالي، حين سأل أحدهم بائعةَ الزعتر عن الرجل الذي كان يسألها: «أتعرفينني؟» قالت وهي ترتّب أكياسَها الصغيرة: «الذي تأخّر؟ لا… لم يتأخّر. وصل. لكنّه لم يَعُد بحاجةٍ إلى سؤال». ثم أغلقت عينَيها لحظةً، كمن يضع يدًا على الاسم حتى لا يهرب. في آخر الليل، حين هدأ كلُّ شيء، نهضت كلمةٌ واحدةٌ محفورةٌ على الخشب وغمغمت في الظلام: ضياع. كان صوتُها يشبه حفيفَ شجرة ليمونٍ يتيمةٍ في ساحة مدرسة. وكان في الحفيفِ وعدٌ جديد: أن كلَّ مَنْ يضيعُ، إنْ كتبَ نفسه مرةً، لن يختفي… بل سينعكسُ، كالقمر، على سطحِ قهوةٍ تُقدَّم في الباب السادس، لمن يأتي متأخرًا بما يكفي ليصل في الوقت
#رانية_مرجية (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقال رأي: لا تغترّوا بالباطل
-
هلوسة المقبرة
-
متوحدين ولكن
-
بين الموروث الديني والموروث الثقافي… أين نقف اليوم؟
-
شكر للأديب والشاعر والصحفي العراقي كاظم حسن سعيد
-
أنفاس فلسطين – رِنغا هايكو
-
د. عادل جودة - تحليل أدبي لـ -هايبونات المحبّة- للشاعرة راني
...
-
القتل فخرًا
-
رهبان ولكن حين تتحوّل القداسة إلى لعنة
-
سماء حديدية
-
انفصام – قصة رمزية فلسفية
-
الدروز بين “حلف الدم” و”حلف الحياة”: قراءة في نص سعيد نفاع
-
خوة وأكثر إلى إخوتنا الدروز في فلسطين والجولان… أنتم الهوية
...
-
الأديبة السورية بسمة الصباح يا جبل ما يهزك ريح
-
فقدتُ طلقة واحدة
-
ما يدور في السماء: اعترافات الكائن الأزلي
-
سيكولوجيا الأحلام: حين يتكلّم اللاوعي بلغة الرموز
-
رام الله ، … مدينة القلب والذاكرة
-
الشيطان يضحك
-
هلوسة الجنة
المزيد.....
-
-مذكرات في فلسطين وإسرائيل-… كتاب يوثق تجربة مصرية في غزة ما
...
-
مسسلسل -The Studio- الأكثر فوزًا بجوائز -إيمي- للفنون الإبدا
...
-
حبّ تحت التقنين
-
هذه هي الأفلام التي يفضلها بوتين؟
-
فيلم -صوت هند رجب- يفوز بـ-الأسد الفضي- في مهرجان فينيسيا
-
WSJ: غزة أصبحت نقطة استقطاب في عالم الموسيقى العالمي
-
الشاعر الإيطالي جوزيبي كونتي: -طوبى لعينيْك يا أَنس الشرِيف-
...
-
ملحمة جديدة تجمع سوبرمان بعدوه.. جيمس غان يكشف تفاصيل فيلم -
...
-
-فلسطين 36-: فيلم لفهم انعكاسات الانتداب البريطاني على تاريخ
...
-
صحف عالمية: الغزيون تعبوا من النزوح وظاهرة دعمهم تمتد إلى عا
...
المزيد.....
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|